12 شاعرة عربية في دار الفنون بدمشق
«شاعرات عربيات في دمشق» عنوان لافت، وان لم يكن المهرجان الذي نظمه ملتقى «48 ساعة شعر» في دمشق، يسعى الى احياء مقولة «الشعر الأنثوي» بحسب ما عبّر المشرفون عليه. هذا المهرجان الذي اقتصر دورته الأولى على الشاعرات سيفتح أبوابه لاحقاً على الشعر أياً يكن جنسه، مبتعداً عن أيّ «تمييز» بشريّ.
الفكرة جميلة فعلاً: أن تلتقي شاعرات عربيات من أجيال مختلفة وآفاق مختلفة ويتشاركن في إحياء أمسيات ويقرأن بحريّة خارج سلطة المنابر المعهودة. والأجمل في هذه التظاهرة أنها تعيد الى الذاكرة المعركة التي خاضتها الشاعرة العربية لا سيما أواسط القرن المنصرم لتفرض صوتها، كشاعرة وشاعرة فقط. هذه التظاهرة ليست إلا توكيداً لسقوط مقولة «الشعر الأنثوي» في انفتاحها على النصّ المتحرّر من «قيود» الأنوثة والذكورة في آن واحد. فالشاعرات العربية بتن في صميم الحداثة الشعرية ومساهمتهن، في ترسيخها لا تختلف عن مساهمة الآخرين. وقد ساعد على الغاء التخوم بين هذين القطبين، التوازي بين الأصوات وكذلك التناغم والتآلف لا سيما بعدما تحرّر الشعر الراهن من عبء الريادة، وأصبح وقفاً على الحركات والموجات التي تضمّ أسماء من أجيال مختلفة.
لم يعد لقاء شاعرات عربيات في مهرجان خاص، مدعاة لإثارة «الفتنة» القديمة التي جعلت الشاعرة على هامش الريادة والتحديث وسواهما من المقولات التي انحسرت الآن مبدئياً. بل ان مثل هذا اللقاء أصبح حافزاً على مقاربة الشعر في تعدّده وفي اختلافه بعضاً عن بعض. ولعلّ لقاء كهذا قد يكون خير دليل على سقوط عبارة «الشعر الأنثوي» التي لم يعد ممكناً قبولها والأخذ بها، بعدما أضحت تقال في جريرة الانتقاص وربما السخرية من المرأة – الشاعرة. وقد تكون هذه العبارة بمثارة حجاب يعزل المرأة – الشاعرة ويحاصرها في موقع هامشيّ، مثلما حصل في الحقبات السابقة.
لقد حرّرت الحداثة وما بعدها الشاعرة من ربقة التهميش و «الإلغاء» والعزل، مثلما ساهمت الشاعرة بدورها في تحرير الحداثة من سلطتها الذكورية. وعوض الكلام عن «الشعر الأنثوي» راج الكلام عن «الأنثوي» في الشعر واللغة... وكان الشاعر الفرنسي بودلير من أوائل الذين بحثوا عن هذه الأنثوية في القصيدة كما في الذات، الذات الذكرية المتفلّتة من قيودها. هذه الأنثوية التي لا يستطيع الشاعر الحديث أن يلغيها من أعماقه ومن لا وعيه هي التي تمنح شعره تلك الجذوة الداخلية وتلك الكينونة الغامضة.
لم يُسمّ شعر الشعراء – الذكور مرة شعراً «ذكورياً» إلا إذا قُصِد به الشعر «الفحولي» – ما أسمج هذا النعت – الذي يقوم على العنجهية والنرجسية المريضة والانتفاخ. أما شعر الشاعرات – النساء فطالما سمّي شعراً «أنثوياً» حتى وإن تخطت بضع شاعرات مراتب الشعراء الذكور. حتى في عصر النهضة هُمّشت الشاعرة وأُخْفِت صوتها شعرياً، فيما احتل الشعراء الواجهة. لكن الحداثة ما لبثت أن انتقمت للشاعرة وحملتها الى الواجهة مثلها مثل قرينها. وقد لا يكون نموذج نازك الملائكة هنا خير دليل على هذا الانتقام على رغم دورها الريادي ومزاحمتها الرواد على تأسيس القصيدة التفعيلية الحرّة. فقد تكون نازك الملائكة الشاعرة دون مرتبة نازك الملائكة الناقدة. وما كتبته في النقد بدا أهمّ ممّا كتبته في الشعر. وان كانت نجحت في وراثة المدرسة الرومنطيقية فهي لم ترتقِ شعرياً الى مصاف شاعرات أعقبنها ولم يكنّ رائدات. والأسماء غير قليلة في هذا القبيل.
تقول ناتالي ساورت: «عندما أكتب، لا أكون رجلاً ولا امرأة...». هذا القول يمكن أن تردّده اليوم شاعرات عربيات غير قليلات مثلما يمكن أن يردّده شعراء عرب غير قلائل أيضاً. وكما قال لويس أراغون مرة: «المرأة هي مستقبل الرجل» تستطيع أي شاعرة حقيقية أن تردّد هذا القول وبلا تردد. ويمكنها أن تقول أيضاً: «الرجل هو مستقبل المرأة» من غير أن يُحسب هذا القول ضدّها. ولئن كان «عبقر» شيطان الشعر عند العرب ذكراً فإن ربة الشعر لدى الغرب، منذ العصر الإغريقي، امرأة. هكذا يتساوى عبقر وتلك الآلهة الأسطورية القديمة في القصيدة الحديثة التي لا يمكن التمييز فيها بين رجع ذكري أو رجع أنثويّ.
ما أبشع الكلام حقاً عن شعر «أنثوي» وشعر «ذكوري» وكأن واحدهما نقيض الآخر أو غريمه أو قرينه... هذان النعتان يجب أن تتخلّص الثقافة العربية منهما، بل عليها أن تتحرر من هذه «الذكورية» الخاوية التي ما برحت – للأسف – تحكم بعض النظريات والمواقف.
هكذا لا تمكن مقاربة مهرجان «شاعرات عربيات في دمشق» إلا كمهرجان شعري يمثل أجيالاً وموجات، لا اختلاف فيها بين صوت امرأة وصوت رجل.
عبده وازن
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد