غازي أبو عقل: حول لغة الجرائد وذبابة المواصلات
الجمل-غازي أبو عقل:
ساعة الذئب
لا مناص لي من الاعتراف بكوني مدمناً.. على واحدة من الموبقات غير المؤذية جسدياً، هي قراءة الصحف والمجلات. واكبني هذا الإدمان منذ نعومة أظافري لأسباب موضوعية لا فائدة من عرضها هنا. ومع وجود كثيرين ممن لا يثقون بالإعلام المكتوب ويعدونه "ثقيل الظل" بعد أن أدمنوا الإعلام المرئي لأنهم لا يصدقون إلا ما يرون، بقيتُ في صفوف المدمنين على المكتوب بحكم العادة ربما. وآخر عهدي "بالدراما المرئية" كان مع إنتهاء مسلسلات (حارة كل مين ايدو إلو) التي كانت بلا باب. قل هذا حديث آخر كتبتُه ذات يوم ليس ببعيد أبديت فيه وجهة نظري في المسألة الدرامية المتلفزة، رفضت الصحافة المكتوبة نشره في حينه.
لن أتناول لغة الصحافة بالطريقة التي تناولها بها الشيخ ابراهيم اليازجي وابراهيم السامرائي (كما جاء في مقالة السيد محمد الغزي الكاتب التونسي في الحياة منذ أسابيع) فهذا أمر لا أعرف الخوض فيه.. ما أود قوله أكثر بساطة يتلخص في الإشارة إلى بعض الطرائف التي يسهل اصطيادها في المقروء من الصحف، وذلك عملاً بالحكمة القائلة: اهتموا بالتفاصيل...
من هذا القبيل مسألة ساعة الذئب، وجدتها في زاوية يومية من جريدة دمشقية بقلم أديب معروف، يعاني من الأرق على ما يبدو ولا يريد تعكير مزاج الدروايش بسيرة تلك الفئة التي تملأ جيوبَها، لذلك ذكّرنا ببعض الشعراء القدامى ومواقفهم من الليل وقال: "يبدو أن الشياطين لا تحب التجوّل في النهار!... وأكثر ما تأتي الشعراء في الساعة الأولى وما يليها بعيد منتصف الليل... وهذه الساعة يُطلق عليها مُصطلح (ساعة الذئب)... ربما لأن عواء الذئاب يشتد في مثل هذه الساعة".
فاجأتني كلمة المُصطلح التي سبقتْ الذئب، لذلك أستأذن الأديب المعروف بتدقيق هذا المصطلح الذي جاءنا – في حدود علمي – من الفرنسية، وفيها صيغة دقيقة لوصف "ساعة الغَسَق"، وهي أول ظلمة الليل فيُقال – في الفرنسية – الساعة بين الكلب والذئب –
Entre chien et loup، أي عندما تكون الكلاب قد عادت من الرعاة والقطعان إلى الحظائر، وبدأت الذئاب بالخروج من أوجارها لتبحث عما تصطاده، لأن تلك الساعة تقل فيها الرؤية ويصعب تمييز الأشياء، فتستغلها الذئاب لزيادة حظها من الغنائم. من هنا يبدو تفسير أديبنا للأمر في غير ساعته.. أما سبب اهتمامي بمسألة هذه الساعة الحاسمة فمردُّهُ إلى كوني محرراً في جريدة "الكلب"، وجدت حَقَّه مُنتَقصاً عندما أعطى أستاذُنا الأديب الساعةَ كلها إلى الذئب، في حين ينبغي قسمتها بالتساوي بين الكلب والذئب حرصا على العدل.
لغز فلسفة القرون
تجتمع في واحدة من جرائد المحافظات أكبر كمية من "الطرائف" اللامعقولة التي يمكن حشدها في العدد الواحد، وهذا الحشد مستمر بلا توقف.
من الملامح المميزة لهذه الجريدة، وجود شاعر مناوب هو نفسه في الأعداد كلها، يؤمن بأن العناية قد اختارته لرسالة سامية قد تكون إقناع الأجيال الصاعدة والآفلة بضرورة الفرار من قراءة الشعر إلى أي عمل آخر.
قرأت بالأمس القريب للشاعر المناوب "شَجرٌ يُسافر.. والقطار ورق"... لكنني ترجلتُ من القطار لما وصلتُ إلى هذه المحطة: "وحبيبتي لغزٌ لفلسفة القرون يُحير العلماء". ظننتُ للوهلة الأولى أن حبيبته واحدة من حفيدات سقراط شخصياً، غير أن التأمل العميق بهذه الكلمات الست أخذني إلى مكان آخر، بعد أن اكتشفتُ دهشتي وعجبت لهذا التركيب اللغوي المتفرد... ذلك أن استدعاء مفردة "الحبيبة" ومفردة "القرون" معاً حتى لو فصلت بينهما الفلسفة، قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه لدى الشاعر، لأن سوء نية القراء أمثالي في التعامل مع اللغة حمّالة الأوجه لا يمكن إخفاؤها. ومسألة العثور على تأويل مُشترك "لفلسفة القرون" يكون هو نفسه عند كل قاريء تبقى مسألة غير محسومة.. لماذا لم يكتب "فلسفة العصور" مثلاً أما كان خَفّف وطأة الكلمة على الحبيبة وعلينا؟.. حتى لا نقول على نفسه أولاً.
بين الساق والفخذ
وقعَ نظري في ملحق ثقافي يُوزع مجاناً مع الجريدة الأم، على قصة عنوانها مؤلَّف من كلمة وحيدة لم أفهم معناها، فتفاءلتُ خيراً ورحت أقرؤها. تبدأ القصة بهذا السطر: "الشمس الذهبية ترقص وتدور بتنورتها القصيرة فتنكشفُ ساقيها..." توقفتُ عن القراءة فوراً، لأن ضربتين مُتزامنتين على أي رأس، مهما اشتدت صلابته، لا بُدَّ لهما من شَجّه... سألتُ نفسي: طالما أن التنورة قصيرة فهي تكشف عن الساقين حتماً وعن ركبتيهما، فكيف غاب الأمر عن ذهن الكاتبة التي لا بد من أنها ارتدت تنورة قصيرة ذات يوم, أما تبادر إلى ذهنها أن الشمس عندما ترقص وتدور بتنورتها القصيرة «تنكشف فخذيها» لأن انكشاف «ساقاها» يصبح من قبيل التوتولوجيا, كما يقول المثقفون, أي من قبيل تحصيل الحاصل... أما أن تكتب فتنكشف "ساقيها" معطية لنفسها الحق في كسر رأس الفاعل، فهذا ما هالني، بخاصة بعد كسر واحد من أساتذتنا المرموقين رأسَ التاريخ، بالأمس القريب. إذا استمرت الحال على هذا المنوال، فهل نتوقع هبوط أرقام توزيع الصحافة المقروءة نتيجة لفرار القراء منها خوفاً على رؤوسهم؟
أميّة الروائي ... الصيني
قرأتُ لناقدٍ ألماني في جريدة عربية، مقالة وجيزة مفيدة عن الرواية والروائيين في الصين، جعلتني أشعر بضرورة نقل فقرة منها التزاماً بطلب العلم ولو في الصين. وهذا نصها: "تتمتع الرواية بمكانة عالية، على خلاف الشعر، وهي أقل جودة من الشعر بما لا يُقاس. وما يقوله الزملاء النقاد الصينيون على حدة أشد قسوة مما أقوله. وهم يقولون إن معظم الروائيين المعاصرين أُميّون تماماً، ويفتقرون إلى الثقافة الأدبية، ولا يلمون باللغة. ولا يتكلمون لغةً أجنبية واحدة، وجهلهم بالأدب الأجنبي يكاد يكون مطبقاً. والروائيون الصينيون على قول نقادهم، يشبهون على المسرح الأدبي العالمي مَن يسمونهم في الصين "توباوزي" أي المهاجرين الذي تركوا الريف إلى المدن الكبيرة ويشكون من مشكلات التكيف".
أمَا مِن مترجمٍ ألماني للروايات المحلية ينقل إلينا بأمانة ما يقوله الروائيون المحليون على حِدة بصرف النظر مؤقتا عما يقوله النقاد و"المقرّقون".
ملحوظة لا صلة لها بما قبلها
نشرت جرائدنا بإسهاب أنباء عن تفاعلات مسألة تسيير حافلات "استثمارية" على خط حرستا دوما، تمهيداً لسحب "الحويفلات" المسببة للازدحام والتلوث. وشاهدت في جرائدنا صور السائقين "المُقَالين" وقرأت مطالبهم المحقة رغم كل شيء. وتساءلت لماذا لم يخطر ببال الإعلام المكتوب المطالبة بتجميع السائقين المقالين أو المُرّحَّلين إلى خطوط أخرى، في جمعيات أو شركات تقوم – بالتعاون مع الجهات الرسمية – بتأمين حافلات يملكها أو يديرها السائقون المطالبون بحقوقهم، لأنهم ليسوا مسؤولين عن سياسة استيراد الحويفلات – أو الذبابات البيضاء كما سُميت في المحافظات المنتجة للحمضيات، تيمناً باسم تلك الحشرة التي نغَّصت حياة المزارعين سنوات طويلة. بالإضافة إلى إيجاد طريقة صحيحة للتعامل مع الحويفلات القديمة.
ينبغي جمع كل عدة مئات من السائقين في "شركة قابضة" تقبض على مصالح هؤلاء الناس الذين يؤدون خدمة عامة ضرورية وتدافع عنهم. ألا يوجد من يُذكّر الإعلاميين الذين كانوا يقولون "المُستَغِل" فأصبحوا يقولون المُسَتثمِر، لماذا لا يعودون إلى استعمال المفردة القديمة؟
الجمل
التعليقات
عطفاً على ما ورد
إضافة تعليق جديد