نزهة المتنقل بين العنعنة والنقل إلى مسارح المنطق والعقل
الجمل ـ بشار بشير: هل يكفي الجمل ؟ أغلب الظن أن قوافل من الجمال لن تكفي لتعديل طريقة تفكيرنا و إنتاج طريقة تفكير اخرى متوافقة مع العصر وعلومه , فلم يعد من المجدي والمنطقي و " الشرعي " الإعتماد على مقولة أن السلف الصالح قد درس و شرَّعَ وأجاب على كل شيء وما علينا إلا إتباعه فيما خلفه لنا . آن الآوان لكي نعمل في حاضرنا لبناء مستقبلنا بدل الغرق في نقاش ماضينا لكي نخرب مستقبلنا بعد أن نختلف عليه وعلى ماضينا . كيف لا يزال من المقبول الإحتكام لكتاب مثل {الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكواكب وعلى جريان الشمس والقمر وسكون الأرض } الذي كان موضوع المقالة السابقة أو الإحتكام لكاتبه وفتاويه . كيف يمكن الإحتكام إلى كتاب مثل {الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع } لمؤلفه : {الألمعي الفاضل واللوذعي * الكامل قطب الأقطاب الشيخ محمد الشربيني الخطيب غفر الله له ونفعنا به وبعلومه آمين } . والذي يعلق فيه ويشرح {مختصر الإمام العالم العلامة، الحبر البحر الفهامة، شهاب الدنيا والدين، أحمد بن الحسين بن أحمد الأصفهاني الشهير بأبي شجاع، بإعتباره أبدع مختصر في الفقه صنِّف }
يرد في الكتاب المذكور ضمن ما يرد بعض الأحكام الشرعية عن أكل ميتة الآدمي (نعم لا تسغربوا ) فيجيزها في حال الإضطرار {على أن لا يكون الميت نبياً فلا يجوز الأكل منه جزماً , فإن قيل: كيف يصح هذا الإستثناء والأنبياء أحياء في قبورهم يصلون كما صحت به الأحاديث . أجيب يتصور ذلك من مضطر وجد ميتة نبي قبل دفنه } لله در أبي شجاع لم يترك شاردة إلا ودرسها وأجاب عنها , كتب كتابه هذا ربما بعد ألف سنة من وفاة خاتم وآخر الأنبياء ومع ذلك لا يزال مصراً على إستنباط حكم شرعي لإمكانية أكل جثة نبي , ليته شرح لنا كيف وأين يمكن أن توجد ميتة نبي الآن . ويتابع في أحكام أكل ميتة البني آدم فيقول : { إذا كان الميت مسلماً والمضطر كافر فإنه لا يجوز الأكل منه لشرف الإسلام } لاحظوا حتى الكافر عليه أن يعرف ويعمل بالأحكام الإسلامية التي فسرها أبي شجاع .
ويضيف { وحيث جوزنا أكل ميتة الآدمي لا يجوز طبخها ولا شيَّها لما في ذلك من هتك لحرمته } مرة ثانية لله درك يا أبي شجاع لم تترك تفصيلاً لم تهتم به , ولكن ألم يكن من المناسب إيجاد حل شرعي لطبخ الميتة فأكلها نيئة قد يسب آلاماً في البطن " للمضطر " . هذا الكتاب كما عرفت ( دون أن أتأكد ) يُدرس في الثانويات الشرعية للأزهر , أي أنه ليس كتاب يشتريه المهتم بموضوعه , بل هو منهج سوف يتربى عليه طلاب "العلم" الذين سوف يفتوننا في ديننا ودنيانا . في مقدمة الكتاب يرد ما يلي : { قيل الكتب المنزلة من السماء إلى الدنيا مائة وأربعة: صحف شيث ستون، وصحف إبراهيم ثلاثون، وصحف موسى قبل التوراة عشرة، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان. ومعاني كل الكتب مجموعة في القرآن، ومعاني القرآن مجموعة في الفاتحة، ومعاني الفاتحة مجموعة في البسملة، ومعاني البسملة مجموعة في بائها، زاد بعضهم: ومعاني الباء في نقطتها } أتركوا ما بأيديكم وانكبوا على نقطة الباء درساً وتمحيصاً , ولا تنسوا كم أنتم محظوظين لأن بعضاً من سلفكم لم يلحق القرآن منقوطاً لذلك فاته ما في نقطة الباء من معاني .
تستغربون من هذا الكتاب فما رأيكم إذاً بكتاب { فقه الفضاء } وهو كتاب يقول عنه مؤلفه أنه : { يبرز سعة التصور الفقهي .. ومواكبته للتصور الحديث وللعلم الحديث .. ويبرز إمكانية تطبيق الفقه الإسلامي في كل الكون } .
ومما يرد في هذا الكتاب : {إذا وجد في بعض الكواكب أو النجوم مخلوقات عاقلة ( هو يفتي في أمور الفضاء دون أن يعرف الفرق بين الكواكب والنجوم وأن النجوم ليست مكاناً لعيش أي مخلوقات) مالكة لبعض الحاجات فمقتضى الإحتياط صيانة هذه الملكية , إلا إذا ثبت كونهم غير مسلمين } .
ويرِد فيه : أنه على رائد الفضاء أن يحمل معه في مركبته ماءً للوضوء فإن كان من الصعب حمله أو إستعماله للوضوء بسبب عدم وجود جاذبية مما يجعل قطراته تتطاير وقد تسب ضرراً فيجب حمل بعض التراب للتيمم !! {و الأحوط وجوباً عدم الذهاب إختياراً إلى أي مكان أو كوكب تتعذر فيه بعض الشرائط الإعتيادية للصلاة كالطهارة والوقت والقبلة } كم هو مريح العمل بفتاوي سد الذرائع .
يخوض الكاتب في كتابه هذا في الأحكام الشرعية لأكثر ما نعرفه من صلاة و حج وزكاة وطهارة و زواج وغيرها ويضع أحكاماً يظنها تتماشى و حالات الكواكب الأخرى أو حالات فراغ الفضاء , دون أن ينتبه لضحالة تشوب معلوماته عن الفضاء , فهو لا يميز بين الكوكب وبين النجم ولا يميز بين حركة الطائرة وبين حركة القمر الصناعي , ويظن أن سكان الكواكب الأخرى سيفهمون طلباتنا إذا سألناهم عن إمكانية أداء الصلاة على أراضيهم , أو عن إمكانية إستئجارهم لكي يقرأوا ختمة قرآن بدل عن أحد أمواتنا أو يحجوا حجة بدل عن أحد أقربائنا , ولا ينسى هنا أن يذكرنا أن ننتقي من نود إستئجاره لهذه المهمة {بحيث يكون مسلماً ويكون من الثقاة ويكون قادراً على التلفظ الصحيح بالقرأءة والأذكار التي تحويها الصلاة} . طبعاً ولا ينسى أن يذكرنا بأن نصلي صلاة الكسوف على أي كوكب نصله إذا كسفت شمسه , وإذا كان له أكثر من شمس فنصلي بعدد الكسوفات التي تحصل , ولكنه نسي شيئاً بسيطاً: لم يقل لنا كيف نصلي المفروضات على كوكب له أكثر من شمس . لكنه وضَّح ( تأكيداً لسعة معلوماته الفضائية ) أن تحول النجم إلى ثقب أسود لا يعتبر كسوفاً ولا تجب في هذه الحالة صلاة الكسوف حتى لو كان النجم شمسنا . ( أود أن أذكر المؤلف بأن تحول نجم إلى ثقب أسود يعني أن الحياة أنعدمت في محيطه الكوني قبل فترة طويلة جداً من هذا التحول ) . أما الصيام فسبب مشكلة عويصة للكاتب لم يعرف كيف يخرج منها وخاصة أنه يعرف أن بعض الأجرام يكون يومها أطول من سنة والبعض أقصر من ربع نهار , وبعد وضعه لبعض الفتاوي بهذا الشأن وجد أنه من الأفضل تحريم الذهاب الإختياري إلى مثل هذه الأماكن ( وكفى الله المؤمنين شر القتال والسفر والعلم ) . لا أريد أن أخوض في المزيد فكتاب فقه الفضاء وكثير مثله هي نماذج فاقعة على طريقة التفكير التي نتبعها منذ قرون . استبدل البعض أسم فقهاء بإسم علماء ثم صدقوأ هذا الأسم واعتبروا أنفسهم علماء في كل شيء , لا يغرب ولا يغيب عن علمهم شيء , وأصبح واحدهم يفتي في الفلك والفضاء و الفيزياء والكيمياء والطب والإقتصاد و الصحون اللاقطة و الأنترنت , مع أكيد معرفته ومعرفتنا بأن معلوماته لا تتجاوز تجويد القرآن و بعض الأحاديث وقصص من االتراث , و حسن مخارج الحروف .
هذا ليس تراث انقضى وأصبح تاريخاً، هذا لا يزال جزءاً من حياتنا اليومية . سمعت على الراديو فتاة تشتكي لشيخ أن أختها أصيبت بالثعلبة وفقدت شعرها وطلبت من الشيخ المساعدة , فطمأنها أنه سيعلمها رقية إن قرأتها أختها يومياً فستشفى بإذن الله . لا أنكر أهمية العامل النفسي في الشفاء ولكني أنكر أن تكون الرقية هي الدواء الكافي الشافي لحالة إصابة بفايروس ( لو كان الأمر كذلك لكان أكثر المسلمين متعافين ولكان الغرب الكافر تجتاحه الأوبئة والأمراض ) . وكنت قد كتبت مرة أن أجروا إختبارات علمية على الرقيات , كأن نضع فيروسات تحت المجهر ونقرأ عليها رقية لنرى إن كانت تذوى وتموت , أو أن نفحص نسبة الكريات البيض في شخص قبل أن يقرأ رقية وبعدها لنرى مدى تأثيرها على جهاز المناعة , أو أي اختبارات علمية مخبرية منهجية تثبت لنا سلبية أو إيجابية ما نقرأه وما نستعمله سواء أكان رقية أو بول بعير . آن الآوان لكي نخرج من النقل , آن الأوان لكي نخرج من دراسة العنعنة إلى دراسة الحقائق وإعمال العقل والمنطق , آن الآوان لكي نقتنع أن توقير الدين ليس في المظاهر وليس في تقديس الشكليات والنثريات وإنما بالعمل بجوهر ما يطلبه الدين كل دين وكل فلسفة إنسانية وجدانية راقية وهو إحترام وإعمال أقدس ما يملك الإنسان .. العقل .
ملحق : اعتبرت أن أقدس ما يملكه الإنسان هو العقل على أساس ماورد في القرآن :{ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } الحجرات 15 و ص 72 وأميل هنا للأخذ بالرأي القائل أن نفخة الروح التي هي مقدسة بإعتبارها شيء من ذات الله وضع فينا , نفخة الروح هذه هي العقل وليست هي نسمة الحياة . ففي القرآن ترتبط الحياة بالنفس وليس بالروح , حيث يرِد : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } الزمر 42 { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } الإسراء 33 { يا أيتها النفس المطمئنة.ارجعي إلى ربك راضية مرضية } الفجر 27-28 . و المخلوقات من دواب وهوام وحشرات كلها حية لأنها أنفس وليس لأن الله نفخ فيها الروح , فنفخة الروح هي في الإنسان فقط , وما يميز الإنسان عن باقي المخلوقات هو العقل .
*اللوذعي : الحديد الفؤاد واللسان , الظريف كأنه يلذع من ذكائه . هذا تفسير اللوذعي في القاموس , حتى لا يفوت القراء شيء من صفات مؤلف الإقناع .
التعليقات
على من تقرأ مزاميرك ياأستاذ
عادي
إضافة تعليق جديد