أرواح المدن وروائحها
بدءا كانت المدينة منذ تشكلها نقطة تحوّل، أحدثت انقلابات كوبرنيكية في النسيج الاجتماعي ومنظومة العلائق، وهي أيضا قرينة الحروب خصوصا ما كان منها ثغورا أو بوابات حارة حسب تعبير الشاعر اليوت وهو يتأمل آثارا واطلالا في قرطاج، وثمة من شبّهوا المدن بالنساء، لأنها ايضا مفعمة بالاسرار، ولها مفاتيح لا يمكن تجاوز عتباتها من دونها، فالخشب كما يقال يستجيب لأصابع العازف ويتحول الى قيثار، لكنه حتى لو كان قيثارا فلن يستجيب للأصابع الأمية، ويبقى مجرد خشب ضال يبحث عن نسبه سواء كان كعب بندقية او زاوية من تابوت، وتشبيه المدن بالنساء لا يخلو من اسقاطات جنسوية خصوصا في عالمنا العربي الذي اوشكت تاء التأنيث فيه ان تسطو على الأبجدية، رغم انها محذوفة بممحاة ذكورية من الحياة العامة. وحين نقرأ عن التشكل التاريخي للمدن تصيبنا الدهشة احيانا، فلماذا نشأت لندن حيث هي الآن؟ ولماذا تأسست القاهرة الفاطمية في هذا المكان بالذات؟ ولماذا ادارت الرباط ظهور صوامعها للبحر؟؟
العالم القديم صاغت خرائطه وتضاريسه الحروب والغزوات والهجرات، وهذا ما يدفع بعض المؤرخين الى الجزم بأن الجغرافيا هي التي كانت ولا تزال توجّه التاريخ، وقد يكون التاريخ ذاته جغرافيا بعد ان تصلّب وتحوّل من مفاهيم الى تضاريس، والعرب لديهم فهم يستحق التأمل حول المدينة، خصوصا وانها كانت في الأدبيات الاسلامية المرادف للقرية، فأم القرى هي بمعنى آخر ام المدن لكن المدينة في تاريخنا لم تظفر بالمديح الذي ظفرت به مدن العالم القديمة وحواضره الكبرى، فقد هجاها الصحابي والمؤرخ لأنها تقترن بالفوضى، والخروج عن المألوف، وقد يكون كتاب د. طريف الخالدي عن المدينة الاسلامية ونشوئها وتشكلها بالغ الاهمية في هذا السّياق، لأن تلك المدن لم تنشأ على الماء فقط ولا على المواقع ذات الأهمية الفاعلة، والتي تسمى الآن جيوبولتيكية فقط، وذلك شجن آخر قد نعود اليه ذات مدينة!
ما أعنيه بأرواح المدن، ليس فقط ايقاعاتها او ما يرشح منها لمجرد ان ندخل اليها او نشم روائحها عن بعد، وهناك قصة سويدية تزاوج بين الاسطورة والجغرافيا في تصوير روح المدينة، هي روح مدينة فير، فهذه المدينة عندما تنام، ويهجع فيها كل شيء الحيوان والنبات وحتى الماء... يتخلّق من عمقها ومن باطنها طفل ذو صوت شجيّ، يواصل العزف على مداخل شوارعها، وما ان تشرق الشمس حتى يختفي الطفل، وتختفي ثم تتلاشى معه اصداء الغناء، والمدن بمجمل ساكنيها ومعابدها وآثارها وأسواقها ومقاهيها تنسج بمرور الزمن حفيفا خاصا بها، بحيث تتقطر في رائحة مالحة او مرّة او عذبة، والمدن التي تغرز سيقانها في الماء ، وتمتلىء سماؤها بالسحب الداكنة لا يشعر زائرها بالظمأ، لأن فائض الارتواء لدى الشجر والحجر والكائنات يشمله ايضا، بعكس المدن الجافة التي لا يشعر فيها المرء بالارتواء حتى لو شرب برميل ماء! وما يصدق على هذا التصور الحسي يصدق ايضا على اشياء أقرب الى التجريد، فالمدن الحرّة ما إن يطأها الانسان حتى يتنفس بعمق ولا يشعر بشحة الاكسجين مثلما كان يشعر وهو يختنق في مدينة ذات سقف حجري واطىء وجاف. وحين نقرأ ما كتبه الشعراء العرب في خمسينات القرن الماضي وبواكير الحداثة عن المدينة، نحس على الفور بالمفارقة، فهم يعبرون عن اللاوعي العربي الاسلامي عن المدينة اكثر مما يعبرون عنها كواقع حيّ، خصوصا وان معظم جيل الروّاد هجوا المدينة، على غرار اليوت وباوند وسيتويل وآخرين. في ذلك الوقت كانت المدن الاوروبية العملاقة تسحق الناس بينما لم تكن العواصم العربية سوى قرى اصابها الورم، او تحولت الى عناقيد من القرى المتداخلة والمتجاورة، وهذا ما يؤكّد لنا بأن الشكوى من المدينة في بواكير شعرنا الحديث كانت أقرب الى المحاكاة والتأثر بما كتبه شعراء غربيون عن لندن ونيويورك وباريس وروما.
' ''' '
يقول ادورار غاييد وهو من أبرز الذين كتبوا عن مدن العالم القديم ان روما وقرطاج وبعض مدن الشرق الاقصى هي عمالقة التجمع البشري على مساحات محدودة جدا، وصادف الانسان في هذه المدن ما يمكن للجرذان ان تصادفه في مستعمرات تجمّعها، لهذا فإن المدينة القديمة لم تكن يوتوبيا بل هي اقرب الى الديستوبيا او المدينة الراذلة، واذا كان التبيه والضياع وفقدان الاحساس بالامان قد اقترن بالانسان المعاصر وهو يتحول الى رقم اصمّ في تعداد ديموغرافي لاحدى المدن الكبرى فإن المشاعر السلبية لازمت شعراء وفنانين ورجال دين في المدن القديمة الكبرى، لأن ما يحدث ببساطة هو ما يسمى فقدان السلحفاة لصدفتها، أي تحول الكائن القادم من نسيج اجتماعي ضيق وأليف الى كائن غريب يشعر بعدم الانتماء للجماعة غير المتجانسة، لكن المدن الحديثة قدمت على نحو ما تعويضا للانسان عن خساراته، فحلت النقابة مكان القرابة والحزب مكان العشيرة او القبيلة ، وان كانت المدن العربية لم تحقق مثل هذا التعويض بسبب افتقارها الى النمو العضوي واعتقاد الناس ان حرق المراحل ممكن في هذا السياق، وقد يكون ما كتبه التوحيدي عن أهل المدن جذرا نبتت عليه رؤى معاصرة مضادة للمدن، يقول ان الدناءة والخلابة والخداع والمكر تغلب عليهم، فمدار أمرهم على المعاملات السيّئة والخلف في الوعد، وحسب ما يقول د. طريف الخالدي في كتابه 'دراسات في تاريخ الفكر العربي والاسلامي'، فإن لفظة المدينة التي ترد في القرآن الكريم كمرادف للقرية هي قرين السوء والفسق والفساد، وثلث الأماكن التي ترد فيها كلمة القرية في القرآن تأتي مقرونة بفعل أهلك! وهناك تفسير آخر للنظر الى المدن بهذه السّلبية والتشاؤم، ففي النصوص الدينية القديمة لا تغرق او تهلك الا المدن بعد أن تتوغل في اختراق ما تراه تلك المرجعيات الخطوط الاخلاقية الحمراء!!
' ''' '
وصف الراحل البياتي مدننا العربية بأنها تنام بلا فجر، أي انها تتمدد بأشباحها لتفترس النّهار ايضا ولم ينفرد البياتي بهذه الرؤية للمدينة، فما كتبه السياب وبلند الحيدري وحجازي وعبد الصبور وخليل حاوي لا يبتعد كثيرا عن هذا المفهوم، فالمدن عواهر، وغير وفيات، وخائنات، يضيع فيهن الانسان ويفقد ملامحه لهذا فإن حلمه بالعودة الى القرية او المنشأ الأول هو هاجس فكري بامتياز قبل ان يتحول الى هاجس فنيّ، ولا ارى فرقا كبيرا بين قصيدة عمودية لميسون الكلبية التي تزوجها معاوية واسكنها قصرا منيفا في الشام وبين قصائد حديثة، فالكلبية أكلها الحنين للعودة الى الصحراء، وفضلت كلب البراري على القط الاليف والعباءة الخشنة على الحرير، والشاعر العربي الذي ولد بعد ميسون بقرون تخللها تطرف ومتغيرات جذرية في الحياة وأنماط الانتاج ردد الصدى ذاته، واستغاث بذويه في القرية التي هاجر منها، ردد لو انه شجرة محرومة من المشي ومغادرة الجذور كي لا يتورط في مدن بالغة القسوة، لكن الشعراء القرويين الذين تأقلموا مع المدينة واجتازوا شرط الاندماج في عوالمها، قد يكتبون عكس ما كتبوه في الصّبا، لأن العودة الى القرية تصبح بالنسبة اليهم عقابا ما بعده عقاب، وما غاب من شعرائنا الرواد الذين لعنوا المدينة وما تغرزه من أنيابها في لحمهم الطري، ان الشعراء الانكليز وفي مقدمتهم ت .س . اليوت لم يلعنوا المدينة باعتبارها نقيض القرية بل لأنها مدينة زائفة، وهذا ما يقوله اليوت بالحرف الواحد عن روما وباريس ولندن .... فهي مدن غير حقيقية، ومعنى ذلك ان الحنين لدى هؤلاء الشعراء ليس الى الريف والقرى، بقدر ما هو الى مدن أخرى حقيقية، وهذا الفارق في الرؤى والمفاهيم يرينا الى أي مدى كان التباعد بين من ولدوا في مجتمعات شبه رعوية وما قبل صناعية وانتاجية وبين غيرهم ممن ولدوا بعد قرنين على الأقل من الثورة الصناعية وما أفرزته من منظومات جديدة وبدائل بنيوية في النسيج الاجتماعي برمته.
' ''' '
يقول العرب ممن تجاوزوا العقد السابع من العمر ان المدن العربية قبل نصف قرن كانت رغم بدائية الكثير من الادوات ووسائل الاتصال أفضل مما هي عليه الآن، فقد تعرّضت الى ترييف متعاقب، وهاجرت اليها أعراف وتقاليد اصابت شرايينها بالتجلط وحرقها من النمو الطبيعي، فالحداثة ليست كما يتصوّر البعض مجاراة ومحاطاة لآخر ما يُنتج، انها سياق لا تنفصل عناصره ومكوناته عن بعضها، ونصف الحداثة الذي تتصف به مدننا العربية الان حرمنا من النصف الاخر الأهم، فالعمارات حديثة وكذلك الشوارع المعبدة والواجهات، ومجمل الاكسسوارات المقترنة بالعَصْرَنة، لكن المضمون بقي على حاله، ومن قالوا ان الخيمة استبدلت من حيث مادة البناء والنسيج فقط بحيث أصبحت من رخام لم يذهبوا بعيدا، فلا يزال جبلة بن الايهم حاضرا بكامل صفاته الداخلية، رغم انه يقود سيارة فارهة ويدخن سيجارا، ويرطن في المطاعم والفنادق بالانكليزية السياحية او الفرنسية المهشّمة، والمدن لا تكون لها أرواح تميزها عن بعضها بالعمران فقط، او بأية مشاهد مصطنعة، ان الرّوح بالنسبة لمدينة ما هي ما وصفته تلك القصة السويدية، العزف السري في الليل، او ما يرشح من صمت الجدران من ايقاعات وحفيف، لكأن من عاشوا وكدحوا وماتوا في هذه المدن تركوا بصمات تمهر الأبواب من خلال صريرها، والهواء المشبع بزفير لم يتبدد.. ويستطيع المرء ان يحزر هذه المدينة او تلك حتى لو كان معصوب العينين، فالرائحة الغامضة المتسربة من البيوت والحدائق والأجساد والمقاهي علامة، والنداء السرّي الذي يجذب القلب قبل القدمين هو نبضة روح وليس اعلانا سياحيا!!
خيري منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد