الأمريكي المنفوخ
في شهر نيسان ابريل سنة 1933 دعي الكاتب الانكليزي- ايرلندي الأصل جورج برناردشو, من اكاديمية العلوم السياسية في الولايات المتحدة الأميركية لإلقاء محاضرة في دار أوبرا متروبوليتان, وقد نشرها بعد ذلك في كتاب عنوانه (مستشفى المجاذيب السياسي في أميركا). وفيها يسخر شو على طريقته من اليانكي أو العم سام رمز الأميركي القح, ويصفه بأنه (لم يتلق من التعليم إلا ما يقدمه المبشر المسيحي للغلام الزنجي) وما يلي ذلك من ثقافة أولية.
ويتابع شو قائلا: قضى هذا الاميركي وقتا طويلا يحاول أن يفعل ما تفعله أوروبا, ولكن بطريقة سيئة للغاية, كما لا بد لي أن أنبه إلى أنها كانت أيضا باهظة النفقات جدا. غير أنه ظهر الى الوجود في نهاية المطاف طراز آخر من المواطنين الأميركيين, يختلف اختلافاً مذهلا عن الأخ جوناثان -وهذا اسم آخر للعم سام عند برناردشو- بل يختلف اختلافا مذهلا عن أي طراز آخر من الناس الذين يمشون على ظهر الأرض.. ولنبدأ في وصفه شكلا: كان إنسانا مفرطا في البدانة والجسامة, وفي ما عدا أنه بدين جسيم يصعب وصفه كثيرا.
كان مارداً جباراً, شخصا على اعظم درجة من المهابة, اذا لقيته خيل اليك أنه شخصية هامة آمرة, شخصية فيها شيء ما, ولكنك لا تستطيع أن تفهم ما هو هذا الشيء. كان متحدثا فعلا, بليغاً مصقعاً يطلق الحكم والامثال الرائعة, خطيبا ومفوهاً يصرخ ويزعق في الاجتماعات, ويتسيد المدعوين على موائد الغداء وعلى أوسع نطاق, ولكنه لم يكن يقول شيئا, كانت بلاغة مجردة, وفصاحة من اجل الفصاحة, وهي فرع من مدرسة الفن للفن, وكنتم اذا استمعتم إليه تحيونه وتهتفون له بحماسة, وتشعرون أن شيئا ما سيحدث في النهاية, ولكن هذا الشيء لم يحدث قط!.
ويستطرد شو بأسلوبه الفريد في السخرية والتهكم قائلا: كان شخصا من النوع المدوي كالطبل الأجوف اذا كان لي أن استخدم هذا التعبير. كان جبارا ضخما ولكنه كان خاليا من أي شيء جديد أو مختلف لدرجة أننا كنا ونحن في أوروبا نترنح مذهولين من (هيله وهيلمانه) ومن خلو ذلك الهيكل والهيلمان -يقصد المترجم: الهيلمة كما يقال في الشام للدجال النفاج الذي يريد تغطية السماوات بالقباوات- من أي معنى على الاطلاق. وكنا نقول: ترى ما سر هذا الرجل الهائل الجبار الذي يتحدث بكل هذه الفخامة وليس لديه ما يقول? هذا الرجل الذي يتمتع بذهن شديد الحيوية, ولكنه في الوقت نفسه فارغ شديد الفراغ, لأنه لا يبدو عليه أنه يعرف أي شيء له مدلول. هو دائما جهير الصوت يجعجع عن التفاهات ويقتبس من الشعراء بصوت عالٍ كالرعد لا لشيء إلا ليؤكد بديهية لا تحتاج إلى تأكيد أو يشير إلى شيء مبتذل أو حديث معاد.
ويستدرك برناردشو, موضحا تارة, غامزا تارة أخرى الى الشخصيات العامة -ممن يعنيهم في حديثه هذا- أو رجال السياسة فيقول:أراني الآن واقعا تحت إغراء شديد, لأن أذكر أحد مشاهير الأميركيين -وقد مات منذ فترة- كان يمثل هذا الطراز من الناس أصدق تمثيل, ولكن لا حاجة بي لأن أسميه باسمه, لأنكم جميعا تستطيعون أو الناجحون منكم في الحياة على الأقل أن يقولوا: أجل, هو بلا شك يعني فلاناً عضو الكونغرس أو فلانا النائب, أو أي شخصية شهيرة لم تنتخب بعد.
والآن, ترى أي عيب يعيب هذا الطراز من الرجال? أقول: إن عيبهم أن ليست لهم ركائز ثقافية يرتكزون عليها, وليست لديهم أي نظرية عصرية شاملة عن المجتمع, بل ليست لديهم أي نظرية أميركية عن المجتمع الأميركي!.
وينتهي برناردشو الى أن مثل هذا الطراز من الرجال هو ما نتج عن شخصيات (العم سام) الغريبة, وهو الطراز الموجود الآن في أميركا, وأذهل الدنيا بصفته الأميركي النموذجي, الأميركي القح, أو الأميركي مئة في المئة, لقد طفت في الآفاق كثيرا, ولكني أشهد أنني لم أر في أي بلد آخر شبيها بهذا الاميركي القح, الأميركي مئة في المئة.
ويصل الأمر بالكاتب الساخر إلى حد التشكيك حتى في فحوى الدستور الأميركي, وها هو ذا يقول: الحق أنكم اذا فحصتم الدستور الأميركي لوجدتم أنه ليس في واقع الأمر دستورا, ولكنه تعهد بالفوضوية. إنه ليس أداة للحكم, بل بمثابة تعهد للشعب الأميركي بأنه لن يحكم أبدا.
وتبلغ سخرية شو من الديمقراطية الأميركية أقصاها عندما يشير الى النفاق في مسألة (الخوف من الدكتاتورية) فيعلن: لقد أقمتم في غمرة فزعكم من الدكتاتوريين وحكم الدكتاتوريين مجتمعاً كل رئيس وردية فيه دكتاتور, وكل ممول دكتاتور, وكل صاحب عمل دكتاتور, ويضع كل هؤلاء الدكتاتوريين حياة العمال ومعاشهم تحت رحمتهم تماماً.
- برناردشو: جورج برناردشو (1856-1950) من أشهر الكتاب الساخرين في العالم, وهو في الآن ذاته, من زعماء الاشتراكية الفابية fabian .
يقول د. عمر مكاوي في كتابه (مختارات من برناردشو) انه لم يعرف كاتبا موسوعيا كاد أن يحيط بمعارف عصره مثله, وقد بلغت مؤلفاته نحو أربعة وثلاثين مجلدا, منها خمسة عشر مجلدا: مسرحيات, عدا رسائله التي بلغت عدة مجلدات, وقد كتب في الادب والمسرح والموسيقى والبيولوجيا وله دراسات مشهورة عن داروين وتولستوي وبتهوفن وفاغنر وايبسن ونيتشه وشكسبير.
نصر الدين البحرة
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد