الإعلام السوري ومشاريع التطوير
يبدو أننا لن نستطيع النظر إلى الإعلام السوري بمعزل عن الحالة السورية ككل، فهو ليس مجرد تعبير عنها كما يُفترض بوظيفة الإعلام، بقدر ما هو نتيجة أيضا وفق قانون التأثر والتأثير المتبادل بين عناصر هذه الحالة.
ومن هنا يبدو أن شعار تطوير الإعلام السوري لن ينفصل عن شعارات التطوير والتحديث التي تسيطر على مجمل قطاعات الحياة ومجالات العمل في سورية، بل يبدو أن الإعلام بحكم طبيعته كحامل لهذه الشعارات يظلّ قابلاً للرصد والقراءة أكثر من سواه. حيث يمكن في قطاعات أخرى تمويه المعطيات أو اللعب على مفرداتها أكثر، إلا أننا نكتشف وفي كل الحالات أن مسألة التطوير هذه لا تعتمد على رفع الشعار من عدمه، كما أنها لا تتوقف على وجود النوايا الحسنة عند هذا الفريق أو ذاك، لأن الوقائع أكثر صلابة من أي شعار ومن كل النوايا التي بلّطت الطريق إلى جهنم في يوم ما.
حتى أننا لاحظنا صدور قانون المطبوعات الأخير منذ سنوات متزامناً مع أصداء الدعوات الرسمية والإعلامية إلى تغييره، حتى أن وزارة الإعلام التي سمحت بموجب ذلك القانون بإصدار صحف خاصة وإقامة أو تأسيس محطات بث إذاعي وتلفزيوني خاصة ما زالت تنظر إلى الأمر بعين الريبة، وكما أشارت إحدى المواقع الإلكترونية فإن الوزارة ترفض حتى تاريخه الإفصاح عن قوائم المؤسسات الإعلامية التي فازت بقصب السبق للحصول على الترخيص المطلوب، وما تأسس منها أو فشل دون ذلك، وما هو مستمر في العمل أو توقف نتيجة العجز في استيفاء تلك الشروط أو نتيجة الحجب أو سحب الترخيص في بعض الحالات. مع أن تلك الصحف المرخصة ليست سرية، وهي تطبع وتوزع في سورية، أو أنها إذاعات وفضائيات تبث وتملأ أثيرنا المحلي والعربي، ولها جمهورها، فهل تعتبرها الجهات الرسمية ولادةً مشوهةً أو خطأ ترجو عدم الإفصاح عنها أو نكران نتائجها؟! وإلا ما هي الحكمة من التكتم حولها؟!
- يظهر هذا الإعلام الخاص وكأنه قفزة في المجهول، لا يمتلك حتى تاريخه قانوناً يحميه من عسف الرقابة التي تمكنت من مصادرة أعداد متزايدة من الصحف والمطبوعات لأسباب واهية، وصولاً إلى سحب تراخيص كانت قد منحت في غفلة أمنية، بما فيها فضائية 'الشام' التي انتقلت للبث من أرض الكنانة، مع أن القضاء السوري ما زال يلاحق صاحب الترخيص السيد أكرم الجندي بمبلغ 750 مليون ليرة سورية، تجاوزت مع فوائدها المليار ليرة سورية، كانت قد سحبت كقرض من المصرف التجاري السوري بضمانات وهمية.
من جهة ثانية نلاحظ أن الإعلام الخاص المنضبط في سياق ماهو مسموح به ما زال يعمل تحت سقف الإعلام الرسمي، أو دونه جرأة في محاولة أخذ دوره كسلطة رابعة تراقب عمل السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية، وتشير إلى مواطن الخلل وضرورات الإصلاح.
بينما ننظر نحن إلى وجود هذا الإعلام في بلدنا كإنجاز ضخم في سياق عملية التطوير المفترضة، داعين إلى تطويرها وتطوير القوانين الناظمة لعملها، بل وآملين من وزارة الإعلام أن تنشر ذلك القانون وأسماء الصحف والإذاعات أو الفضائيات التي حصلت بموجبه على الترخيص، في الموقع الإلكتروني للوزارة، مع التأكيد على الوعود الرسمية التي انهالت علينا بخصوص تطويره، وتطوير ما شابه من نقائص. وبشكل خاص المعاناة المستمرة لدى الإعلاميين من وطأة قانون العقوبات الذي ينال من حرية الصحافة وحرية التعبير التي حاول الدستور أن ينص على صونها وحمايتها. ناهيك عن تعقيدات واشتراطات وزارة الإعلام لمنح التراخيص المشار إليها، بينما كان الإستبداد الحميدي يكتفي بشرط 'إعطاء علم وخبر' بهذا الخصوص للسلطات الرسمية، كشرط وحيد لإصدار أي جريدة أو 'قظيطة' كما كانت تدعى في ذلك العصر. فهل يعقل أن نكون في السنوات الأولى للقرن الواحد والعشرين ما نزال دون السقف الحميدي الموصوف بالاستبداد؟!
- مع أن الإشاعات التي تدعو إلى الخصخصة في كل مناحي الحياة وقطاعات الإنتاج في سورية بما فيها قطاع الإعلام تلفت الانتباه بكثافته وجرأتها مؤخرا، حتى أن أحد المسؤولين لم يخفِ تفاؤله بزوال الإعلام الحكومي خلال زمن قريب قد لا يتعدى السنوات الخمس، ونحن هنا لن نتوقف مع مسيرة الخصخصة التي تتسارع في بلادنا، وهي ما زالت محلّ أخذ ورد، لكننا معنيون في هذا المجال بحقل الإعلام تحديدا، والذي تعتبره بعض الجهات الحكومية قلعتها الأخيرة في وجه الطامعين والمارقين والمدسوسين على بنية أيديولوجية كانوا يخالونها أكثر صلابة وعصية على رياح التغيير، وإذا بها أكثر هشاشة من الورق الذي سطّرت فوقه تلك الشعارات.
وإن كانت التجربة الأردنية بإلغاء وزارة الإعلام لم تعمر طويلا، فنحن في سورية ما نزال ولله الحمد دون مثل هذا الطموح، ولكننا نشكك بالكثير من صلاحيات الوزارة وآليات عملها التي تفترض التغيير وتستدعيه بطريقة أو أخرى، لتواكب الانفتاح الرقمي الذي يشهده العالم أجمع ونحن ضمن مخاضاته، فحجب صحيفة أو مقال الآن يبدو أشبه بنكتة في عالم 'النت'، لكن هذه النكتة لا تثير على ما يبدو ابتسامة المعنيين بالشأن الإعلامي في سورية وأجهزة الرقابة التي بادرت إلى ملاقاة الموجة في خضم بحرها بالذات، فأصبحت مراقبة النت وحجب المواقع الإلكترونية هي المهمة الأساسية لها، حتى أن هذه المهمة تحولت إلى نكتة موازية حين تطلب موقعا سوريا رسميا ولا تستطيع الوصول إليه، وأذكر منذ أيام حين أعلنت نتائج توزيع جوائز 'أدونيا' للدراما السورية، وكنت في إحدى المحافظات السورية حين حاولت مع زميل إعلامي آخر جاهدين فتح بعض المواقع السورية التي نشرت الخبر قبل ثلاثة أيام دون جدوى.
وهذه الإشكالية في الواقع تفتح على موضوع آخر أبعد من الرقابة، وهو مسألة حرية الإعلامي وقدرته على الوصول إلى المعلومة بشكل صحيح وميسر، وبشكل خاص عندما لا تكون هذه المعلومة أمنية كأسماء المؤسسات الإعلامية التي حظيت برخصة عمل في سورية، أو توزيع جوائز 'أدونيا' للدراما السورية مثلاً، وأنا أذكر هذين المثالين لأشير إلى العقلية التي تتحكم بعالم النت في سورية، خاصة وأننا حصلنا على بوابات ADSL بسرعات جيدة، لكننا في المحصلة دفعنا مبالغ ليست قليلة لقاء مثل هذه الخدمة دون أن نتمكن من تجاوز سقف مؤسسة الاتصالات وسقف الرقابة في إمكانية الحصول على المعلومة، وليس سرا أن مدير الإنترنيت في المؤسسة العامة للاتصالات ذهب ضحية خلافات تتعلق بعمل المؤسسة وقطاع النت تحديدا، لكننا نحن المواطنين الذين دفعنا من أموالنا لقاء الحصول على مثل هذه الخدمات التي تمنح في أغلب دول العالم مجانا، بقينا نعجز عن الوصول إلى المعلومة وعن مقاضاة تلك الجهة التي باعتنا خدمات لم تصل إلينا بعد!!
إن عقلية التحكم بالمعلومات وحجبها في الواقع لا تتعلق بدواع أمنية أو سياسية، بل هي تشير إلى بنية أيديولوجية لا تحترم الخلاف بالرأي أو وجهات النظر، كما تشير إلى موقف من الآخر لا يقوم على احترام المواطن الذي يشكو فيما يدفع وتهدر كرامته فيما لا يتمكن في صون حقوقه.
- وإن كان هذا حال المواطن فحال الإعلامي يبقى أسوأ من ذلك، لأنه باستمرار موضع شك وريبة، ومجال اتهام وتخوين، وبالتالي هو عرضة للإقصاء والعقوبات المهنية والأمنية كالمنع من السفر مثلاً، وقد نجح السيد صابر فلحوط ومن بعده الياس مراد في إقصاء الإعلامي عن مؤسسته النقابية، حين ألغيا الطبيعة النقابية لإتحاد الصحافيين، وجرداه من وظيفته أو دوره المطلبي في تطوير المهنة وحماية ممتهنيها والعاملين فيها، لصالح دور رقابي وأمني لضبط الإعلام والإعلاميين، كما نجحوا في تحويل الإتحاد إلى مستوعب كبير لكل العاملين في الوزارة ومؤسساتها الإعلامية، بحيث يشكلون ثقلا انتخابيا في انتخابات تتم بطريقة شكلية أصلا، طالما تؤكد دائما نتائج الإستمزاج الحزبي للكادر الإعلامي المسبق وبإشراف القيادة الحزبية مباشرة، وهذه مسألة تفسر إصرار القائمين على الإتحاد ووزارة الإعلام معا على رفض مطلب الفصل بين نقابة المحررين وبين العاملين في المهن الأخرى ضمن المؤسسات الصحافية، أسوة بدول الجوار.
حتى أننا نجد في عضوية الإتحاد كل الموظفين والمستخدمين في المؤسسات الإعلامية الرسمية، بينما كل الإعلاميين خارج هذه الأطر بمن فيهم المراسلون الصحافيون، وكذلك الصحافيون الأحرار 'فري لانس' أو المستكتبون، وحتى الإعلاميون العاملون في المؤسسات الإعلامية التي حظيت بكل الموافقات الإدارية والأمنية لممارسة المهنة، أقول كل هؤلاء لن يتمكنوا من اجتياز العتبات المقدسة لاتحادنا. ولا يمكنهم بالمقابل مجرد التفكير لا سمح الله بإنشاء اتحاد مستقل أو بديل عن الاتحاد الذي غادر مهامه النقابية والمطلبية باتجاه وظيفة سياسية وأمنية تتلخص بإعلان ولاء غير مجد للقيادة السياسية، ولاء مالبث أن تورط في حالات من الدفاع عن قضايا الفساد الإداري والحكومي بحجة أنها شأن سياسي لايجوز انتقاده.
فهل يمكننا بعد ذلك أن نحلم بتحرير الإعلام كما يأمل بعض المسؤولين في الحكومة وهيئة تخطيط الدولة، أم أن الخائفين من الانزلاق على قشرة التحرير سينتصرون في النهاية؟ وهل سيبقى الإعلام الخاص يلعب في مساحات الإعلان والرياضة والمنوعات وبعض الاقتصاد، أم أنه سيكون إعلاما حقيقيا وشاملا للسياسة وقضايا المجتمع والفكر عموما، في مواجهة إعلام رسمي قد يقصّ في مسألة أو يحابي في أخرى؟ وهل نرى قريبا نقابة محررين جامعة لكل من يمارس ذلك العمل بعيدا عن موظفي ومستخدمي المؤسسات الإعلامية في مهن بعيدة عن العمل الإعلامي الحقيقي؟ وهل نصحوا فجأة على وجود نقابات مهنية مستقلة بعيدا عن هيمنة النقابة المركزية، وبعيدا عن أي إطار تنظيمي أو حزبي، ويكون هدفها فقط الدفاع عن أعضاء النقابة وحماية مصالحهم وكرامتهم وتطوير العمل الإعلامي؟ هل يمكننا تصور أي شيء من ذلك أو الحلم به قبل أن يطالبنا الآخرون بإلغاء وزارة الإعلام؟!
أنور بدر
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد