الشمولية العربية والخيارات الإصلاحية
تتميز منطقة الشرق الأوسط بوجود كم هائل من الايديولوجيات، انبثقت عنها نظريات سياسية وفلسفية، بعضها كلي مطلق في أحكامه وتصوراته للأمور بشكل قطعي لا يقبل التأويل، وبعضها الآخر ما ورائي يحاول الرجوع إلى الخلف بطريقة تكتيكية حفظاً للإرث الهائل من العقائد الموروثة منذ عهود موغلة في القدم، جذورها متفرعة بين ديني تقليدي وعلماني مستحدث، تمكنت في حكم المرحلة السابقة ولا تزال حاكمة سائدة بفعل الإرث المصان لهذه العقائد.
وبالتوقف قليلاً عند الظاهرة الايديولوجية باعتبارها المولد الأساسي لنظريات الحكم، يتبين لنا أن هذه الظاهرة تمثل الموقف الرسمي والجوهر الحقيقي، الذي يتوقف عليه بناء المجتمعات وتشييد صروحها، لامتلاكها مفاتيح الإصلاح التي يحتاجها المجتمع باستمرار، إضافة الى دورها المهم في تنظيم وهيكلة منظومته السياسية، ورصدها وتسييرها لحركة نموه الاقتصادي صعوداً وهبوطاً، باختصار هي القلب النابض لحياة المجتمع وما يواجهه من أزمات خانقة.
من أهم افرازات الايديولوجيا، أنها قسّمت العالم إلى مجموعة نظم، أبرزها النظامان الرأسمالي والاشتراكي. والملاحظ أن الايديولوجيا تغلغلت في قلب النظامين المذكورين وغاصت في أعماقهما، وربطتهما بقاعدة عريضة من النظريات السياسية التي ألمحنا إليها، وذلك عن طريق الأفكار التي بلورها مفكرو النظامين.
بتسليط الضوء على النظام الاشتراكي كونه النظام الأكثر محاكاةً في بعض الدول العربية، بغض النظر عن الانتكاسات والتجارب المريرة والمعقدة لا بل والمأسوية التي مر بها، فإن واقع الحال يشير إلى انغراس الايديولوجيا في كيان الدولة المطبقة لهذا النظام، وهو ما أدى إلى بلورة المفاهيم الأولى لولادة الأنظمة الشمولية، من خلال التحكم المطلق بالقرارات الصادرة عن مؤسساتها، ومركزة اقتصادها في أيدي مجموعة أفراد هيأت وساعدت على ولادتها، وتجدر الإشارة هنا أن هذه الأيدي حملت المفاهيم الأيديولوجية بين راحتي كفيها من دون عقولها، والنتيجة كانت شمولية مشوهة التكوين ومختلة البنيان.
تزداد حاجة الأنظمة الشمولية للايديولوجيا، كلما ازدادت تخبطاً في سيرها، وغالباً تلجأ الأنظمة الشمولية إلى تجديد حيويتها السياسية والاقتصادية بالركون إلى العملية الإصلاحية، زورق النجاة الأخير من الغرق، وتجهل أن نظامها تم تأسيسه على أرضية متصلبة، تمت صوغ طابعه الاقتصادي، وفق معايير ايديولوجية تسيطر عليها فئة حزبية وحيدة، تضع ما تراه مناسباً من برامج وتنسف ما لا يتوافق مع تفكيرها، وبالتالي ما يتناسب معها ينتقل تدريجاً إلى واقعية سياسية تتماثل مع رؤيتها السابقة المبنية على النفعية المتحصلة من الأمر الواقع، وفي ذلك تجذير لوشائج العلاقة القائمة بين الشمولية والايديولوجيا اللازمتين عن بعضهما البعض، وفي الوقت نفسه تضفي الايديولوجيا على قرينتها الشمولية هالة من القداسة لا تقبل النقد أو الجدل، تكللها على رؤوس زعمائها البعيدين عن أي رقابة، بحيث لا يجوز الضر بهم واستعمال النقد بحقهم، فالنقد ممكن لذوات الآخرين فقط.
مع تفاقم مشاكل الظاهرة الايديولوجية في النظم الاشتراكية العربية، يزداد تعثرها الشمولي لعدم قدرتها على إيجاد حلول للتدهور الاقتصادي والسياسي السائد في مجتمعاتها، ما ينتج عنه من حكومات شمولية مرحلية، تستهلك بدلاً من أن تنتج، وتتجه دوماً نحو التمركز حول القيادة.
ففي مرحلة التكوين الأولي للشمولية، يتم إدخال الدولة والمجتمع في سراديب ايديولوجية مغلقة، تفقد الدولة خصوصيتها القانونية والدستورية، ويحكم باسمها إضفاءً للشرعية التي تمنحها أمام المجتمع الدولي، وتلغى الحياة السياسية والتعددية الحزبية في المجتمع، فلا يوجد سوى حزب واحد وشخص واحد مستلهم من ايديولوجية واحدة، محاطاً بأجهزة أمنية واستخباراتية همها الوحيد ضرب تصدع يستهدف بنيان نظامها الشمولي.
إن حالة التأبيد المطلقة التي تتبعها الأنظمة الشمولية، قد لا ترضي أجيالها الجديدة، فأجيالها متعددة الأطوار، لكل جيل عقلية تتميز عن عقلية سلفه، علماً أنها تلتقي سويةً على ايديولوجيا واحدة، غير أن طبيعة التعاطي معها تختلف وفقاً لظروف المرحلة الراهنة ومتطلباتها.
وإذا فكرت الشمولية العربية بإصلاح نفسها، فإنها أمام مجموعة خيارات:
خيارها الأول أن يكون الإصلاح مصحوباً بعقلية قديمة، وهنا يكون أشبه بالمساحيق التجميلية التي تضعها بين الحين والآخر إخفاءً لتجاعيد وجهها.
خيارها الثاني غالباً ما يؤخذ به، لارتكازه على جيل جديد بعقلية جديدة لكنه مؤدلج، على طريقة الغلاسنوست (الإصلاح) السوفياتي بأجياله المتعددة، أي أن نظرته للأزمة إسعافية لا علاجية، فتراه يحاول التمايز عن العقلية السالفة، لكنه لا يستطيع نتيجة ترعرعه في كنف الجيل الايديولوجي الأول، فالإصلاحات التي يقدمها إسعافية أولية مسكنة لا تزيل الترهل بصورة نهائية.
ختاماً، لا بد من الإشارة إلى أن العبرة تبقى في النتائج، على رغم تحصن الشمولية العربية في خنادق، لا تبلغها السحب الدخانية، ولأنها بغنى عن إدراك أزماتها، فقد يجرفها السيل من دون أن تحتسب لذلك أمراً.
ثائر الناشف
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد