فتغنشتاين: عن التجربة الموسيقية والمعرفة
يرتبط تفكير فتغنشتاين الفلسفيّ في الموسيقى ارتباطًا وثيقًا، وخاصة في العلاقة بين الموسيقى واشتغاله الواضح في علم النفس. أزعم في هذا المقال أنَّ التجربة الموسيقية تمثّل نوعًا من التعقيد القواعدي الذي يتأصل في جانب وسياق الإدراك البشري، بالإضافة إلى ربطه الموسيقى بعلم الفراسة، والذي يعتبره فتجنشتاين شكلاً من أشكال المعرفة، وهو معرفة الجنس البشري. واجهت كتابات فتغنشتاين عن الموسيقى الكثير من التعليقات التي تقلل من أهميتها واعتبارها مجرد ملحقات وتوابع لا قيمة أساسية لها في فكره، إلّا أن السنوات الأخيرة قد شهدت طفرة في الاهتمام في فكر فتغنشتاين الموسيقي واعتباره جزء أساسي من عمله الفلسفي، وبالأخص في علاقة الموسيقى بعلم النفس .
أدرك فتغنشتاين أهمية التواصل بين الموسيقى وعلم نفس في وقت مبكر من حياته، وقام بإجراء تجارب عن الإدراك الموسيقي أُجريت بين عامي 1912 و1913 في مختبر تشارلز مايزر المتطور لعلم النفس التجريبي في كامبريدج، والذي أُسس كما يقول ديفيد بينسنت: “للتأكيد على أهمية الإيقاع في الموسيقى. ويبدو أن هذه التجارب لا ترقى إلى مكانة فيلسوف أو موسيقي ولكن بالتأكيد لم يكن فتغنشتاين يقضي وقته مستمتعًا في التفاهات. وبعد عودته للفلسفة في كامبريدج اعترف فتجنشتاين إلى جورج مور أن تجاربه الموسيقية لم تعطِ الأجوبة التي كان يتوقعها حول أسئلته في حقل الجماليات .
ما هي تلك الأسئلة في علم الجمال، وكيف تعاطاها فتغنشتاين في النهاية؟ كإجابة مباشرة، فإنَّ فتجنشتاين كان مهتمًا بعلاقة التجارب الموسيقية بالمعرفة. سأحاول في هذه الورقة تحديد الطريق الذي سيؤدي إلى الإجابة في سياق كتابات فتغنشتاين الأخيرة. وآمل أن تبيّن هذه الورقة الأهمية الواضحة لقراءة فلسفة فتغنشتاين في الموسيقى واعتبارها جزء لا يتجزأ من عمله الفلسفيّ.
تنتمي كتابات فتغنشتاين عن الموسيقى بشكل أكبر إلى عمله الأخير، الذي شاع فيه تفكيره في علم النفس. ويعالج فتغنشتاين قضية التجربة الموسيقية من ثلاث محاور. يشتمل المحور الأول على التعقيد القواعدي للألعاب اللغوية التي تتعلق بالظواهر الجمالية والخبرات الموسيقية على وجه الخصوص، أما المحور الثاني فيعالج الظواهر المنتشره للموسيقى، والمحور الثالث يتناول علم الفراسة وآثاره، وسوف أعالج هذه القضايا بالترتيب.
يركّز فتجنشتاين في محاضرته عن الجماليّات في عام 1938 على العمليات المعقدة والمتشابكة التي تحدث أثناء تعبيرتنا الجماليّة، مُعارضًا في ذلك نظرة جورج مور للأمور. يجب أن يُنظر إلى الجماليات وِفق أنشطة وأشكال الحياة المختلفة، بالإضافة إلى أن استخدامنا الجماليّ للكلمات يخضع لممارسات وألعاب اللغة المتفق عليها. ويتحدث فتغنشتاين عن أنَّ استخدامنا للكلمات في التعبير عن الجماليّات يفترض معرفة مسبقة بالعديد من الألعاب اللغوية التي تناسب مجالات جماليّة معينة وكيفية التعبير عنها وفقًا لكلمات متفق عليها للتعبير عن جمال هذا الشيء في حقله مثل الموسيقى، وبالمجمل معرفة “النطاق العام لألعابنا اللغوية. وهكذا يفسر فتغنشتاين كيف أن تعبيراتنا الجمالية معقدة قواعديًا.عندما نعبّر عن تجاربنا الجمالية، نطبّق المفاهيم التي هي طرق محددة للاستخدام في “سياق معين، وهي لعبة التعبير اللغويّ. إنَّ الطريقة المصنوعة التي نصل بها للتعبير الجمالي تؤكد على دور الألعاب والقواعد اللغوية المتّبعة. بالإضافة إلى أن مثل هذه التعبيرات ليست مجازية ولا تعود إلى مقارنات بحيث يمكن استخدامها أو تحديدها بشكل مستقل عن استخدامها المعروف.
في حالة الموسيقى، ترتبط التعبيرات الجمالية والتجارب الموسيقية بعلاقة بين الموسيقى واللغة، حيث يتم دمج الموسيقى باللغة “نحن نتعلم إيماءة جديدة. وفي إشارة حول “الطريقة التي تتحدث بها الموسيقى” يقول فتجنشتاين:” لا تنسوا أنه على الرغم من أن القصيدة تُنسج بلغة المعلومات، إلا أنها لا تُوظّف في لعبة المعلومات اللغوية. التعبير يفترض تقديم معلومات، ولكن لا يمكن اختزالها إلى مجرد معلومات فقط. وهنا تكمن الحالة العكسية التي ذكرها فتغنشتاين لشخص يعزف مقطوعة تأملية لفريديرك شوبن، فهو في الواقع يعبر عن لغة ما، ولكن تبقى هذه اللغة وألعابها مستعصية عند الشخص الذي يعزف المقطوعة لأن سياقها مختلف.
وبالانتقال إلى قضيتنا الثانية عن الجانب الأوسع انتشارًا للموسيقى. وكما لاحظ عدد من العلماء مثل(Hanfling 1990; Hark 1990; Mulhall 1990; Johnston 1993)، فإنَّ هناك قرابة مفاهيمية واضحة في تفكير فتغنشتاين في المعنى الثانوي للكلمات والجانب الإدراكي. إن بزوغ جانب وسياق جديد من الإدراك يشير إلى تغير واضح في لعبة اللغة التي يتم لعبها. وإن هذا السياق الإدراكي الجديد لا يمكن فهمه إلا من خلال تحرك مترابط في الألعاب المتفق عليها قبليّاً، وهو تحرك مرتبط بخبرة المجتمع.
يعبر فتغنشتاين عن بزوغ معانٍ جديدة بكلمات مثل “صرخة إدراك، والتي تعتبر المعيار الوحيد لطبيعة ووجود التجربة. إن ملاحظات فتجنشتاين حول جوانب الإدراك مليئة بالحالات الموسيقية، والتي هي أوسع نطاقًا من الأمثلة الأخرى حول هذا الموضوع مثل مثال الأرنب والبطة. ومن الأمثلة الموسيقية حول جانب الإدراك: سماع لحن بشكل مختلف بعد التعرف على أسلوب الملحن. الأمر الأكثر لفتًا للنظر في هذه الأمثلة أنها تشتمل بقوة على النطاق الكامل الأساسي لإدراك وأداء الموسيقى: تجربة الحركة الموسيقية من خلال الإيقاع والهيكل، وتحديد الهوية الموسيقية وإعادة تحديد المواد الموسيقية، والفوارق الدقيقة للتعبير الموسيقي، والاعتبارات الشاملة لممارسة الأداء، ووفقًا لفتجنشتاين فإنَّ الموسيقى هي جزء أساسي واسع الانتشار، ومما نستنتجه من هذه الملاحظة أن: الموسيقى لا تعلمنا عن “العالم الخارجي”. الموسيقى لا تستخدم في لعبة المعلومات اللغوية.
النقطة الحاسمة التي تشغلنا حاليًا هي: التجارب التي أجراها فتغنشتاين في الفترة من 1912 إلى 1913 على الإيقاع الموسيقي أسفرت عن حالة معينة للجانب الموسيقي تقترب إلى الحالة الغامضة التي في مثال الأرنب والبطة. قد يسمع المرء سلسلة النقرات الموسيقية على أنها إما مزدوجة أو ثلاثية، ويمكنه التبديل بين هذه الجوانب البديلة حسب الرغبة. وبالتالي يصبح من الواضح لماذا تنكّر فتغنشتاين للاستطرادات المبكرة في علم النفس التجريبي. وفي الحقيقة، فإنَّ مهمة فتجنشتاين لم تكن مجرد التأكد من مدى وأهمية الإيقاع الموسيقي كما يفسرها، بل للتأكد من مدى وأهمية جانب الإدراك في الموسيقى. وكما قال فتجنشتاين في محاضراته لعام 1938 عن علم الجمال، عن أن نوع التفسير الذي يبحث عنه المرء عندما يشعر بالحيرة من خلال الانطباع الجمالي لا يمكن إعطاؤه عن طريق التجربة النفسية. لا يمكن للبيانات التجريبية أن تؤثر على البحث القواعديّ.
في الجزء المتبقي من هذه الورقة، أود مناقشة بعض الآثار المترتبة على تركيز فتغنشتاين على علم الفراسة. إن مفهوم علم الفراسة له أهمية مركزية في شرحه لجانب الإدراك ومناقشاته المختلفة للتعبير الموسيقي . وفقًا لـفتغنشتاين، فإنَّ التقلبات الهائلة وعدم الانتظام وعدم القدرة على التنبؤ تعتبر جزءًا أساسيًا في علم الفراسة، ومن المفاهيم الأساسية التي يعمل بها علم الفراسة. تحضر هنا نقطتان مهمتان. الأولى هي أن علم الفراسة علم غير ميكانيكي في الأساس. لا يمكن التعرف عليه أو وصفه عن طريق القواعد، وهو يقدم تعريفًا لا يمكن تحديده، وكذلك عدم كفاية الأدلة في إدراكنا الفيزيولوجي الذي لا يدل على أي نقص في المعرفة. والنقطة الثانية هي أن هذه “الظلال الدقيقة للسلوك” وغير المحددة تشكل مفاهيمنا النفسية، التي نستخدمها غالبًا في السياقات الجمالية.
يخبرنا تركيز فتغنشتاين على فكرة علم الفراسة في الحالة الموسيقية على أن التجربة الموسيقية تقبل بما يسميه “أدلة لا يمكن تخمينها وتشمل هذه الأدلة على لمحات وإيماءات ونبرات دقيقة وغير ملحوظة، والتي تعتبر كأساسات لمعرفتنا للإنسان، وهذه المعرفة الدقيقة لا يمكن تعلمها إلا من خلال التجربة والملاحظة وتبادل التلميحات. يقول فتغنشتاين عن ما نعتبره تعبيرًا بأنه “يتضمن ما لا يمكن التنبؤ به. في الألعاب اللغوية وخاصة اللعبة اللغوية للتعبير “تصير الأدلة الكافية إلى أدلة غير كافية بلا حدود”، وبالتالي لا يمكن تعلم نوع المعرفة المكتسبة من خلال القواعد الراسخة. إن مفهوم التعبر الموسيقي مثل مفهوم الروح، يتعارض تمامًا مع ما هو آلي.
وبما أنَّ الطرق التي لا حصر لها والتي قد نعزف بها مقطوعة موسيقية مع تعبير صادق هو دائمًا مُثبَت، فإنَّ عدم الثقة في هذا النوع من الأدلة ينعكس بشكل مؤثر على الطريقة التي نحاول بها توصيل معرفتنا بالجنس البشري. النجاح يعني أننا سمحنا للفتة موسيقية بأن تدخل إلى حياتنا واعتبرناها بأنها تعبّر عن أنفسنا، لقد بذلنا “رد فعل يتواصل فيه الناس مع بعضهم البعض.
التفكير في الموسيقى من منظور إنساني، حيث أن الموسيقى حسب فتغنشتاين “لا تنسجم مع نموذج سوى نموذج الموسيقى نفسها. وهذا البارادايم هو “إيقاع لغتنا وتفكيرنا وشعورنا”. إذا كانت الموسيقى تشير إلى ما هو أبعد منها، فلا يمكن اختبار وتقديم ذلك وفقًا للنموذج العادي للمعرفة، بل الأمر يتعلق بالحسّ المتناغم الذي يبعث ويحث على صقله، وفي كلمات فتغنشتاين فإنَّ “فهم الموسيقى هو إقرار بحياة الإنسان.
تتضمن مراسلات تم نشرها مؤخرًا بين فتغنشتاين ورودولف كودر على لفتات فلسفية موسيقية. يكتب فتغنشتاين بما معناه أننا نبدأ بسوء الفهم للموسيقى التي نؤديها، وهذا يعني أننا بإمكاننا الاستماع إلى أصوات داخلنا قد تدفعنا للتفاعل مع الموسيقى والانسجام معها من خلال الممارسة. وينتهي فتغنشتاين من هذه الفقرة بهذه الكلمات: “استمعوا بعناية لما تقوله هذه الأصوات في داخلك، سترى، وستسمع، وتعرف أكثر وأكثر عن نفسك”.
هذا المقطع بالتأكيد ليس نصًا فلسفيًا تقليديّ، ولكنها رسالة حميمة إلى صديق عزيز، تظهر شغفًا ونزوعًا واضحًا عند فتغنشتاين نحو الموسيقى.
مروان محمود: المحطة
إضافة تعليق جديد