محمد خاتمي: انفتاح فكري وجرأة في الاجتهاد
أسمع عن خاتمي - الرئيس السابق لإيران - منذ سنوات قليلة، وقد أغراني بقراءة ما وقعت عليه مترجماً إلى العربية من كتبه الانفتاح العقلي الذي تتميز به كتاباته، والنظرة الإنسانية التي لا تفارقها روح التسامح أو جرأة الاجتهاد التي لا بد من أن تصدم العقليات التقليدية الجامدة، سُنّية أو شيعية، خصوصاً حين تتحول الأصولية - من حيث هي جمود على أصول تتحول إلى تابوات لا تقبل المساءلة - إلى تقليد معادٍ للتفكير، كاره للاجتهاد، نافر من التغيير، ولا تزال كتابات الرجل نقيضاً للأصولية الجامدة في كل المجالات، ونقضاً غير مباشر لها من حيث منحى التفكير العقلاني المفتوح والمرن الذي تنبني عليه، ولا تفارقها في حركة العقل الذي يمضي في كل اتجاه من اتجاهات الممارسة، لكن من دون أن يفارق المبادئ الفاعلة في الحركة الحرة والموجهة لها، سواء في مرونتها أو انفتاحها أو حيويتها المتجددة. ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يلقي خاتمي - حين كان رئيس دولة إيران - خطاباً شهيراً في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وذلك في الحادي والعشرين من أيلول (سبتمبر) 1998، داعياً إلى حوار الحضارات، مؤكداً أهميته من منظور فكره العقلاني والإنساني معاً، ومؤكداً ما سبق أن قاله خافيير ديكويار - السكرتير العام الأسبق للأمم المتحدة - من أن العالم لم يتعلم بعد كيف يحترم بعضه بعضاً، وكيف تتعاون دول العالم كله كي تكون يداً واحدة، وصفاً واحداً ضد التخلف والتعصب والاستغلال. وكان خاتمي واعياً كل الوعي أن العالم كله يمر بلحظة تاريخية استثنائية من التحول الجذري الذي يفرض وعياً جديداً يصوغ أسئلة جديدة بدورها، ويرسم خرائط معرفية جديدة في الوقت نفسه. ولذلك يقترح خاتمي في خطابه على الجمعية العامة بأن يكون عام 2001 عام حوار الحضارات قائلاً ما نصه: «أقترح باسم جمهورية إيران الإسلامية، كخطوة أولى، أن تخصص الأمم المتحدة عام 2001 عاماً لحوار الحضارات، تحقيقاً لأمل جليل في أن يفضي هذا الحوار إلى تحقيق العدل الإنساني واستهلال الحرية الإنسانية».
ويمضي خاتمي مؤكداً دعوته فيضيف إليها ما يبررها في خطابه، وذلك بما نصه: «إن من أكثر إنجازات هذا القرن إيجاباً قبول الحوار ودلالة نبذ العنف، ودعم الفهم المتبادل في المجالات الثقافية والاقتصادية والسياسية، وتقوية أسس الحرية والعدل وحقوق الإنسان. وإن تأسيس التمدن وتقويته، سواء على المستوى الوطني أو العالمي، يعتمد على الحوار بين المجتمعات والحضارات بما يطرح الآراء والنزعات والتوجهات المختلفة. وإذا كرّست الإنسانية كل جهودها على أعتاب القرن الجديد والألفية الثالثة، كي تؤسس للحوار وتجعله مؤسساتياً، فتحل النقاش وتبادل الرأي محل العداء والمواجهة، فإنها تترك ميراثاً لا مثيل له في القيمة، لمصلحة أجيال المستقبل.
ووجدت كلمات الرئيس خاتمي ترحيباً من الحضور، خصوصاً من الذين اكتووا بنيران الصراعات العرقية والطائفية، وعانوا كوارث التعصب والتطرف والإرهاب الديني الذي لم يكن قد تعملق وتعولم وبسط أذرعه الأخطبوطية القاتلة على أقطار الكرة الأرضية وقاراتها. وكانت النتيجة صدور قرار الجمعية العامة بالترحيب بالمسعى الجمعي للمجتمع الدولي، وضم مقترح خاتمي إلى ما يدعمه من الدعوات والدراسات، وحتى التقارير التي صدر بعضها عن اليونيسكو مثل تقرير «تنوعنا الخلاّق» الذي كان بمثابة رد غير مباشر على ما يمكن أن تؤدي إليه نزعة الهيمنة التسلطية التي تفرض بها حضارة نفسها على غيرها، على نحو ما ورد في كتاب هنتنغتون عن صراع الحضارات سنة 1996، وهو الكتاب - الدعوي الذي أثار حركة واسعة متتابعة من الدعوات المناقضة التي رأت مستقبل الإنسانية الواعد قرين استبدال حوار الحضارات بصراع الحضارات.
وجاء خطاب خاتمي واقتراحه في وقته تماماً، ليس تعبيراً عن دول العالم النامي فحسب، وإنما تعبير عن التيارات الإنسانية الساعية إلى الحوار في الدول المتقدمة التي أدركت طليعتها الفكرية مخاطر استبدال الصراع بالحوار، وفرض هيمنة الدول الكبرى على الدول الصغرى في كل مجال، فضلاً عن خطر العولمة الصاعد بما انطوى عليه من نزوع توحيدي، يضع دول الكوكب الأرضي كله في نمط واحد، وقالب ثابت يفرضه الأعلى على الأدنى، والأقوى على الأضعف، ابتداء من الاقتصاد الذي تحميه التكتلات الرأسمالية الكبرى، مثل منظمة التجارة العالمية والشركات متعددة ومتعدية الجنسية، وليس انتهاء بالثقافة التي تعيد العولمة - فيما لا تزال تهدف - قولبتها في اتجاه حركة القطيع الإلكتروني الصاعد الذي يهجر الخصوصيات التراثية والهويات الحضارية القديمة التي رمز إليها الكاتب الأميركي نورمان فريدمان بشجرة الزيتون، وذلك في سبيل اللحاق بالعهد المقبل من اندفاعة القطيع الإلكتروني، خصوصاً في تمثيله الرمزي بالسيارة «لكزس» التي أصبحت رمز التقدم التقني في صناعة المواصلات التي هي الوجه الآخر من ثورة الاتصالات التي أحالت الكوكب الأرضي إلى قرية صغيرة، يتحكم فيها الأقوى (علماً ومعلومات واقتصاداً عابراً للقارات) في الأضعف الذي لا يزال مضطراً إلى استيراد التكنولوجيا وليس الإسهام في إنتاجها، والامتثال إلى ما يفرضه تكتل الشركات المتعددة والمتعدية الجنسية من قواعد اقتصادية صناعية لا تعبأ بالحدود القديمة لما يسمى الدولة الوطنية، أو الثقافة القومية، قديماً.
ولم يكن من الغريب أن يجد اقتراح خاتمي وكلماته صدى طيباً من أولئك الذين يرفضون مبادئ الهيمنة، والعولمة التي أصبحت الوجه الآخر لصراع الحضارات ودعواتها، فيصدر عن الجمعية العامة قرار ترحيب بمسعى المجتمع الدولي لتعزيز التفاهم في الكوكب الأرضي محل التنابذ، واستبدال الحوار بالصراع، والتعاون المتبادل بالهيمنة وحيدة الاتجاه. وقررت الجمعية العامة إعلان سنة 2001 عام الأمم المتحدة لحوار الحضارات. واقترن ذلك بدعوة الحكومات ومنظمات الأمم المتحدة، وبخاصة منظمة الثقافة والتربية والعلوم، وغيرها من المنظمات الدولية المعنية والمنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني على امتداد الكوكب الأرضي، لوضع برامج ثقافية وتعليمية واجتماعية لتعزيز مفاهيم الحوار بين الحضارات، وتأصيل مقابله الاقتصادي القائم على التعاون ودعم العالم الأول للعالم الثالث، في علاقة أكثر تكافؤاً بين الشمال والجنوب، بعيداً من الهيمنة والتدخل في الأوضاع الداخلية، ومن ثم عدم الاعتراف بالحق المتأصل لدى كل شعب لاختيار طريقه النوعي إلى التقدم، في تبادل فعّال من تعدد النماذج وتنوع الأنماط الثقافية والتجارية والسياسية... إلخ. ولم ينسَ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة دعوة الجميع إلى تنظيم المؤتمرات والحلقات البحثية وصوغ خرائط معرفية جديدة وتصورات مستقبلية واعدة، حول الموضوع، وإبلاغ السكرتير العام بأنشطتها المتجاوبة - أو المفترض تجاوبها - ما بين أقطار الكوكب الأرضي التي أصبحت قرية كونية.
وبدأت استجابة التأييد لاقتراح خاتمي الذي تبنته الأمم المتحدة بأن أصدر السكرتير العام قراراً بتشكيل لجنة من حكماء الكوكب الأرضي تنوب عن كل عقلائه، مكونة من كبار المثقفين الذين ينتسبون إلى أقطار العالم المختلفة، وذلك لصوغ تقرير يحمل وجهة نظر الأمم المتحدة في الموضوع. وبالفعل، اجتمعت اللجنة التي ضمت ممثلي العالم (ومنهم حنان عشراوي الفلسطينية، وأحمد كمال أبو المجد المصري، والأمير الحسن بن طلال الأردني، وجاويد ظريف الإيراني)، وواصلت اللجنة عملها - في جمعها بين ممثلي الشمال والجنوب - إلى أن انتهى تقريرها الذي أصدرته الأمم المتحدة بعنوان «عبور الانقسام» في عام 2001. وكان ذلك بعد شهر واحد من أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الدامية التي كانت العلامة الكبرى لعولمة الإرهاب الديني (المنسوب ظلماً إلى الإسلام) وبداية العمليات الإرهابية التي سرعان ما انتهكت شروط الحوار في عواصم العالم المختلفة، عبر القارات. وذلك في سياق عولمة الإرهاب الديني، مقابل عولمة الإرهاب الاقتصادي والعسكري الذي تصاعدت دعاواه في الولايات المتحدة. ولا تزال هذه الدعاوى متصاعدة بسبب اليمين الحاكم الذي يقود الولايات المتحدة إلى ما انتهت إليه. وهو الأمر الذي اقترن بصراع الأصوليات على نحو ما تحدث عنه في شكل مقنع (لي على الأقل) المبدع والمفكر الباكستاني الأصل طارق علي في كتابه «صدام الأصوليات» الذي عرضت له في إحدى مقالاتي بهذه الصحيفة (في 23/10/2002). وكان ذلك في سياق اهتمامي بموضوع «حوار الحضارات» الذي لا أزال مقتنعاً بشرح خاتمي له، ومؤمناً بالدعوة التي وجهها إلى العالم، عبر الأمم المتحدة، لصيانة ممارسة الحوار والتفاعل والتعاون والاعتماد المتبادل، مقابل ممارسة الصدام والصراع والتنابذ والأنانية والهيمنة التي لا تزال مقرونة بأشكال من الاستعمار المستحدثة، مما نرى نموذجها في العراق على الأقل، وهي الأشكال المنحازة والمتحالفة مع الممارسات الإسرائيلية اللاإنسانية التي تستبدل الصراع بالحوار، والهيمنة بالتعاون، والإرهاب بالسلام، وقرن العنف الوحشي بتجاهل حق الآخر في الحياة التي تضمنها المواثيق الدولية الحامية لحقوق الإنسان واستقلال الأمم وحقها في تقرير مصيرها.
ومرّت الأعوام، ولم يتوقف حرصي على ما يكتبه حجة الإسلام السيد محمد خاتمي (المولود سنة 1943 في أردخان) الذي أصبح الرئيس الخامس للجمهورية الإيرانية الإسلامية، ابتداء من الثاني من آب (أغسطس) سنة 1997، وانتهت ولايته الثانية في آب نفسه من سنة 2005، ولا أزال أتابع كتب خاتمي التي تُرجم العديد منها إلى اللغة العربية، خصوصاً بعد أن عرفت أنه حصل على درجة الليسانس في الفلسفة الغربية من جامعة أصفهان، وظل محافظاً على اهتماماته البحثية التي لم يتوقف عن متابعتها، خصوصاً في المجال الفكري، وذلك منذ أن ترك التعليم الأكاديمي أثناء إعداده أطروحته لنيل درجة الماجستير من جامعة طهران، وذهابه إلى «قم» ليكمل دراساته السابقة في العلوم الإسلامية، حيث قضى سبع سنوات، وصل فيها درسه إلى أعلى مستويات الاجتهاد. ورحل بعد ذلك إلى ألمانيا ليترأس المركز الإسلامي في هامبورغ، ويمارس البحث والتدريس إلى أن قامت الثورة الإيرانية، فعاد إلى وطنه، وينغمس في علاقات الصفوة الحاكمة التي أوصلته إلى رئاسة الجمهورية، فكان أول رئيس في عالمنا الإسلامي، تنطبق عليه صفات العلم والفكر، ويجمع ما بين طبيعة الباحث والمتأمل ورجل الدين والسياسي العملي، في الوقت الذي لم يفارق نزعته العقلانية التي اكتسبها من دراسة الفلسفة، ولا نزعته الإنسانية التي أتقن أصولها في تراثها، وأضاف إلى الوجه القديم لأصالتها الوجه الحديث لمعاصرتها. ولذلك كان، وسيظل، رئيساً فريداً بين الرؤساء، أقرب إلى صفات الحاكم الفيلسوف الذي قصد إليه أفلاطون في «الجمهورية» التي صاغ بها يوتوبياه السياسية الاجتماعية الفكرية.
جابر عصفور
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد