أوغاد وسيكس وإعلام
الجمل- بشار بشير: لا تقتصر خيرات الإعلام السعودي والخليجي التي أتحفنا بها على القنوات الإخبارية والسياسية المتخصصة ببث السموم، فهو قدم لنا أيضاً الفضائيات الفنية والدرامية وفضائيات عرض الأفلام والمسلسلات الأجنبية ( الأمريكية ).
سأعتمد هذه الفضائيات كمثال في هذه المقالة , مثال على الإنفصام الحاد في الشخصية الذي تعانيه هذه القنوات الفضائية ومجتمعاتها من ورائها نتيجة محاولتها أن تكون في مكانين مختلفين في الوقت نفسه, المكان الأول هو المجتمعات الخليجية المنغلقة والمتزمتة , والمكان الثاني تفرضه تبعية هذه القنوات (ومجتمعاتها ودولها) لأمريكا مما يجبرها على تمثل الشكل المجتمعي الأمريكي المختلف تماماً عن شكل مجتمعاتها والمختلف أيضاً عن مجتمعات كل المنطقة شكلاً وتوجهاً , لكن ذلك لا يمنع الفضائيات الخليجية من محاولة تسويقه بكل حماس . .
نبدأ مع البرامج الحوارية الأمريكية التي تبثها هذه الفضائيات متزامنة تقريباً مع وقت بثها على القنوات الأمريكية وهي برامج تعنى بالشؤون الأمريكية الإجتماعية أكثر من السياسية مع مسحة كبيرة من التعاطف و التأثر بالأفكار الإسرائيلية واليهودية .
قد يحق للنخب الثقافية العربية شكر هذه الفضائيات لإتاحتها الفرصة لمتابعة الإعلام الأمريكي والتعرف على آرائه وتوجهاته ومن ثم آراء وتوجهات المجتمع الأمريكي ( لا أظن أن هذا مقصد الفضائيات المذكورة) ولكن ماذا عن ملايين المشاهدين العاديين الذين يُلَّقنون ما يرد في هذه البرامج دون أن يكون لديهم أي فرصة لغربلة أفكارها , أي أن أفكارهم أصبحت تُقولَب على يد " عدوهم المباشر" أو على الأقل فإن أفكارهم أصبحت تقولب على شكل مجتمع هو أبعد ما يكون عن شكل مجتمعهم وقيمهم ودينهم وشكل حياتهم . ولابد هنا أن نلاحظ أن البرامج التي تختار الفضائيات الخليجية عرضها هي البرامج المتوافقة مع السياسة الأمريكية والتي نادراً ما تنتقد أمريكا والساسة الأمريكان والسياسات الأمريكية (بالطبع كل ما ينطبق على أمريكا في هذه البرامج ينطبق أيضاً على إسرائيل) وتبتعد هذه الفضائيات عن عرض أي من البرامج التي تشتهر أو يشتهر مقدموها بنقد المذكورين آنفاً .
تعرض الفضائيات الخليجية والسعودية بشكل مستمر أفلاماً ومسلسلات أمريكية ولم يعد خافياً على أحد أن هوليوود وأفلامها ومجمل الإنتاج الدرامي الأمريكي هو أحد أسلحة أمريكا المهمة في تعميم الأفكار الأمريكية و الدعاية لأمريكا وسياساتها و تعميم الصور النمطية عن الشعوب والبلدان والأديان والسياسات حسب ما تريده وترتأيه أمريكا , ولكن سأتجاوز كل هذا لأن الأفلام والمسلسلات الأمريكية منتشرة بكل مكان ومتابعة من كل الناس ولا يمكن تحميل مسؤولية إنتشارها لبضع محطات فضائية خليجية .
لكن يهمني هنا الطريقة العجيبة التي تتعامل بها الفضائيات الخليجية مع الأفلام والمسلسلات الأمريكية . فهذه الفضائيات المسكينة تبلع الموس على الحدين فهي من جهة محكومة بشكل مجتمعاتها المتزمتة ومن جهة أخرى محكومة بطاعة أمريكا بحيث لا يمكن أن ترفض الترويج لها ولأفكارها لذلك يمكنك أن ترى على هذه الفضائيات أموراً غريبة لايمكن أن تصنف إلا في خانة الإنفصام الحاد في الشخصية وسأورد هنا بعض الأمثلة : فيلم أمريكي يمجد اليهود عبر كذبة خيالية يوردها الفيلم وهي أن بنت فرنسية يهودية تقوم بالتعاون مع فرقة كوماندوس أمريكية بإغتيال هتلر أثناء زيارته لباريس بعد إحتلالها من قبل الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية . اسم الفيلم إذا شئنا ترجمنه للعربية الفصحى المؤدبة هو : ( أوغاد مغمورين ) وإذا شئنا ترجمته كما هو حقيقة فيكون:(أولاد حرام مَعيبين أو مغمورين).
الفضائية المذكورة لم تجد أي غضاضة في عرض فلم يمجد خلال ساعتين من الأكاذيب الخيالية اليهود لكنها وجدت غضاضة كبيرة في أسم الفيلم الذي لا تملك حق تغييره فوجدت الحل في كتابته هكذا (inglorious *#@>&%~ ) أي ( *#@>%& مغمورين) وهكذا نأت بنفسها عن كتابة الكلمة المشينة أما عند قراءة اسم الفيلم فكانت تضع صوت "بيييب" بدل الكلمة إياها (أي أولاد الحرام أو الأوغاد) كم يجب أن نشكر هذه المحطة لتمسكها بالأخلاق العربية الإسلامية وببذلها لمجهود تشكر عليه كي لا يصل إلى سمعنا ما يخدش حياءنا وحياء مجتمعنا المحافظ , وعلينا بعد هذا أن نسامحها في مضمون الفيلم الذي يهيننا نحن والإنسانية جمعاء بكذبه وعنصريته . محطة أخرى تريد أن تعرض مسلسلاً أمريكياً شهيراً اسمه (الجنس والمدينة) بالإنكليزية (sex and the city) وهو مسلسل يحكي قصة أربعة صديقات نيويوركيات ومغامراتهن الجنسية مع أصدقائهن الرجال و النساء أيضاً وهو مسلسل يناسب مجتمع غاية في الإنفتاح إن لم نقل بالإنحلال الأخلاقي كمجتمع مدينة نيويورك مثلاً أو " التفاحة الكبيرة " كما يحب أهلها أن يسمونها, ولا يمكن أن يناسب على الإطلاق مجتمع مدينة الرياض مثلاً ( الذي هو أقرب للبطيخة المغلقة) ولا أدري كيف أمكن المحطة المعنية أن توفِّق بين عرض هذا المسلسل ببطلاته شبه العاريات (أو العاريات ) وبين مذيعاتها اللواتي يقدمن حلقات هذا المسلسل وهن يلبسن الحجاب الأسود ( نعود لموضوع إنفصام الشخصية ) و اللافت في الموضوع هو الحرج الذي أصاب الفضائية إياها من اسم المسلسل ( الاسم فقط أما المضمون فالأوامر الأمريكية واضحة بشان عرضه مما يرفع أي حرج ) لذلك أرتأت إجراء تعديل بسيط على الأسم فقد ألغت الترجمة العربية للأسم ثم أخذت أول حرف من كل كلمة بالأسم الأجنبي وجمعت الأحرف ليصبح الأسم ( S.A.T.C ) ( اس .ايه . تي . سي ) نعم هكذا أصبح أسم المسلسل الشهير ولم يبق لنا إلا أن نشكر أيضاً هذه الفضائية التي ناضلت كي لا تخدش سمعنا بكلمة ( جنس أو سيكس) وفي نفس الوقت نفذت تعهداتها بعرض قذارات مجتمع نيويورك لنا .
وأنا أكتب هذه المقالة ظهر على شاشة واحدة من هذه الفضائيات مذيع ( شاب خليجي) وقدم برنامجاً لكشف المواهب بقوله : كانت المحطة الأولى للبرنامج في مصر وحين وصلنا للقاهرة وجدنا فعلاً مظاهرات ضخمة ولكنها لم تكن مظاهرات سياسية بل كانت كلها تجمعات الراغبين بالتقدم لهذا البرنامج ( يا حرام مرسي تخلى عن الرئاسة بسببب تجمع المشتركين ببرنامج فني ظنهم خطأ متظاهرين معترضين على سياساته ) .
وبما أننا فتحنا سيرة هذه البرامج أريد أن ألفت النظر إلى عدد البرامج الكبير وإلى الميزانيات الضخمة المرصودة لبرامج إكتشاف المواهب الغنائية على هذه الفضائيات وكلها برامج ذات أصول أجنبية وتقام تحت إشراف البرامج الأجنبية , لا أمانع في وجود برنامج يكتشف المواهب الفنية والغنائية ولكن أن لا يكون لدينا إلا هذا النوع من البرامج التي تغرقنا وتخنفنا بطوفان من المغنبن المترافقين مع إثارة الغرائز القبلية والقطرية التي تساهم في قوقعة كل شعب من شعوب المنطقة ضمن جزيرته وتزيد في نسبة إنفصاله وربما عداوته للشعوب الأخرى , هذا ما تفعله هذه القنوات فما يبقى من عقلنا بعد عمليات التوسيخ والتحريض السياسي والطائفي التي تقوم بها القنوات الإخبارية والسياسية الخليجية والسعودية تستلمه القنوات الفنية لتصيبه بإنفصام حاد وبغياب للمنطق و بإنفصال عن الواقع لصالح الإقتناع بالأكاذيب والسخف والمظاهر الفارغة.
مئة مليون أمي عربي، وخمسون مليون جائع عربي، تعرض لهم الفضائيات الخليجية والسعودية مغنية مكتشفة للمواهب تظهر في واحد من البرامج إياها لتتباهى بفستانها الذي كلف مليون دولار , أرجو أن يكون منظر الفستان قد ملأ عقلهم حروفاً ومعدتهم طعاماً. مئة مليون إمرأة عربية مقهورة مسلوبة الحقوق و عشرات ملايين النساء العربيات المجبرات على التحجب والإحتجاب والتخلي عن حقوقهن تقدم لهم الفضائيات المذكورة نسختها ( المفروضة أمريكياً) من المراة الخليجية عبر فنانة ( خليجية ) تنثر شعرها في الهواء متباهية بأن الذي صففه هو " فنان تصفيف الشعر " فلان وهذا مسموح لها طالما أنها تظهر في برنامج مأخوذ عن أصل أمريكي أما النساء اللواتي سيظهرن في برامج محلية على نفس الفضائية فيجب أن يكن محجبات والأفضل منقبات فمن شروط انفصام الشخصية أن نكون عرب منغلقين وأمريكان منحلين في نفس الوقت .
يعيش إنفصام الشخصية , تعيش أمريكا ومفاهيمها , والخلود للإعلام .... " الخليجي" .
الجمل
إضافة تعليق جديد