إستراتيجية مواجهة «الجهاديين» تحت مجهر التقييم الأوروبي
تسود الحيرة والارتباك وقلة الحيلة داخل الأروقة الأمنية الأوروبية... رغم كل الاحتياطات، فعلها «الجهادي» مهدي نموش. عمليته هي الأولى من نوعها، ومعها لم تعد الاعتداءات الإرهابية في أوروبا مجرد كوابيس وتهديدات محتملة. الأنكى أن ما فعله شكل فشلاً مدوياً لأجهزة الأمن الفرنسية، برغم ما يجري من محاولات للتغطية عليه سياسيا.
صدى عملية الشاب الفرنسي يلاحق وزراء الداخلية والعدل الأوروبيين، وهم يجتمعون اليوم في لوكسمبورغ. الملف الأساسي على طاولتهم هو «المقاتلون الأجانب»، الذاهبون والعائدون من سوريا. سيقيّمون سنة ونصف السنة من وضع الاستراتيجيات وتنفيذها لمكافحة الظاهرة.
لكن رغم النقلة الكبيرة التي شكلتها العملية، يؤكد ديبلوماسي غربي، عمل على التحضير للاجتماع، أنه لا يمكن التصرف وكأن الاعتداء الإرهابي فاجأهم.
ورداً على الأسئلة قال الديبلوماسي الغربي إنه «ليس متوقعاً من الاجتماع تقديم أي استجابة عاجلة، سنواصل ما كنا نفعله»، موضحاً أن «مأساة بروكسل جلبت المزيد من التركيز على القضية، لكن النقاش سيكون على مستوى الإستراتيجية، وليس للتداول حول حالات فردية».
خطط الأوروبيين توزعت على عناوين عدة: الرصد والمراقبة لمعرفة من يريد السفر إلى سوريا لمنعه، تكثيف تبادل المعلومات، والعمل على الاحتياط من مخاطر عودة «الجهاديين». ويكشف الديبلوماسي الغربي أن اجتماع لوكسمبورغ سيناقش إستراتيجية جديدة لمكافحة التطرف.
وبالإضافة إلى الاجتماع الموسع لمجلس وزراء الداخلية والعدل الأوروبيين، الذي يستمر يومين، من المنتظر أن تعقد الدول الأوروبية الأكثر تعرضاً لظاهرة «الجهاديين» اجتماعاً للتباحث حول زيادة التنسيق بينها.
المفارقة أنه ما من شيء كان يمكنه السخرية من خطط الأوروبيين مثل مسار عملية نموش. فالدولتان المعنيتان مباشرة بالاعتداء، فرنسا وبلجيكا، هما الأكثر نشاطاً لمواجهة خطر «الجهاديين». مع ذلك، فإن كل الاحتياطات لم تمنع مواطناً فرنسياً من الانتقال إلى بلجيكا لينفذ هجومه، ولولا تدخل الصدفة لكان لا يزال طليقاً.
وجرت العديد من محاولات التغطية على الفشل الأمني الفرنسي في إيقاف نموش، ومن أبرزها شيوع الحديث عن أنه «ذئب مستوحد». واصطلحت هذه التسمية للحديث عن شخص معزول، يتحول إلى التطرف وحده، وينفذ اعتداء من دون التنسيق مع أحد. أشهر الأمثلة على ذلك حالة النرويجي أندرس بريفيك، الذي نفذ اعتداء إرهابيا هز بلاده وقتل 77 شخصا في أيار العام 2011. أمام كومبيوتره كان الإرهابي النرويجي يبني عقيدته المتطرفة وحده، قبل أن يخطط وينفذ اعتداءه بجهد شخصي بحت.
بالطبع تشكل حالة «الذئب المستوحد» تبريرا جيدا لأجهزة الاستخبارات، فالحديث سيكون حينها عن هدف مجهول ومعزول وغير متوقع. بالنسبة إلى حالة نموش، يقول الخبراء الأوروبيون إنها أبعد ما يكون عن حالة «الذئب المستوحد».
هذا ما أكده المنسق الأوروبي لمكافحة الإرهاب جيل دو كيرشوف، خلال مقابلته . وقال إنه «من النادر جدا» وجود «ذئب مستوحد» نظرا لمواصفات نموش الشخصية وطبيعة عمليته، موضحا أنه ليس بالضرورة أن تكون خلفه «منظمة معقدة».
هذا الاستنتاج أكده أيضا أندريه فان دورن، رئيس وحدة تقييم الخطر الإرهابي وتحليله في بلجيكا. وقال لوسائل إعلام محلية «يبدو لنا أنه حتى لو تصرف نموش وحده في لحظة الهجوم، لكنه كان على اتصال مع آخرين». وليطرد الاحتمال الذي راج في فرنسا، أوضح أن «ما نسميه ذئبا مستوحدا هو شخص يتطرّف ثم يتصرف وحده، لكن نموش كان في سوريا وتلقى تدريبا هناك. إذاً لا يمكننا الحديث عن ذئب مستوحد هنا».
لم تكن تلك المحاولة الوحيدة للتغطية على الفشل الأمني الفرنسي. حالما تم القبض على نموش، خرج الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند للإشادة بفعالية أجهزة استخباراته. بدت كلمات المديح التي أغدقها كاريكاتورية. الساعات القليلة التي فصلت بين اعتقاله والإعلان عن ذلك، كانت كافية كي تتداول الأجهزة الأمنية اسمه وتدرك خطأها القاتل. فمنفذ هجوم بروكسل، الذي أودى بحياة أربعة أشخاص، ليس شخصا مجهولا. ليس فقط لكونه سجينا سابقا، بل لأن الاستخبارات الفرنسية علمت برجوعه من «الجهاد» في سوريا. طريق عودته حملته إلى ألمانيا آتيا من ماليزيا، وحال وصوله قامت أجهزة الأمن الألمانية بإخطار نظيرتها الفرنسية. الأخيرة قامت برصده لكنها فقدت أثره.
ما يزيد الحرج أن الاعتقال حصل بالصدفة البحتة. «الجهادي» الفرنسي كان يستقل حافلة نقل عام، قادما من أمستردام باتجاه مرسيليا. نشاط تهريب المخدرات على هذا الخط كان وراء قيام أجهزة الشرطة بتفتيش الحافلة. أما خطوط النقل الأخرى فيجري تفتيشها عبر اختيار عينات عشوائيا.
ولم تستطع السلطات البلجيكية الاستمرار في تمثيلية التغطية هذه. صدرت مواقف عديدة تفتحها «لو». في إشارة إلى ضعف الخطط الفرنسية، قال الأمنيون في بلجيكا إن عملية نموش ما كانت لتمرّ لو أنه مواطن بلجيكي. كل شخص تعرف الأجهزة البلجيكية بأنه قاتل في سوريا يجري تعميم اسمه على «الانتربول»، ولو كان نموش بلجيكياً لكان اعتُقل مباشرة عندما وصل إلى ألمانيا بمعرفة السلطات هناك.
قطع مهدي نموش تذكرته مستخدما اسمه الصريح، ليسافر في حافلة لخطوط «يورو لاينز» المعروفة. لذلك عاد الحديث عن ضرورة وجود بنك مشترك للمعلومات حول «بيانات المسافرين». منع البرلمان الأوروبي مرور هذه الاتفاقية سابقا، خوفا على الخصوصية بعد فضائح التجسس، لكن وزراء الداخلية سيتداولون حول مقترحات جديدة لتقديم بدائل.
لكن «شياطين» القلق كانت تحضر سلفا على كل طاولة نقاش. هناك أصوات أوروبية خرجت لدعم فكرة التعاون الأمني مع الاستخبارات السورية. حصل ذلك خلال اجتماع بروكسل للدول المعنية بالملف، في أيار الماضي. هذا ما يؤكده ديبلوماسي رفيع المستوى اطلع على أجواء الاجتماع.
عندما سألنا مسؤولا أمنيا أوروبيا، أكد بدوره أن المسألة تم تداولها. هناك خلافات أوروبية حول هذه النقطة. لا يفكر الأمنيون بالاعتبارات السياسية، بل يعنيهم ضمان نجاح مهامهم، لكن السياسيين يعنيهم أكثر تجنب إظهار أي انفتاح على النظام السوري. يقول المسؤول الأمني إن «السياسة الخارجية الأوروبية لديها رأيها وتوجهها، لكنّ لدي رأيا مختلفا»، مفضلا عدم الدخول في التفاصيل.
مقايضة الانفتاح السياسي بالتعاون الأمني غير واردة الآن للسياسة الأوروبية. على الضفة الأخرى، أوصل نظام دمشق رسالة واضحة بأنه ليس جمعية خيرية، ولن يقدم تعاوناً أمنياً مجاناً على طبق. كل هذه المساومات تكرّس إحكام القبضة السياسية على ملف «الجهاديين»، وتمنع معالجته باعتباره ملفا أمنيا بالدرجة الأولى.
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد