«الطوفان».. من شلالات الماء إلى شلالات الدم
يحيلنا عنوان عرض «الطوفان» (مسرح الحمراء، 28 أيلول - 2 أكتوبر) لمخرجه سهيل عقلة على حكاية إحدى القرى السورية التي يجتمع أعيانها ووجهاؤها للبحث في كيفية مواجهة خطر الطوفان القادم إلى بلدتهم؛ لتنشب بينهم خلافات عميقة لا تلبث أن تصير بعد أن أتى الفيضان على أكثر من ثلاثين قرية؛ قصة يستلهمها مؤلف العرض الكاتب جوان جان من الفيضان الذي ضرب سد زيزون شمال غرب البلاد، منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً؛ متسبباً بمقتل العشرات وتشريد المئات من الفلاحين السوريين واختفاء قرى بكاملها؛ فما كان قد قدمه المخرج الراحل عمر أميرالاي في فيلمه «الطوفان» كوثيقة سينمائية، عادت فرقة مسرح العمال السورية لتحقيقه هذه المرة على الخشبة عبر جهد عشرة ممثلين وبالتعاون مع المسرح القومي بدمشق. ولعل الفرقة العمالية التي تقدم هنا النسخة المسرحية الأولى عن «الطوفان» أراد لها كل من مخرج العرض وكاتبه أن تكون نسخةً مصدّقة عن الحرب الدائرة في البلاد من قرابة أربع سنوات؛ فالطوفان تداعى من فيضان شلالات الماء إلى فيضان شلالات الدم؛ هذا بدا واضحاً في اللوحة الصوفية التي اعتمدها مخرج العرض كفاتحة لمسرحيته؛ موجهاً نقداً مباشراً للمؤسستين الدينية والسياسية؛ وفي بعض منها للمؤسسة الاقتصادية؛ فالممثلون هنا هم بقايا فرقة عمال سورية أصبحت اليوم خارج مصانعها وخطوط إنتاجها ومدنها العمالية.
يمكن قراءة أكثر من إسقاط لهذا «الطوفان» الذي تجلى سينمائياً منذ سنوات طويلة، ليمتثل هنا إلى ما يشبه إعادة إعلان موقف حاسم ونهائي من جماهير الطبقات العاملة والمنظمات الفلاحية التي وجدت نفسها في عراء التجويع والإفقار والنهب الممنهج لقوة عملها ومحاصيلها مع مطلع الألفية الثالثة؛ وسيطرة حكومات رجال الأعمال وريعية اقتصاد السوق الاجتماعي على مصير عشرات الآلاف من الفقراء وصغار الكسبة؛ ولهذا اعتمد مخرج العرض على البقية الباقية من «الممثلين - العمال» للوقوف أمام الجمهور الآتي بدوره من المشهد الدامي ذاته؛ فليست المفارقة هنا أن العمال والفلاحين هم من يقومون بأداء أدوارهم على الخشبة، بل هي مفارقة تطابق شخصية الممثل مع الشخصية التي يلعبها؛ فكأن الحرب أزاحت المسافة بين الممثل والدور المسند إليه؛ بل لكأنما الجمهور السوري صار هو الآخر صورة فوتوكوبي عن المأساة؛ كون مادة التراجيديا الممزوجة بالسخرية ومخزون الشخصية الشعبية هي ذاتها أيضاً نوع من المماثلة الصادمة؛ فالجمهور أيضاً هو كذلك الأمر تورية عن فيضانات متتابعة؛ هي في صميمها انفجاراتٌ بشرية في وجه تهميش الريف وتشريد سكانه؛ وجعلهم فيما بعد صورة كاريكاتورية مرعبة في مسلسلات التلفزيون؛ ومادة بحتة للضحك والتندر والأحقاد الطبقية. كل هذا يمكن ملامسته في العرض الذي قدمه كل من «جان» و«عقلة» وفق أسلوبية فنية جعلت من المضافة مكاناً موضوعياً للحدث الدرامي؛ مؤكدةً على زمن الطوفان الآني عبر وضع ورقة الرزنامة - التقويم في تاريخ يوم العرض؛ وذلك كمحاولة لتحقيق وحدات الزمان والمكان والحدث؛ مع فارق بسيط للغاية كان قد ظهر في نهاية المسرحية؛ وهو الإصرار على رؤيا تشاؤمية جعلت من تاريخ زمن العرض أحداثاً مستمرة حتى عام 4130 ميلادية؛ مما عزز المباشرة الفنية في أحيانٍ كثيرة؛ أضف إلى لجوء المخرج إلى استخدام الأقنعة في بعض المشاهد للعمل على أسلبة الأداء وتغريبه، لكن هذا لم يكن في مصلحة بنية «الطوفان» الذي بدا أكثر نضجاً من غيره من عروض المحترفين؛ فمسرح الهواة أثبت في كل مرة مشروعيته وجرأته في طرح موضوعاته؛ سوى أن الهواة هاهنا من عمال وفلاحين ومثقفين يموتون اليوم في البلاد؛ بل أعتقد أن هؤلاء هم أحجار السُبحة التي استخدمها المخرج كإطار للفضاء، ثم تركها تفرط حبةً تلو حبة فوق أعين الضحايا.
سامر محمد إسماعيل
السفير
إضافة تعليق جديد