أدونيس: (كيركيغارد، وجهٌ مرسومٌ على الهواء)
(زيارة إلى كوبنهاغن)
I - شمسٌ في الشوارع
كلّ نظــرةٍ تلقيـهـا الشمــسُ على كوبنهاغن،
تتحوّل إلى حدائقَ وتماثيلَ،
إلى انحِناءٍ سماويٍّ كمثل كنيسةٍ
تسبح في الفضاء،
ويُضيئُها الأسقف أَبْسالُون.
لهذه النّظرة أبجديّةُ هوامِشَ وتفاصيل
قرأَها عليّ ذلك الطّالعُ من الأبجديّة الأولى،
حنّا زياده.
في كلِّ هامشٍ، في كلِّ تفصيلٍ،
شبَحٌ يتصاعد من فضاءٍ يتموّج بين يدَي أبسالون.
هكذا،
في الشّوارع والأزقّة، القصور والمتاحف،
الأقنية والمَراكِب، السّاحات والحدائق والتماثيل، البيوت والمقاهي،
نُعايِش الغياب والحضور، الماضيَ واللحظة الحاضرة،
الحياةَ وابنها الموتَ،
في سُرادِقٍ واحد.
هكذا طافَ بي حنّا زياده،
في أرجاء كوبنهاغن، عاشقاً كلَّ نقطةٍ فيها، كأنّها بيتُه،
وكأنّها المكان الذي التقى فيه الشّخصَ الأوّل الذي أحبّه.
وشعرْتُ في طوافِنا كأنّه يقول لي:
" كلّما ظَهرتِ الشّمسُ في سماء كوبنهاغن
تسير في الشّوارع،
وتقَبِّل الإنسان الأوّل الذي تُصادِفه.
بَلَى، تسير الأسطورةُ والواقع في كوبنهاغن،
يداً بيدٍ، بحراً وجوّاً وبرّاً،
يتّكئ التُّرابُ على الماءِ،
فيما يتعالى غيوماً وصواري وأشرعة.
نَوِّعْ أسماءك وكرّرها على مسمع كوبنهاغن
أيُّها الدّخان الذي يتصاعَد من نيران المُخَيِّلة.
كيركيغارد،
أكيدٌ أنّ الحجر حول تمثالك الوديع الجميل، يتمرّن على التأمّل.
رأيت، عندما لمستُه،
كأنّ الزّمن يشيخُ في ظلِّه، وإلى جواره،
بينما تبدو الطّبيعة كأنّها طفلةٌ
تحتفي بعامها السّادس عشر.
ربّما لهذا تمدّ الأمواج وتجزُر في أرجائهِ
لكي تمتحن ذاكرة المدينة.
ربّما لهذا،
تبدو الكنائس، المتاحف، القصور
كأنّها أناشيد يردّدها الحجرُ بصوت التّاريخ.
في كلّ نشيدٍ عِرقٌ بحْريٌّ
في كلّ عِرقٍ إيقاعُ عَرَقٍ يتقطّر من سواعد السّفن.
كيركيغارد،
وجهُك مرسومٌ على الهواء، وعلى خيوط الشّمس،
خِلافاً لما تقوله شرائع المادّة.
في مرآتكَ، تتصفّح السَّماءُ تجاعيدَها.
كم هو فادِحٌ ذلك الخطأ، خطأ العيش
في ظلٍّ لا يجيء من غابة القلب.
نحيلةٌ هذه الوردة، وتشبه وجهَ كيركيغارد،
وهذه العُشْبَةُ أختٌ لقدميه.
هنا، أمام تمثال كيركيغارد
يصعُب التّصديق أنّ تلك المخلوقات التي تُسمّى الملائكة،
يمكن أن تكرهَ الجسد.
كوبنهاغن -
شوارع، غيومٌ، والحوانيت نجومٌ ساهرة،
كلُّ بلاطةٍ دفتَرُ أسمَنْتٍ يحاول أن يُغيِّرَ اسْمَه،
وهو يستقبل البحرَ الآتيَ في سفنٍ من النّوارس.
جسمُك، أيّتها الجميلة العابرة، بحيرةٌ يتطاير فيها
نورسان طفلان: نهداكِ.
وأنتِ أيّتها المخيِّلة،
واكبي تلك الكتب التي تسير في الشوارع
آمنةً مُطمَئِنّة.
لم أرَ الشّمسَ تخلع حذاءها في شوارع كوبنهاغن،
لكنْ يَلَذُّ للريح أن تمشي حافيةَ القدَميْن.
ماذا تعرفين أيّتها الشمس عن الإنسان؟
ماذا تعرفين عن فقر القمر في كوبنهاغن
وغِنى المجَرّات؟
عن المسافرين بين الصّمت والصَّمتِ، الكلمة والشّيء؟
وماذا تعرفين عن تخزين مَرَق الذّرَّةِ
في أنابيق السّياسة؟
أسألك أيّتها الجالسة على عرش الكون،
وبكِ أغَطّي جَهْلي.
تزَوّجْني: كلمةٌ لا تملّ شمس كوبنهاغن من تكرارها،
خاشعةً في حضرة البحر.
نَوْرَسٌ ميِّتٌ
في زاوية شارعٍ قربَ الشّاطئ
لا يزال ريشُه أبيضَ وحيّاً.
تخيطُ له الزّاوية ثوباً شفّافاً من الغبار والرّيح،
ويرتفع جدارُها فوقه كمثل شراعٍ مُمَزَّق.
لا أحدٌ، لا الموتُ نفسُه، يعرف
أين يتّجه هذا البحَّارُ الميت.
وددتُ أيّها البحّار، لو استطعتُ أن أسألَك:
من أين تجيء تلك الموجةُ التي تضطربُ لهفةً عليك،
حاملَةً علــى كتفيها شبَحاً لنورسٍ يشبهُك؟
وأنـــتَ مـــاذا تخبّــئ في كمّك، أيّها البحر؟
كوبنهاغن، أعندك ما تضيفين؟
ليس فيّ غيرُ الأجنحة، وقلّما أحطّ. لا أعرف أين وكيف؟ وليست
هذه هي وحدها مشكلتي، مَن أسأل؟
ما تقول، أيّها النّورس الذي أراه للمرّة الأولى في مدينة أراها، على الأرجح،
للمرّة الأخيرة؟
- لكن، ماذا تنتظر أيُّها الشّاعر، من وطنٍ لا رأسَ له،
وله ملايين القرون؟
* * *
II . شواهد أحارُ في أيٍّ منها يليق بذلك
البحّار الميّت
1- للبحر جرحٌ لا يتوقّف عن النّزيف.
2- لو أنّ الشمس صارت الآن فماً
فبماذا كانت تنطق أوّلاً؟
3 - لماذا يضع البحّار الشاعر
شعره فوق الموج؟
أين سيضع حياته، إذاً؟
4 - وردةٌ ذابلة:
هـــل الذبــول شهادة موت أم شهادةُ حياة؟
* * *
III. استطراد
أينما ذهبتَ في كوبنهاغن، تشعر أنّك واقفٌ على عتبة الأفق
ولا شأن في ذلك للضّباب الحجاب الكتاب الخِطاب.
لا شأن في ذلك أيضاً للمطر، أو للنفط والغاز، أو للريح التي تعرف كيف
تشعِّث الرّأس وكيف تُطَوِّق الخاصرة،
لا شأنَ في ذلك أيضاً لحكمة الطّبيعة،
التي لا تُدَوَّنُ في كتابٍ،
بل تُقرَأ في الفضاء الطّلْق، كمثل ما يُقرأ الهواءُ والضّوء.
الشّأن في هذا كلّه للإنسان.
لكن قُل لي أيّها الإنسانُ،
كيف تفهم بشراً يسبحون في بُحيراتٍ جفّتْ، ويدافعون مع ذلك عن
هذه السِّباحة قائلين إنّهم لا يحبّون الماء؟
* * *
IV. عنق الليل
عنـــدي أنّ العتمة يمكن أن تكون شفافيةً مـــن الدّرجـــة الأولـــى، في ثقـــافة من الدّرجة
العاشرة.
وعندي أن تنام لا يعني بالضّرورة أنّك تحلم،
ربّما لهذا،
لم أعرف حتّى الآن كيف أُقنع الرّيح لكي تُصغي إلى شجرة حياتي،
ولو لحظةً واحدة.
ربّما لهذا يحبّ الشعر أن يُصغي إلى الأنين الذي يتصاعد من حنجرة ضبابٍ يلتحف به تمثال كيركيغارد.
لكن يا عزيزي الفيلسوف،
كيف يتدلّى من عنق الليل في كوبنهاغن، عقدُ النّجوم؟
ولماذا لم يُساعدْني الوقت لكي أراه، ولكي أتأكّد ممّا كتبْتَه أنت في
شبابك، وممّا همَسَتْه في أذنيّ تلك المرأة العاشقة؟
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد