العقل المدبّر لـ «انقلاب» اليونان يثير أشباح عودة ألمانيا العظمى
فيما يتواصل دوران العاصفة السياسية في أثينا، بعد صفقة إنقاذ اليونان "الانقلابية"، تنجلي الصورة على متّهم وحيد يُلام على ما حصل. ما فعله هذا المتهم يواصل قلب المشهد السياسي في اليونان. صحيح أنَّ البرلمان صادق على الصفقة فجر يوم أمس، لكنّ المعركة كانت مكلفة جداً لرئيس الحكومة أليكسيس تسيبراس. اضطرَّ للاستعانة بالمعارضة لتمرير المصادقة، بعدما أخفق في احتواء متمردي أقصى اليسار من حزبه الحاكم "سريزا".
المعترضون رفضوا الانحناء أمام مخطط أملاه الرجل الداهية، تاركين تسيبراس يدفع الفاتورة: الترجيحات تدور حول إدخال المعارضة إلى تشكيلية حكومية جديدة، مع انتخابات مبكرة باتت تلوح في الأفق.
دافع فريق تسيبراس عن تكتيكاتهم بالقول إنَّهم يتصدون لانقلاب متعمّد. إجمال صورة المتهم يقود للحديث عن مسؤولية ألمانيا، لينتقل إلى مستشارتها أنجيلا ميركل. لكن ذلك لا يقول كل شيء. الوجهة الأخير لإصبع الاتهام ستوصل إلى العقل المدبّر: لا يعتذر، بل لديه إيمان متجذّر بأنَّ ما حصل هو الصحيح، ولو كان القرار له لاختار إخراج اليونان فوراً من اليورو.
لمعرفة بعض صفات المتهم، يمكن الاستماع إلى يانيس فراوفاكيس، وزير المالية اليوناني المستقيل قبل توقيع خطة الانقاذ التي اعتبرها "معاهدة استسلام". لدى الرجل الكثير ليتحدث عنه، فهو من قاد مفاوضات أثينا مع الدائنين، منذ تسلّم حزبه "سريزا" السلطة قبل حوالي النصف سنة.
لا يخفي فاروفاكيس غيظه الشديد من السيناريو المكرَّر الذي عاشه مع وزراء مالية اليورو. يقول إنَّهم كانوا منضبطين جداً، تحت قيادة "مايسترو" يعرفه الجميع: "كان هناك نقطة رفض فارغة للانخراط في محاججة اقتصادية. نقطة فارغة. أنت تقدِّم حججاً كنت قد عملت عليها حقاً، للتأكد من أنَّها متماسكة منطقياً، لكنَّك تواجه فقط بنظرات فارغة. يبدو الأمر كما لو أنَّك لم تتحدَّث. ما تقوله معزول عما يقولونه. كنت لتغنِّي النشيد الوطني السويدي، وكنت لتحصل على رد الفعل نفسه".
المايسترو أو المتهم، كلها غيض من فيضِ أوصاف لشخصية واحدة: وزير مالية ألمانيا فوفغانغ شوبل. لديه بالفعل تلك النظرة الجوفاء. عينان صارمتان، مفترستان، تحاصرك بسهولة، فتحسّ أنَّك أمام هاوية بلا قاع خلال أيّ مواجهة. حينما تحين لحظة مودّة محرجة، تبتسمان بخجل الأطفال. لكنَّهما للرجل نفسه، السياسي الأكثر خبرة في ألمانيا: وزير الداخلية السابق الذي كان بين المفاوضين على توحيد الألمانيتين، ثم وزير المالية الذي صمَّم سياسة التقشف كعلاج أساسي لدول اليورو بعدما ضربتها الأزمة المالية.
رغم خصومتهما المعروفة، لكن فاروفاكيس لا يبالغ حينما يتحدَّث عن ازدراء شوبل للحجج الاقتصادية. الرجل لا يخفي أصلاً عدم تقديره الكبير لعلم الاقتصاد، ولكل مريديه حتى لو كانوا حملة جائزة نوبل. قام بقلب العادات السارية في وزارة المالية التي يمسكها منذ العام 2009. كانت حينها الأزمة المالية في أوجها، فاستقدمت ميركل وزير الداخلية ليقود إصلاح اتحادٍ نقديّ كانت كل دولة فيه تتصرَّف بسياستها المالية على هواها.
كانت إدارة وزارة المالية الألمانية موزَّعة بالمناصفة بين الاقتصاديين والقانونيين. حالما تسلّمها شوبل، حوَّلها إلى معبد لكهنة القانون. تحت امرته ثلاثة سكرتيري دولة، جميعهم خريجوا قانون. من بين تسعة رؤساء أقسام في الوزارة هناك فقط اقتصاديان.
القانون قبل كل شيء، وليس الاقتصاد، هو ما يحلّ المشاكل برأيه. حينما يجادله أحد بأنَّ ازدراءه للاقتصاديين فيه مغالاة، يحلو لدكتور القانون أن يردِّد ما قاله أديب ألمانيا الشهير غوتة: "إذا كنس كل أحد أمام بيته فسيكون الحي نظيفاً، من لا يكنس يجب أن ينتقل".
هذا بالضبط ما قاله شوبل لحكام اليونان اليساريين، قبل أن تتبناه ميركل جملة وتفصيلاً. لقاء تقديم خطة انقاذ مالية تفوق 80 مليار يورو، كان على حكومة أثينا الاختيار: إمَّا الموافقة على خطة تقشّف صادمة، أو الخروج من اليورو. كان ذلك أشبه بالتخيير بين الإعدام وسجن مؤبد في التعذيب الاقتصادي. لم يعجب ذلك إطلاقاً بعض الصحف اليونانية، فخرجت إحداها بعنوان يستحضر أشباح الماضي الألماني الأسود "اليونان كانت في أوشفيتز" (المحرقة النازية لليهود في بولندا).
من يقول إنَّ صرخات الألم هذه متوقعة في أثينا، عليه أن يسمع ما قاله المستشار النمساوي فيرنر فايمان تعليقاً على ليلة التفاوض الطويلة حول الصفقة في بروكسل. وجّه الرجل انتقاداً نادراً لبرلين، معتبراً أنَّ اقتراح إخراج اليونان من اليورو كان "خطأ أخلاقياً"، قبل أن يخلص إلى أنَّ "ألمانيا تلعب دوراً قيادياً في أوروبا، وهو لم يكن إيجابياً في هذه الحالة".
بعض الساسة الألمانيين، من المعارضة، دانوا ما حصل باعتباره "ابتزازاً" ومحاولة لتقسيم أوروبا. هؤلاء يعرفون أنَّ أوروبا لم تشفَ تماماً من جروح الحرب العالمية الثانية، وأنَّ سياسات تفتح تلك الجروح، هي آخر ما تحتاجه برلين.
حتى الآن، هنالك من لا يصدق ما يحصل: كيف عادت ألمانيا إلى تسيّد القرار الأوروبي، بعد سبعين سنة فقط من تحطيمها أوروبا، والأنكى أنَّ هذه الاندفاعة بدأت مع تسامح هائل أبداه الأوروبيون، وبينهم اليونان، حينما شطبوا العام 1953 أكثر من نصف ديون برلين.
كل هذا لا يمكنه أن يقلِّل صلابة وزير المال، دكتور القانون شوبل. منذ البداية كان مؤمناً بأنَّ أوروبا منقسمة بعمق، اقتصادياً وثقافياً. لذلك كان ينظّر لوجود اتحاد أوروبي يعمل بسرعتين: نواة صلبة سريعة في الشمال الأوروبي (فرنسا، ألمانيا، هولندا، بلجيكا، لكسمبورغ)، والآخرون يحاولون اللحاق بها.
لم تطبق تلك النظرية، لكن آراء أخرى لشوبل، تعتبر متطرفة، أطلَّت بوجهها مؤخراً. كان إخراج اليونان من اليورو مجرد أحاديث متناقلة، لكن شوبل وضعها رسمياً أمام زعماء التكتل إذا رفض تسيبراس الاتفاق. أثينا كانت تعرف مسبقاً أنَّه يحمل براءة اختراع هذا الشؤم.
كان ذلك جليّا خلال الحملة للتصويت بـ "لا" في استفتاء رفض التقشّف. هناك صورة شخصية وحيدة، حملتها الملصقات الشهيرة لدعوات الرفض: وجه شديد العبوس لشوبل، مطبوع تحته عبارة "خمس سنوات وهو يشرب دمك، قُلْ له لا".
دعاية خشنة فعلاً، ومن يعرف شوبل جيداً سيجدها وقاحة. لكن ذلك لا يمنع أنَّ وزير مال برلين ينظّر منذ سنوات لـ "إيجابية" إخراج اليونان من اليورو. رغم إتمام الصفقة والحملة العنيفة ضدّه، لا يزال مصرًّا، حتى الآن، على أنَّ "الخروج المؤقت" هو "المسار الأفضل لليونان".
قَفْزُ الدعاية اليونانية عن التصويب على ميركل، وتركيزها على شوبل، لم يأتِ من فراغ. يوضح الوزير المستقيل فاروفاكيس طبيعة موقف ميركل بالقول: "بحسب فهمي، كانت مختلفة جداً. حاولت استرضاء رئيس الوزراء (تسيبراس)، وقالت له: سنجد حلاً، لا تقلق حول ذلك. لن أسمح لأي شيء مروع أن يحدث، ستعمل مع المؤسسات وتقوم بواجبك، ولن تصل إلى طريق مسدود".
حتى اللحظات الأخيرة، كان هذا التقدير سائداً. في الساعات الأولى لمفاوضات قمة الأحد، التي استمرت 17 ساعة، قال مسؤول يوناني رفيع المستوى لـ "السفير" إنَّ وجود شوبل يشكل "معضلة"، موضحاً أنَّه "إما شوبل أو الاتفاق، الاثنان لا يمكن جمعهما". النهاية لم تكن بهذا الشكل. التحمت ميركل بوزيرها، وقبل تسيبراس العرض ومسدّس الإخراج من اليورو مصوب على رأسه.
وفَّرت تلك الوقائع منصة دفاعيَّة لفريق تسيبراس بأنهم يتصدون لانقلاب: يريدوننا خارج اليورو ونحن باقون، ويريدوننا خارج السلطة ولن نغادر. لكن فقدان تسيبراس للغالبية البرلمانية (162 من أصل 300)، جعله غير قادر على الحكم. الاستعانة بالمعارضة تقتضي إدخالها إلى الحكومة، بانتظار إجراء انتخابات مبكرة، قال بعض المقربين منه إنها ستقام في الأشهر المقبلة.
رغم هذا المشهد المأتمي، لا يمكن لعقل شوبل إلا التبسّم. لم يخفَ يوماً مقته لتنظيرات الأحزاب "الاشتراكية"، مردداً قناعاته بأنَّ حكمها سيكون محكوماً بالفشل. يواصل الآن مرافعاته الباردة، فيما جسد النخبة اليونانية الملطّخ بدماء الخسارات يولّد تعاطفاً عالمياً. يردّ بأن ما على تسيبراس إلَّا لوم نفسه: "الحملة الانتخابية (لسريزا) كانت مليئة بالوعود البرية: لا ادخارات، لا إصلاحات، لا ترويكا (ممثلي المؤسسات الدائنة)، والآن ووجهت اليونان بالواقع".
إيمان شوبل الراسخ أنَّه طالما لدينا "القانون"، فلا داعي لجدالات عقيمة حول الـ "كيف". أحد القصص التي يحب أن يرويها عن احترام القوانين تدور حول أمه: أرادت مرة أن تركن سيارتها، لكنَّها لم تكن تحمل نقوداً لتضعها في آلة "الباركينغ". رغم أنَّها وضعت سيارتها، ولم تحصل على مخالفة، لكنَّها عادت فقط لتضع النقود في الآلة عن المرة السابقة مع أنَّ ذلك لا فائدة منه.
تسيبراس ليس الضحية الوحيدة. تشريعات شوبل يلخصها شعار "لا عودة للنمو عبر الاستدانة". لا يعجب ذلك فرنسا وإيطاليا، الموضوعتان تحت المراقبة الأوروبية لخفض الديون وعجز الموازنة. لم تنجح كل محاولات رئيس الوزراء الإيطالي ماثيو رينزي للتحرُّر من تشريعات شوبل تحت عنوان: "التركيز على النمو". بعد خروجه من القمة المراثونية، قال رينزي، بغيظ، إنَّ "أوروبا هذه هي مكان للبيروقراطية"، قبل أن يضيف "أوروبا باتت فقط مكاناً (لمراقبة) المؤشرات والقواعد وكيف يجب أن تكون العلاقة بين الدخل الإجمالي والعجز".
طوال الأيام والأشهر المقبلة، ستتبقى الأضواء مسلَّطة على شيخ السياسيين الألمان: منذ العام 1972، خاض شوبل بنجاح 12 انتخابات نيابية. ستنتظره الكاميرات، لكنَّها ستمتثل لإشارة رجال الأمن المرافقين له حينما تصل سيارته. لا تصوير حتى يتم نقل الوزير من السيارة إلى كرسيه المتحرك. لم يولد مع هذه الحال. سنة 1990 اعترضه مريض عقلي، وأطلق عليه ثلاث رصاصات أصدرت حكمها عليه باقي حياته. صحيح أنَّه قال حينما استيقظ ورأى النتيجة "لماذا لم تتركوني أموت"، لكنه عاد أكثر صلابة، مع مقتٍ لجميع أنواع التعاطف، بما فيها مع نفسه.
كان خلال 16 سنة أقرب المقربين للمستشار السابق هليمت كول. حينما جرجره الأخير في قضية فساد، خرج من عنده آخر مرة ليقول بسخرية مريرة: "في هذه الحياة، لن أضع رجلي في هذا المكان". خانته ميركل أيضاً، حينما أسقطته عن زعامة حزبهما، "المسيحيين الديموقراطيين"، العام 2000. لكن كاتب سيرته هانس بيتر شوتز يوضح بأنَّه يعمل وفق قانون الإخلاص "ليس لشخص ولكن لفكرة". ربما لفكرة القانون، مع القناعة بأنَّ "عدالته" لا تعجب بالطبع كل من يقاضيهم. حينما يكون المضمار قانون السوق، بالأحرى "الغاب"، يقول خصوم شوبل إنَّه ليس مشرفاً لعب دور محام الشيطان الرأسمالي.
هذا هو الرجل المتهم بتدبير "الانقلاب"، وشعبيته في ألمانيا تكاد تفوق شعبية ميركل نفسها. نظرته الجوفاء، تلك الهاوية في عينيه أحياناً، ليست من لا شيء. ينقل كاتب سيرته الذاتية عنه تصالحه الشديد مع قدره بعد الحادث: "نحن أناس كلنا معوقون، الإيجابية أننا نحن المعوقين ندرك ذلك".
وسيم ابراهيم: السفير
إضافة تعليق جديد