مدارات أدونيس من برلين إلى باريس
-1-
من بيروت الى برلين، مروراً بباريس 5-8 كانون الثاني (يناير) 2007.
مطار تيجل، الطلب الضخم الشمّام الذي يستقبل الزائرين، الحقيبة، الجمرك (لا سؤال، لا موظف)، قحطان، مروان، الطريق الى الفندق بين شجر بدأ يتعرّى على الرغم من البرد. فندق «شلوسهوتيل» في غرونفالد، الحيّ البرليني الجميل الذي ألفته وأحببته في أثناء إقامتي الطويلة السابقة في برلين. الفندق صغير أنيق بين أجمل الفنادق التي عرفتها وأكثرها أناقة.
تذكرت بريخت. هكذا فجأة، فيما أدخل غرفتي.
ألأنني كمثله: «أهجو» فكر البورجوازية نهاراً، و «أمتدح» سريرها ليلاً؟ ألأنني كنتُ قرأت في بيروت ترجمة عربية لأشعاره الكاملة (قصائد برتولد بريخت، ترجمة أحمد حسان، الفارابي، بيروت 1986)؟ ألأن بيروت بدأت تتخطى انقسامها على الطريقة البرلينية: «شرقية / غربية»؟ ألأن «الصراع الطبقي» فيهما لم يكن (ليس) إلا استيهاماً نظرياً، كما تؤكد التجربة الحية؟ (التحية هنا لذكرى الأصدقاء حسين مروة، حسن حمدان (مهدي عامل)، سعدالله ونّوس، فما أكثر ما تناقشنا في هذه المسألة الطبقية، وبخاصة عندما كنا نتحدث عن ظلمات الحرب الأهلية اللبنانية، واختلفنا وبقينا اصدقاء). الحقيقة هي أنني لا عرف أن أضع يدي. كما كان يفعل فرويد، على سر هذا التذكر.
-2-
الأحد 7 كانون الثاني 2007: افتتاح ضخم لمعرض مروان في متحف الفن الحديث في برلين. احتفاء فريد، ونادر، ويليق بهذا المبدع الكبير. سعدت كثيراً أن أكون بين أصدقائه الألمان الذين تحدثوا عنه، بعمقٍ وإعجابٍ وغبطة.
قلت عنه: «يبدو لي مروان كمن يعمل على إرجاع الوجود الى طينه التكويني الأول، والحياة الى نبضها الجنيني. أو كمن يريد ان يخضّ الألوان ويرجّها، محوّلاً إياها الى كائنات لا تُرى منها إلا ظلالها.
في هذا، وفيما وراءه، أبدو لنفسي أنا المشاهد، أمام لوحاته، أنني أتمرأى فيها، مقلّباً نظري في نهائية لا تتوقف عن الصيرورة وعن التقلّب في صور من اللانهائية. وفي وجوه غائمة كأنها أضواء تحفّ بها ظلمات العناصر وتعجز عن ان تحجبها. وفي ينابيع تخط مجاريها كمثل أثلام على صفحة التراب. وفي ضباب يتمدد غلائل شفافة على قامة الأرض. كأنني أمام طاقة لا تتوقف عن توليد عالم يتفكك ويتكوّن في اللحظة ذاتها: يتفكك بفعل الحقيقة الوجودية، ويتكوّن بفعل المجاز الفني.
هكذا، بين نور يتغلغل في الظلمة اجتياحاً، حتى ليكاد ان يطمسها مهيمناً عليها وعلى ما يحيط بها. وظلمةٍ تسبح مع النور حتى لتكاد ان تفيض متدفقة من اللوحة غامرة كل ما حولها، تتحرك الاشكال ثابتة، وتثبت متحركة في اندفاع كأنه إشراق في جسد المادة. وكأن اللوحة ليست مقيمة في اللوحة. وإنما هي طاقة إشعاع تتموّج في فضاء النظر، كما لو ان المرئي هو، تحديداً، ما لا نراه».
-3-
في مطعم الفندق، في اثناء الفطور، وقبله، أعيد قراءة بعضٍ من قصائد بريخت: «من يروي الأكاذيب، يُحمل على الأعناق.
من يقول الحقيقة،
يبحث عمّن يحرسه، فلا يجد أحداً».
وأخذت أتساءل في ذات نفسي: هل الأكاذيب هي، اليوم، الزرع الأول في حقول الثقافة العربية؟
ما قولكِ، أيتها اللغة العربية، أيتها السجينة المحجّبة، المعذبة، أيتها الحارسة العربية الأخيرة؟
أقرأ بريخت وأتذكر «عصراً». أَرثي لأحلام قُتل أو مات من أجلها الملايين – فقراء، عمال، شعراء، فنانون، كتّاب، مفكرون.
لماذا كان العمل في هذا «العصر» عبثاً؟
سأقترح جواباً مداوراً، ويحتاج الى التدبّر:
الجمع في هذا «العصر» غيّر – لكن لكي «يخضعَ»، واضعاً مصيره في يد «الفرد»!
أقرأ بريخت –
أتذكر، خصوصاً، الشعر العربيّ الذي قُدّم لنا باسم ذلك «العصر»، وباسم رؤيته في اعادة صياغة العالم، حرية وعدالة، إخاءً ومساواة.
لكن، لماذا لم يكن في ذلك الشعر شيء من هذه الرؤية؟ هكذا بدلاً من ان تكون هذه الرؤية وجهاً، حُوّلت الى قناع. وبدلاً من ان تكون كشفاً، حُوّلت الى حجاب.
وبدلاً من ان تكون فضاءً كونياً حُوّلت الى قبيلة:
صار اسمها إثماً،
وانقلبت الحرية فيها الى عبودية.
صارت تماماً صورة حية للقيد العربي الذي جاءت لكي تحطّمه.
سأخالف بريخت:
هناك ما يجب ان نكرره، وأن نجهر به مراراً.
-4-
زيارة لمرسم إنجيليكا،-
يا عزيزي بريخت، لا يزال السؤال قائماً:
هل على الفنان ان يلبي ذوق الجمهور، أم عليه ان يغيره؟ إذا لبّى خَسِرَ صوته، وإذا غيّر خسر جمهوره.
من جهتي، كنتُ وسأظل دائماً الى جانب صوتي.
مَرْسم إنجيليكا –
دخلتُ اليه، فرأيت الوداعة كمثل ضوء أخضر، يفترش الجدران والسقف، المقاعد والنوافذ، الفراشي والألوان، ورأيت ان هذه الوداعة لا تفصح عن نفسها إلا بفيضٍ باذخ من التوتر أسميه باسم لا أجد غيره هو العنف.
الوداعة العنيفة، العنف الرحيم.
الفن يغيّر الهوية: هوية المادة، وهوية اللغة.
الفن عنف، بوصفه انفجاراً في بركان المادة الخامدة.
عنف الرحم، قاذفاً جنينه، بعيداً عنه.
عنف الأمومة، واضعة طفلها بين يدي الأرض.
عنف الطبيعة الحاضنة – رياحاً، وصواعق، ورعداً وعواصف.
عنف الخلْق.
العنف الودودُ، الكريم، الأمين.
عنف اللون، طالعاً من شرايين المادة.
عنف الضربة التي ترجّ القماشة لكي تحسن تكوينها.
عنف الريشة التي تخطّ وتمحو.
عنف العلاقات بين الاضداد.
عنف العناق بين ماء الوجود وجمر التكوّن.
العنف الذي يتحوّل فيه جسد المادة الى مسرح، لا للتاريخ المرئي وحده، بل أيضاً لذلك التاريخ غير المرئي، بدءاً من وسوسة حوّاء لآدمها، وانتهاء بما يُحس ويعاش ويستشف – عنف الضوء الذي يقتلع الظلام، ويجتاح الحدود.
عنف اللوحة.
ننظر اليها، فنرى كيف تنسكبُ جغرافيتها في تاريخ ليس الا هدير صراعات شتى مع الذات والحياة، مع المــــخيّلة والظنّ، مع الفـــكر والتأمل، مع الطبيعة والطبــــع والعالم. عنف التمسرح في اللغة وباللغة – تنافراً، تآلفاً، تضاداً، تعالقاً وعشْقاً.
عنف كمثل شراع تنشره يدا ريحٍ سمحاء.
عنف الافق الذي يزلزل النفق.
هنا، غصْ في الظلمة، إن شئت ان تلاقي الشمس.
أقرأ بريخت. أقرأ إنجيليكا. معهما أقرأ مروان في متحف الفن الحديث في برلين.
مروان، بريخت، برلين.
-5-
أتذكر، يا عزيزي، بريخت. ولا يزال السؤال قائماً:
كيف زرعنا، باسمك وباسم أصدقائك، حقول الثقافة العربية بالصراع الطبقي المدني، على مدى نصف قرن، ولم نحصد الا الصراع الديني – القبطيّ.
- «لا تنسَ، همَسَ في أذني، أن عليك أن تُحسن التوهم إن شئت أن تُحسن الحياة والعمل في ديار العرب».
-6-
الأحد 7 كانون الثاني 2007، صباحاً. مطعم الفندق. تبدو السماء، عبر واجهته الزجاجية، في ثياب نسجتها خيوط غيم رمادي. في المطعم عائلة فرنسية كبيرة تحتل الطاولة الكبرى: الجد، الحفيد، حفيد الحفيد. جميعهم يتكلمون في اللحظة ذاتها، دون توقف ثرثرة فرنسية كأنها، على الطاولة، خبز آخر.
صنوبرة، يُخيّل إليّ كأنني رأيتها في طفولتي، في مكانٍ آخر، في غابة أخرى.
ربما عليَّ أن أصدّق أيضاً ان الشجر في بلاد بريخت يتناسخ هو كذلك!
-7-
العودة الى باريس. في الطائرة، أواصل قراءة بريخت، وأتذكر كيف كنا، نحن ابناء جيلي، شيوعيين وبعثيين وقوميين، نسكن و «نعمل» في الكتب لا في الحقول، ونسير ونحيا بين الكلمات لا بين الناس. كيف أعطينا طاقاتنا كلها، لكن للفراغ. كيف كنا نغلق عقولنا، ونفتح أفواهنا. كيف كانت «متاجر» الذين حاربناهم أكثر إشعاعاً من «مدارسنا»، وأكثر فاعلية. كيف كانت «كتبهم» أوسع معرفة من «كتبنا».
وكيف اننا لم نقبض الا على الريح، فيما قبضوا ويقبضون على الأرض.
أقرأ بريخت، وأتذكر 5 حزيران، وسعدالله ونّوس، و «حفلة السمر»!
حفلة سمر! حقاً. لم نكن نعرف حتى معنى الكلمات التي كنا نتغنى بها. هكذا فاتتنا اللغة، وفاتتنا الحياة.
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد