عندما يتحوّل المهرّج إلى فزّاعة
لا يهتمّ الكثيرون لمعرفة كيف بدأت «هستيريا الخوف من المهرجين»، وهم أشخاص يرتدون زي المهرّج ويحملون فؤوساً وسكاكين وأسلحة أخرى، يتجولون في الحدائق والغابات أو بالقرب من المدارس لإخافة الناس. فالظاهرة التي اشتعلت في أميركا تنتقل اليوم إلى بريطانيا وهولندا وبلدان أوروبية أخرى. لكن ما يهم أن ما بدا كونه لا يعدو «مزحة سمجة»، تحوّل قضية تشغل وسائل الإعلام والأجهزة الأمنية وصولاً إلى السياسيين والخبراء النفسيين.
بالرغم من كثافة الاهتمام الإعلامي بالظاهرة إلا أن ما يتم تداوله مجرد تكرارٍ لمعلومات سطحية وغير ذات أهمية، تدفع باتجاه المزيد من البلبلة. فقراءة عشرات المقالات ومشاهدة الكثير من الفيديوهات تؤكد أنه وبالرغم من انتشار الظاهرة، لم ينتج عن معظم حوادث ظهور المهرجين ضرر مباشر وحقيقي حتى الآن، إذ لا تبليغ عن مخطوفين أو قتلى أو مصابين. الضرر الوحيد الحاصل حتى الآن هو الخوف وحده.
تشير «بي بي سي» في أحد تقاريرها إلى أن «خط الطوارئ» الخاص بالأطفال تلقى الأسبوع الماضي ما يقارب 120 اتصالاً من صغار يرتعدون خوفاً ويبلّغون عن وجود مهرجين بالقرب من مدارسهم أو منازلهم، فيما التقت صحيفة «غارديان» بـ «مهرجين أخيار» يدافعون عن هوايتهم في إضحاك الناس والترفيه عنهم. إلى جانب ذلك، تخصص وسائل إعلام منابرها عدة لنشر نوع من الدعاية المضادة التي تستهدف مَن قد يفكّر بارتداء زي مهرّج والانضمام إلى «حفلة الترهيب»، حيث يتم التركيز على الإجراءات التي تتخذها الشرطة ورجال حفظ النظام بحق مَن يُعتقل من المهرجين.
أما شرائط الفيديو التي يكثر تداولها فتضج بالصراخ ونداءات الاستغاثة أطلقها أشخاصٌ من داخل سياراتهم بعد أن استطاعوا تصوير مهرجين تربّصوا بهم. فيما تؤجج صفحات أخرى على مواقع التواصل الاجتماعي مزيداً من العنف وتكرّس فكرة ضرورة الدفاع عن النفس - حتى بالأسلحة إذا لزم الأمر - حيث يدعوا البعض إلى ما أسماه «اصطياد المهرّجين» والاقتصاص منهم، والذي قد يكون أكثر جدوى من «اصطياد البوكيمون».
لكن الجزء الأكبر من التغطية يركّز بالطبع على سؤال: «ما هو السر الذي يجعل المهرّج مخيفاً إلى هذه الدرجة؟»، حيث يرى بعض الخبراء أن أسطورة «المهرّج القاتل» مبنية بالكامل على فكرة الهوية المجهولة للغريب المتخفي وراء القناع. فالإنسان عادةً ما يعتمد على النظر إلى تعابير الوجه للشخص الذي يقابله كي يفهم ماذا يشعر، ولذلك يصبح التعبير الثابت والمرسوم مرعباً لأنه يُخفي المشاعر الحقيقية.
ولأن المعلومات الحالية المتداولة عن هجمات المهرجين المرعبين قد تكون غير ذات أهمية، ربما يكون من الأجدى العودة بالتاريخ للتعرف على التحوّلات التي ظهرت على شخصية المهرّج كرمز متغير الدلالات في الوعي الاجتماعي. فصورة المهرج نحتت خلال السنوات، واختلفت رمزية «البهلول» أو الرجل القادر على إضحاك الناس، ليعتبر في بعض الحضارات بمثابة جالبٍ للحظ الجيّد، ويتحوّل إلى بطلٍ شعبي في حضارات أخرى. وقبل انتشار الطباعة، كان المهرّج رمزاً لحرية التعبير، على اعتبار أنه يستطيع قول ما يخاف الآخرون الإجهار به، مستغلاً قربه من عرش الملوك الذي منحه قوة من نوعٍ خاص. في حين تؤكد المراجع أن المهرّج الذي نعرفه اليوم لم ينحدر من سلالة مهرّجي البلاط، وإنما كان ابناً لفنون الأداء التي تطورت في الشارع مع ظهور الفرق الفنية الجوالة وتبلور صورة «السيرك» كحاضن لتلك العروض. ومع ظهور السينما حمل المهرجون ثيابهم وألاعيبهم ودخلوا الشاشة الضخمة. وبهذا المعنى يعتبر شارلي شابلن الذي هاجر من بريطانيا إلى أميركا للاستفادة من الوسيط الجديد، امتداداً لهذا الإرث الفني الثقافي.
مثلاً كان المهرّج عند الرومان أصلع، لكن شكله تغير خلال الزمن واختلاف الأمكنة، ليضاف له الشعر المستعار المشعث والثياب الفضفاضة والمكياج. لكن وبخلاف تطور صورة المهرّج التي وصلت في السنوات الأخيرة إلى نوعٍ من الثبات، لم تعد التعديلات التي تضاف إلى الزي أو المكياج ذات أهمية بقدر أهمية الوجه الحقيقي الذي يتخفّى خلفه والذي بات اليوم هو المتغيّر، قد يكون فناناً هاوياً، إرهابياً مجرماً، مريضاً نفسياً، ناشطاً سياسياً غاضباً.
ومع خروج حُمى الخوف من المهرجين عن حدود المنطق نجد هناك من يتلاعب بصور السياسيين أمثال دونالد ترامب وطوني بلير، مشيراً إلى أن هؤلاء مهرجين أكثر خطراً من الذين يتم تتبعهم في الأزقة. لكن تلك النداءات لتغليب العقل وعدم الانجرار وراء الرعب تقع على آذانٍ صمّاء، كما لو أن لعبة الخوف تستهوي الجميع وتنتشر بالعدوى. فالمهرج الذي كان يوماً رمزاً لحرية التعبير، أمسى اليوم أداة لتغييب الوعي وشلّه بالخوف.
نور أبو فرّاج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد