على هامش الحرب: حين نتركهم يغادرون.. ونبقى

20-10-2016

على هامش الحرب: حين نتركهم يغادرون.. ونبقى

من شرفةِ منزلِه المُطلّة على الشارع، يُراقب أبو شادي طفلين بعمر الخمس سنوات وأقلّ، صبيٌّ يُمسِك بيد أخته الصغيرة ويحاولان عبور الشارع في حيّ الشيخ طه، المُواجه لحيِّ الشيخ مقصود في حلب، إلا أن قذيفة هاون سقطت بالقرب منهما أصابت صدر الطفلة بشظايا قاتلة. كاد قلبُ الرجل ينفطر حينما رأى الصبي ينكبُّ على جثمان أخته البارد ويحاول إيقاظها من دون جدوى، فكانت تلك الحادثة التي وقعت في أواخر العام 2015 هي اللحظة الحاسمة التي اتخذ فيها المهندس الجيولوجي (ف. مقدسي) قرار مغادرة حلب مع عائلته، بعدما أمضى في المدينة ما يزيد عن ثلاثة وثلاثين عاماً من عمره، عائداً إلى مسقط رأسه في إحدى قرى ريف طرطوس.لاجئون يسبحون في مياه جزيرة كيوس اليونانية (أ ف ب)
يقول أبو شادي (63 عاماً) ، إنه «لم نشأ أن نترك منزلنا بالرغم من كل ما عشناه خلال الحرب، ليس سهلاً على الإنسان اقتلاعُه من المكان الذي أورقت ضلوعه فيه وأنجبت أرواحاً وسكنت في أدقّ تفاصيله، حاولنا جميعاً المكابرة، لكن مشهد الطفيلن سَلَب إرادتي، ولم أستطع احتمال فكرةِ ذلك الألم كلّه».
تقدّم المهندس المتقاعد وعائلته يومها بطلب للهجرة أو اللجوء إلى كندا، وبالفعل قُبلت الطلبات، لكن من سافر هما فقط الابنُ الوحيد مع أخته، وذلك في اليوم الأول من العام 2016، وبقي الوالدان يتقاسمان زُوادّة صبرٍ مُرّ الطعم. ويتابع الرجل «لست نادماً على الإطلاق، وأعتقد أنني اتخذت القرار الصائب حتى لو لم نستطع اللحاق بهما، لكنني أشعر فقط بالحزن كلما رأيت زوجتي تشتاقهما لدرجة الألم، وليس بإمكاني فعلُ شيءٍ يُخفف هذا الألم».
انتشرت تجربةُ هجرة الابن الوحيد في سنيّ الحرب، ولم تعد مرهونةً بظرفٍ قاهر كما قبلها. «نحن في ظرفٍ غير طبيعي، وبالتالي يزدادُ احتمالُ وقوع الخطر أو الأمور المزعجة. الخوفُ ليس استثنائياً، إنما هو قاسمٌ مشترك بين معظم السوريين اليوم»، يُحاول بهذه الكلمات كنعان الفهد، الصحافي والكاتب السوري، تبرير سفر وحيده يزن منذ مطلع العام 2012 إلى ألمانيا لمتابعة دراسته، ليعكف هو عن ممارسة عمله الصحافي ويُبحر في دراسة محاولات البشرية الفاشلة بالبحث عن بدائل الأنظمة السياسية التي لم ترض طموحاتهم «الطوباوية» عبر السنين، محاولاً الانشغال بتأليف كتبِ سياسية يجزم أنها لن ترى النور في الوقت الراهن.
يفتقد كنعان (68 عاما) أصدقاءه القدامى، ويقضي معظم وقته جالساً في المقهى أو سارحاً بقراءة الكتب، بعدما خسر معظم هؤلاء الأصدقاء، بعضهم توفي وبعضهم الآخر تقدم بهم العمر، ونال منهم المرض فأصبحوا قليلي الحركة والتزموا منازلهم، أما ابنه الذي لم يره منذ أربعة أعوام فيكتفي بمحادثته عبر الهاتف أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، لكنه يبدو متصالحاً جداً مع فكرة سفر الشاب، ويرى أن مجتمعاتنا الشرقية تغالي بحبها المُتملك للأبناء. ويقول «اشتياقي وحبي له لا يجب أن يأسرا مستقبله، من حقه أن يبحث عمّا هو أفضل أينما يريد، أما أنا فلم يعد لديّ مشاريع وخطط لهذه الحياة، فلماذا أسافر؟».
قدرت إحصائيات المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين نهاية العام 2015 عدد اللاجئين السوريين بـ11,7 مليون شخص، أي أكثر من نصف سكان البلد البالغ عددهم 23 مليون نسمة، وذلك بين لاجئين وطالبي لجوء ونازحين داخليين، وبذلك تكون سوريا بحسب هذه الإحصائية أكبر مُصدر للاجئين في العالم.
واستناداً إلى إحصائيات المنظمات الأممية والإنسانية، أوضحت دراسة غير رسمية صدرت مطلع العام 2016 أن أعداد المهاجرين السوريين المسجلين يزيد على مليون مهاجر تبلغ نسبة الأطفال فيهم 20 في المئة ونسبة النساء 20 في المئة ونسبة الرجال 60 في المئة. أما بالنسبة للفئات العمرية للمهاجرين، فتتراوح وسطياً بين 18 إلى 40 سنة، وهم الأغلبية العظمى بـ77 في المئة ليشكل الأطفال بحدود 20 في المئة، أما كبار السن فلا تتجاوز نسبتهم ثلاثة في المئة من مجموع المهاجرين. وتقول هذه الدراسة التي أعدّها الباحث الاقتصادي السوري عمار يوسف إن سبعة في المئة من المهاجرين يحملون إجازات جامعية منهم أربعة آلاف شخص يحملون الماجستير والدكتوراه في اختصاصات متنوعة، وسبعة في المئة من المهاجرين هم من حملة الشهادة الثانوية، في مقابل 33 في المئة من حملة الشهادة الاعدادية.
خلف الأزمة التي ولدتها هجرة الشباب خلال الحرب، نشأت مشكلات عدة أبرزها اقتصادية تجلّت في تخبّط سوق العمل ونقص اليد المنتجة، والافتقار إلى الكفاءات وذوي الخبرة في شتى الاختصاصات والمجالات، إلى جانب مشكلات اجتماعية تتعلق بالارتباط والزواج وارتفاع معدلات الطلاق والعنوسة وغيرها. ويبقى الأهم من ذلك كُلّه الأثر النفسي لهجرة الأبناء وانفصالهم عن آبائهم وأمهاتهم، فمجتمعاتنا الشرقية لم تبلغ بعد مرحلة النضج الكافي لتدفع بالأولاد بعيداً عن أحضان أهلهم عندما يصبحون مؤهلين لذلك، ولا تزال الأمهات نقاط ضعفنا نحنا الصغار أمام دموعهنّ الدافئة وقلوبهنّ المكسورة.. وللأمهات حكاية أخرى.

سناء علي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...