علاقات متوترة بين الكتاب وذويهم
إذا كان القرآن الكريم أوصى بالبر بالوالدين، فإن الأدباءلا يلتزمون جميعاً هذه الوصية. أقلّه، في المعنى الخلاّق، لأن الوالدين في أحيان كثيرة يكونان عائقاً صلداً في وجه تقدّم الموهبة وتطورها. هذا يحدث غالباً من دون قصد، وغالباً ايضاً ما تأتي النتيجة عكسية، إذ يؤدي التصادم مع الوالدين، إلى إنتاج بالغ العذوبة والجمال والخلق.
عندما بدأت الكتابة، كانت علاقتي بوالدي متوترة الى حد كبير، بسبب رسوبي في الإمتحانات الرسمية، ولأنه كان مصراً على أن أدرس الرياضيات في الجامعة عندما أنهي المرحلة الثانوية. أذكر أني كتبت الكثير من القصائد تعبيراً عن اعتراضي على تعنّت أبي وإصراره على تحديد مصيري والتدخل في شؤون مستقبلي. كتبت مرة: "لا يبدو عليَّ الغباء/ وأبي ينعتني بالعبقري استهزاء/ كان يريدني أن اغدو مدرّساً للرياضيات/ بنظارات سميكة/ وساعة يد./ خيّبت أمله وصرت شيئاً آخر/ شيئاً يمكن أن اسمّيه بغير اسمه:/ شاعر، ربما؟".
أعتقد أني أدين لأبي لأنه جعل مني شاعراً من دون أن يدري، ولأنه لا يزال يحرّضني على الكتابة حتى الآن.
لكن المسألة ليست شخصياً. هناك حالات كثيرة تذهب في هذا الإتجاه، ويلعب الأب دوراً رئيسياً في تكوين الموهبة وفي التحريض على الإنتاج والكتابة. كما أن في ذلك جرأة لا مثيل لها، وخصوصاً في القدرة على "قتل الأب" في المعنيين العملي والروحي للكلمة، والتجرؤ عليه، وكسره باعتباره سلطة عليا لا تمسّ.
مثلاً، كتب سهيل إدريس، صاحب دار "الآداب" في مذكراته أن والده كان يأتي الى المنزل العائلي احيانا ومعه صبي اشقر البشرة ثم يغلق الباب دونهما. في ذلك جرأة منقطعة النظير، إذ يكشف عن شذوذ والده غير آبه لما قد يترتب على ذلك من انتقادات من المجتمع الذي يعيش فيه.
لم تكن "رسالة إلى الوالد"، التي كتبها كافكا، رسماً ساذجاً لضيق نفسي عانى منه موقتاً بل إنها تحوي كل الموضوعات الحاضرة في بقية أعمال كافكا، وهي كانت المحفّز الرئيسي والمغذّي لهذه الأعمال.
الأب، كموضوع رئيسي لأعمال كافكا، يجد ذروة حضوره في "رسالة إلى الوالد" المكتوبة في 1919، والتي يعاتب فيها والده، ويعبّر عن الخوف والجاذبية والرهبة حياله.
يقول كافكا في مقطع من تلك الرسالة مخاطباً والده: "ذلك اوصلني الى أن اتخيل خريطة مبسوطة للعالم وأراك ممتداً عرضياً على كل سطحها اتصور أن وحدها الأصقاع التي لا تكسوها أنت ولا تقع في مداك يمكنهما أن تكون ملائمة لأن أعيش عليها".
إذا كان الأب عند كافكا يمتد على هذه المساحة الشاسعة في حياته وأدبه، فقد نجد في بعض الأدب تهميشاً للأب، وتجاهلاً له، كما نقرأ في أدب جبران خليل جبران، الذي ألغى ذكر الاب العربيد المستخف، في كل ما كتب، ومضى في تمجيد صورة الام وحنانها.
كان شارل بوكوفسكي يقول: "الأب سيدك دائماً، حتى حين يرحل". هذا القول يختصر علاقة الشاعر الأميركي بوالده. هي علاقة أب سلطوي، بإبن متمرد، كما تظهر في نصوص كثيرة كتبها بوكوفسكي.
كان للكساد الإقتصادي الذي عصف بأميركا منذ نهاية العشرينات من القرن الماضي والذي جعل الأب ينضمّ إلى صفوف العاطلين عن العمل، الدور الأبرز في تحوّله إلى شخص عنيف ومحبط، ناقلاً عنفه وإحباطه إلى الابن شارل. وتشكّل ذكريات بوكوفسكي الطفولية القاسية جزءاً مهماً من كتاباته، وعبّر عنها في العديد من قصصه القصيرة مثل "موت الأب" أو رواياته مثل "هام أون راي"، كما في العديد من قصائده، حيث لم تقف معاناة شارل مع أبيه عند الحدود النفسية والمعنوية، بل كانت أغلب الأحيان تجد تعبيراً جسدياً حيث كان الأب يضرب ابنه ضرباً مبرحاً باستمرار. ليجد شارل نفسه في مطلع حياته فتى وحيداً ومعزولاً، وليصبح متعاطفاً مذذاك مع الذين يشاركونه حالته. لكن بوكوفسكي عرف كيف يتخلص من وطأة هذه العلاقة. ذات مساء عندما عاد الى البيت ثملا، عمد والده كعادته الى صفعه وضربه، عندذاك نازله بوكوفسكي من الند الى الند وتبادل معه اللكمات واضعا بذلك حدا نهائيا لقمع الأب الذي لم يلمسه بعدها إطلاقا.
يكتب بوكوفسكي عن أبيه: "اصطاد أبي صغار الفئران/ كانت لا تزال حيّة حين قذفها/ الواحدة بعد الأخرى/ في الموقد المشتعل./ اضطرمت النيران/ وأردتُ أن أرمي أبي هناك/ لكن لكوني كنت في العاشرة/ جعل ذلك مستحيلاً/ (حسناً ها قد ماتت) قال لي/ (قتلت الوغدات!)/ (لم تكن مضطراً لفعل ذلك) قلت/ (أتريدها أن تجري في أنحاء البيت/ إنها تخلّف روثاً وتجلب الأمراض/ ماذا كنت لتفعل بها؟)/ (كنت ربّيتها كحيوانات أليفة)/ (حيوانات أليفة!.. ما الذي أصاب الجميع بأي حال؟)/ كانت الشعلة في الموقد/ تذوي / ببطء شديد/ ثم خمدت./ لقد ربح أبي مجدداً" (ترجمة سامر أبو هواش).
كثر هم الشعراء والكتّاب عانوا من سلطة الأب وتأثيرها السلبي، أو الإيجابي على عطاءاتهم ومشاريعهم الأدبية. هذا الذي اختصره جان بول سارتر في قوله الشهير: "الآخرون هم الجحيم"، والآخرون هنا هم الأهل وكل من يعوق فعل الخلق والكتابة والعزلة الضرورية للشاعر أو المفكر أو الفيلسوف أو الروائي. فوجودية سارتر ترفض ديكتاتورية الخاص والعام، لأنها ترفض افناء الشخص في سبيل العائلة أو الدولة. هي مع الشخص أولاً. ولذا كانت الحرية من أضخم أبواب الوجودية.
الشاعر الألماني هولدرلن يتطرق إلى هذا الموضوع في إحدى قصائده عندما يقول: "حين نفسك تتخطى جسدك، نفسك التواقة، حزيناً ستبقى حينئذ، على شاطئ قارس، مع أهلك، ولا تعرفهم". أحياناً، يكون الصراع بين الكاتب وأهله نتيجة خيار شخصي لدى الكاتب بالعزلة، وبقطع الجذور، وقتل الآخرين الذين يسكنون داخلنا. الآخرون، الذين هم الرقباء في أحيان كثيرة. هذا ما يقوله هولدرلن، إذ إن خيار العزلة، يرتّب علينا علاقات موتورة بمن حولنا، خصوصاً أهلنا.
يذهب دوستويوفسكي أبعد من ذلك بكثير، فصورة الاب لدى الروائي الروسي في "الاخوة كارامازوف" هي الاب المتوحش المبتذل الملتهم الذي يبرر الكاتب قتله على يد ابن مختل بتحريض من ابن معتل.
محمد شكري، الروائي المغربي، صاحب "الخبز الحافي"، يعدّ الأجرأ عربياً ربما في كتابته عن الأب، وقتله، ليس كرمز سلطوي فحسب، بل باعتباره صورة مسقطة عن المجتمع المغربي. في أحد اللقاءات مع شكري، ولدى سؤاله عن أبيه، وعن علاقته به، أجاب: "أبي لوى عنق أخي أمامي بعنف غير إنساني ودفنه في الغد. ربما حقدت عليه حينها. لكن في ما بعد تفهمت الأمر. شخص مثله بائس وشبه مجنون. له عقل فأر. ماذا تتوقع منه؟ لقد تفهمت وضعه وظروفه، لكني لم أصفح عنه. يجب أن أكون الله لأصفح عنه. لكن في نهاية حياته، وقبل وفاته بأيام قليلة ذهبت لزيارة والدتي، لا لزيارته هو رغم أنه كان مريضاً. في تلك اللحظة رأيته يبكي. ومع ذلك حينما مات، لم يتحرّك داخلي أي شيء، وكأنه ليس أبي هذا الذي مات". في "الخبز الحافي" تفاصيل دقيقة عن تلك العلاقة بين شكري ووالده. يفضح بشخصية والده داخل الرواية، المجتمع المغربي وتخلفه. لكن وعلى الرغم من تفهم شكري لتصرفات أبيه، إلا أنه لم يصفح عنه، وهذا ليس فقط لأنه ليس الله، كما أشار، بل لأنه إذا صفح عنه، سيخسر المحرّض الذي دفعه إلى الكتابة. لنتصور أن علاقة شكري بوالده كانت راقية وممتازة، هل كان ليكتب رواية كـ"الخبز الحافي"؟ هل كان ليجد ما يحفّزه على الكتابة من الأساس؟
يذهب ماهر شرف الدين في الإتجاه نفسه في كتابه "أبي البعثي"، ليقتل الأب السياسي والإجتماعي، وليكسر عبره سلطة النظام القمعي السياسي والأمني الذي يضطلع بها النظام السوري. في "أبي البعثي" يشرّح شرف الدين الأب، الذي هو صورة عن حزب البعث العربي الإشتراكي، ويعرّيه أمام قرّائه، بجرأة كبيرة، ولغة كالمشرط وكأدوات التعذيب التي يستعملها المحققون في أقبية التعذيب.
من جانب آخر، وفي كلمته خلال تسلمه جائزة نوبل للآداب، تكلم الكاتب التركي أورهان باموق، عن حقيبة والده التي جلبها له في مكتبه قبل وفاته بسنتين، وفيها مجموعة من الكتابات، وقال باموق إنه لم يجرؤ حتى الساعة على فتحها، خوفاً من أن يعثر على كاتب عظيم بين الأوراق. يخاف باموق من أن يكون والده كاتباً عظيماً، وأكثر منه أهمية، يقول ذلك بينما يستلم الجائزة الأدبية الأرفع، جائزة نوبل للآداب.
يبقى أن الجملة الأكثر تعبيراً عن موضوعنا حول الكتّاب وعلاقاتهم بآبائهم، هي تلك التي كتبها الفرنسي أنتونان ارتو: "عشت 27 عاماً في كراهية غامضة للأب".
رامي الأمين
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد