يوميات في دمشق حزيران 2012... ليلة اللاعودة
عند الساعة الـ11 ليلاً أو بعد ذلك بقليل، كنتُ أنهيت عملي في المكتب، وعدت للفندق وانتشلت زجاجة جعة من براد الغرفة. حتى بائع الخمور في شارع الباكستان، والذي كنا نسميه بـ «الصيدلية المركزية» لجهوزيته بالخمر وملحقاته ليل نهار، كان قد أغلق باب متجره في ليل دمشق الخانق. كانت الشوارع خالية، وبعضها معتم. كنت أتلمس ثقل الهواء وأعانده وأنا ابحث عن بائع سندويش أو اي بقالية لا تزال ابوابها مفتوحة.
أوى الناس لبيوتهم باكراً، وجُلهم جلس أمام التلفاز ينتظر شيئا ما لا يدركه، أجوبة ما تأتيه. شبَّه أحد الصحافيين المشهد بمشهد «موت الرئيس حافظ الاسد العام 2000»!! الوجوم ذاته على الوجوه، والخشية على المصير اثقلت الهواء في مساء العاشر من حزيران منذ أحد عشر عاماً. البعض اختار أن يغادر دمشق على عجل، بالاتجاهات الأربعة، لكن شيئا دراماتيكيا لم يحدث ليلتها، ولا الليالي التي تلت.
غير أن وجوم هذا المساء كان مغايراً، وقد تدفق غضباً أسود. بعد منتصف الليل بقليل، توهجت سماء دمشق لوهلة، وتلا ذلك صوت انفجار حملني من سريري إلى الارض. تبع الصوت، آخر، ومن ثم انفجار ثالث، ورابع وخامس.
من على شرفتي في الفندق المطل على أحياء البرامكة وما يليها من الميدان ومخيم اليرموك كنت أرى الرصاص الخطاط والبالونات الحرارية تعلو في السماء، تتبعها أضواء خاطفة تشكل ما يشبه القوس فوق الأحياء البعيدة، ويختلط نورها الخاطف بأصوات تفجرها وتحولها إلى صدمات مفتتة.
قصفت المدافع والدبابات مناطق كثيرة في ريف دمشق وبعض أحيائها المتاخمة، التي تسللت ميليشيات مسلحة إليها. يومها انكسر أو تفتت عصب الرحمة الذي كان بقي معلقا يتأرجح من دون أب يرعاه طوال أشهر الأزمة. لم يعد له راع حتماً، وبُتر، وصارت المعركة، هي معركة حياة أو موت. كان كل من يعتقد شيئا آخر، بمثابة خائن وضيع، لا تتجاوز قيمة حياته ثمن رصاصة صدئة.
اصطف الناس صفين. لم يعد هنالك مكان للحِكَم التي تدعو للتسامح وفتح قنوات الحوار والنقاش. كانت الرصاصة التي استقرت بجانب قلب الدولة، هي الشاهدة على ما سيجري لاحقاً من انتقام عنيف لا يترك مكانا للمترددين. «إما نحن وإما هم»، تكررت العبارة مجددا، في كل مكان، حولي. «انتهوا منهم بقى» قال أحد الصحافيين اللبنانيين الذين التقيتهم بالفندق، «حاجة لحوسة...»، قال آخر.
انكمش مراقبو البعثة الاممية، وبدأوا يشعرون أن المكان ليس مكانهم وأن وجودهم عبثي. فاضت مواقع «المعارضة» وتصريحات ممثليها الكثر في الخارج بكلام النصر والمعركة التي باتت شبه منتهية. لكن المعركة لم تنته. على العكس تماما، يومها بدأت الحرب فعلياً.
صارت الإجراءات الأمنية خانقة. صار العمل شبه مستحيل، أضحت كتابة قطعة للجريدة كالنحت في الصخر. تلفزيونيا، بات الحديث ملخص بعبارتين... تطهير واقتحام، تحرير وتصفية. كثر كنا حينها الذين سئمنا التواتر السائد، والحكم المسبق والمصطلحات التي تفرزك في اتجاه أو آخر. كانت الناس تموت بين كلماتنا، تهجع على قنابل تلقى عليها، ونحن نتنفس. تصبح بين ليلة وضحاها رهينة شباب متعصب يقاتل عملاقا مستوحشا.
يدوس الشباب الحرمات ويتحصنون في المنازل ويعلنون أنفسهم حكاما على العباد بقوة السلاح ورغبة الانتقام. يأتيهم الرد من على ارتفاع 1000 متر أو عبر قذيفة مدفع من على قاسيون. بات الموت رخيصا أكثر وسهلاً مستباحا، ومبرراً. من مات برصاصة في مقدمة الرأس، أو مات برصاصة في مؤخرة الرأس، أو مات بقطع الرأس. تعددت اسباب الموت الواحد، المجاني، الرخيص والأليم.
حاولت ملازمة الفندق قدر المستطاع. كان صديقي المسـؤول العسكري يقول لي بين اليوم والآخر: «ما يجري هو مقبلات فقط، الطبق الرئيسي لم يُقَدَّم بعد». كنتُ اشفق على البلاد من تلك الوجبة المكررة يوميا.
لم يعد الفندق يشكل فرقا حقيقيا عن منزلي الذي تركته، صحيح انني لم اعد انام في موزع الغرف أو في الحمام، تفادياً للرصاص الطائش، إلا أنني في الحقيقة فقدت النوم تماما هناً، فالبريق الذي تحدثه القذائف والصوت الذي يليها لم استطع اعتياده. كان التعويض الحقيقي الوحيد هو في أجواء الفندق الحيوية نهارا حتى يخلو من زائريه وتبقى صالاته لزبائنه فقط، فيما عدا ليلة واحدة علقت بذهني واضافت علامات استفهام إضافية لسلسة الاسئلة التي لا تنتهي عن الحياة والموت.
في أحد مساءات أيام السبت التي تلت تفجير مكتب الامن القومي الشهير وذهب ضحيته كبار ضباط الجيش وجهاز الامن السوريين، أثار حضور عدد كبير من الشبان والفتيان في صالة الفندق فضولي، وحين استطلعت الامر، علمت بأن ناديا للرقص في أحد الشوارع الدمشقية تعذر الوصول إليه، فقرر المسؤولون عنه إقامة حفلتهم الاسبوعية لرقص التانغو في بار الفندق.
«تانغو ؟ هنا الآن؟ في هذه الظروف؟» سألني صديقي اللبناني علي. «مجانين هدول؟». كانت القذائف تسمع في الجبال المحاذية لدمشق في منطقة ركن الدين. كنا من باب الفندق الدوار نرى لمعانها وهي تنفلش لتصيب أهدافاً مجهولة. وكان أزيز الرصاص لا يتوقف ثانية واحدة. «تانغو...؟ بالله بجد؟» يسأل علي غير مصدق. فتيات في العشرينيات وبداية الثلاثينيات بتنانير قصيرة مشدودة وسراويل مطاطية يراقصهن شبان بقمصان تلتصق ببطونهم وصدورهم الرياضية، فيما سراويلهم من الـ «جينز». نسترق النظر من خلف الباب لحركات السيقان الخفيفة والسريعة الإيقاع، للأفخاذ التي تلمع من العرق، فيشيح علي الخجول بنظره، فيما اتابع دوران الثنائي الأقرب والأبعد والذي بينهما بغبطة غامرة.
هذا جزء من سوريا المفقودة الآن. أعادتني الموسيقى والمزاج الراقص الفرِح سبعة أعوام في الزمن. إذ كنت أجتمع وأصدقاء كثر من كل طوائف الدنيا وكل قوميات البلد ومحيطه كل يوم خميس، في ناديي الـ «لاتيرنا» أو «أميغوز» لنحضر حفلات راقصة حتى الصباح.
كانت صديقتنا ريما تشتكي من تأخر الموسيقى حتى الواحدة صباحا بانتظار أن تمتلئ الطاولة الكبيرة في صدر الملهى. كان الضيف احد اثنين من عائلة انشقت بمجملها عن النظام. كان رب العائلة السبعيني غالبا ما يدخل أيضا بعد الواحدة ليلا يمسك بمرفقه مطرباً لبنانياً أو آخر. الموسيقى الراقصة لا تبدأ حتى «يشرّفوا»، كما يخبر مدير الصالة ريما الحانقة، والتي كانت تنهي حديثها على الدوام بشتيمة «يلعن أبوك على أبوهن».
يتأمل علي الشبان الراقصين من بعيد، ويهز رأسه قائلاً ببعض الحزن: «أرى لبنان آخر يولد هنا «، فهمتُ مقصده، لكنه يوضح أكثر: «في لبنان، عالم تُجلي جرحاها وتلم اشلاء اولادها في مطرح، وعالم ترقص على الطاولات حتى الصباح في مطرح آخر»، يُباعد بين يديه قليلاً ويتابع: «والمسافة بين المنطقتين هيك بتكون» . يتأفف علي فيما أحاجج أنا بأنه إصرار على الحياة. «لا أوافق يا عزيزي، هذا ليس إصرارا على الحياة، عدم المؤاخذة، هذا تجاهل، وهروب من مواجهة الحياة».
يصمت قليلا ثم يعاودني القول: «كنا نعتقد هذا في لبنان، على الأقل كنت أظن أن هذا هو الحال، ولكن يوما بعد يوم، وأنا اشاهد بلادي تنتقل من هاوية إلى أخرى، أعلم أن كل ما يجري هو تأجيل للسقوط الأكبر، ذلك الذي يتجه نحو هاوية لا صعود منها ولا نجاة» .
«له يا زلمة، الناس عنا عمتهرب لعندكن ...»، أقول محاولاً تلطيف مزاجه، لكنه يتابع: «شوف، أنا عشرين سنة صحافي صرلي، تعلمت شغلة من بين عدة إشيا بهالرحلة، هون بهي المنطقة لا يستطيع بلد أن يحصن نفسه ضد مشاكل بلد آخر، السبب أن الأمراض ذاتها موجودة، يبقى قوة جسم كل بلد على الممانعة والمقاومة وذلك إلى حين».
وأضاف: «بعض السوريين يقارن بين البلدين، بعدد الأبراج وارتفاعاتها، ومن ثم يحسدنا. أنا اقول لك بعد الحروب الأهلية، كما في لبنان، تستطيع أن تتجاوز دمار الأبنية والمنازل. لكن دمار النفوس من يصلحه؟ الاستثمار والمال لا يصل لهذا العمق. شخصيا، وربما أنا مخطئ، لكن أظن أنني محق، لا مستقبل لهذه البلاد. لأنه لا مستقبل للمنطقة».
كان علي يعمل مع محطة تلفزيونية قوية التمويل، ومحسوبة على إيران. حاول الرجل الموهوب مرارا أن يخرج من هذه الدائرة التي تطغم الإعلام العربي بتمويل جهة من جهتي الخليج العربي، لكن أبواب المؤسسات الراغبة به كانت مغلقة دوما، أو مفتوحة حصرا في احد الاتجاهين. روى عن طموحه بمرارة، كاشفاً كيف انتهى لتقديم طلب هجرة لا تعرف به سوى زوجته إلى كندا «إن كان مستقبل الأمة في يد هؤلاء... فلا مكان لنا»، قال قبل أن يغادرني إلى غرفته.
صباحاً، حاولت أن أعدل مزاجي الكئيب، كما في كل يوم، بتناول فطوري على مدى ساعة من الزمن مطلاً من طاولتي على المسبح، أتابع حركة امرأة مرتدية البيكيني أمامها طفلان يلهوان بالماء. هي شقراء اربعينية، يهتز الهواء بصوت تفجير، تلتفت المرأة نحو أوراق النخيل التي تراقص الهواء وتتابع اللعب مع أولادها.
في المطعم لا تتغير اسطوانة فيروز الصباحية، تغني لدمشق ونهرها الجاف بردى، اراقب النزلاء الذين بدا لي أن أعدادهم زادت في الأيام الأخيرة، وإن كان قسم كبير منهم يبدو مألوفا وقد تجاوز عقده الرابع، يغادرون في التاسعة والنصف جميعا تقريبا، قبل أن يشاركوني الطعام الصباحي كل يوم. هذا المشهد تكرر يومين متتاليين، وحين سألت مديرة العلاقات العامة في الفندق صديقتي غريس، قالت بالانكليزية وابتسامة عريضة على وجهها: «ذا غوفرمينت إيز هير ماي فريند. نيرلي أول اوف ات» (الحكومة موجودة هنا صديقي، كلها تقريباً).
«الحكومة نازلة هون؟» هزت رأسها بالإيجاب، «إمم. من بعد تفجير القومي بيومين. اجتن تعليمات يتوزعوا على 3 فنادق. نحن من بيناتن». ضحكت، ثم اضافت: «زاعجينك شي...؟»، أجبتها: «لا بالعكس. فقط بدت وجوههم مألوفة أكثر من اللازم».
كان تعديل حكومي طفيف جرى قبل هرب رئيس الوزراء الأسبق رياض حجاب، في الخامس من آب 2012. بعد كلام غريس تذكرتُ أن احاديث جيراني على طاولة الإفطار لم تكن.. بمعنى من المعاني طبيعية. كان جوها متوتراً، وكلماتها مقتضبة.
في اليوم التالي، كنت اول من دخل المطعم الصباحي... وآخر من غادره.
انتظرت دخول الزبائن وراقبتهم، بانتظار سحنة أليفة. أخيراً وفي حوالي الثامنة والنصف، وبعد فنجان القهوة الرابع، دخل شخصان ببدلات رسمية ميزت أحدهما وكان وزير دولة. بعد قليل جَلَست إلى جانب الأخير امرأة كانت وزيرة معينة منذ شهرين تقريبا أيضا. كان اسمها سعاد واسم زميلها مفيد. حملتُ فنجان قهوتي، بعدما أنهيا طعامهما، واستأذنتهما الجلوس معرفاً عن نفسي وعن عملي. الرجل اللطيف سرعان ما رحب بي، فيما توجست المرأة. «انا نزيل معكم هنا» قدَّرت أن هذه الكلمات ستزيد الألفة، «وأريد أن أعبر عن دعمي فقط».
كنت صادقاً، فأنا أحترم كل رجل وامرأة في هذه الدولة على رأس عمله، من حيث المبدأ.
كانت الدولة تجاوزت صدمة الانشقاق الأكبر (رئيس الوزراء حجاب) خلال الأزمة وعينت بديلا عنه، وزيراً من طاقمه هو الطبيب وائل الحلقي وهو من ابناء درعا. كتبت حينها عن الصورة التي جمعت طاقم الحكومة، والتي كررت تأملها وأثرت بي طويلا. جالت الكاميرا الرسمية صباح اليوم التالي عليهم واحدا واحدا، أولا لتنفي شائعات تناقلتها وسائل الإعلام حول انشقاق وزراء آخرين مع حجاب، وثانيا لتقول إن «القافلة تسير».
كانت المرارة واضحة في العيون التي كانت إما تصطنع الانشغال بملف بين اليدين، أو تنظر مباشرة بعدسة الكاميرا.
علق لي المسؤول «ابو قصي « بعد بث الصور بقليل أن «الله فقط يعلم ما في النفوس»، تنهد وتابع: «ظننا أننا نستطيع الاعتماد على هذا الخائن». شعور الخذلان الذي كان لدى ابو قصي، كان ذاته في نفوس زملاء حجاب على طاولة مجلس الوزراء.
«ما الذي سيقوله لنفسه في صباح اليوم التالي؟» قال الوزير مفيد بعدما اطمأن لي، وأضاف: «اقسمنا على الأمر ذاته، كان يمينا مُعَظَّما، كما في المحاكم وفي الدستور، هو يمين معظم، إن كنت ستحنث به لا تقسمه»، ومعرباً عن خيبة ظنه تابع: «وجلسنا معاً لشهرين نخطط كيف نصون الخدمات للمواطن».
كانت الوزيرة سعاد، تتابع حديثنا من دون تعابير ظاهرة حين سألت زميلها عن جلسة مجلس الوزراء الأخيرة قبل يومين، فقال مفيد إن رئيس الوزراء الفار كان يتحدث عن خطط لما بعد أشهر. خطط استراتيجية، للمدى البعيد... رَفَع موازنة اربعة مشاريع تنموية في الاجتماع الأخير. كان يضحك علينا. حتى أنه طلب من وزارتنا دراسات... ربما كان يرغب منا أن نرسلها إليه في قطر؟»
يضحك بأسى، ثم تعود لوجهه الجدية السابقة «كلنا بشر في النهاية. البعض يغادر تاركا خلفه من يقاتل. والبعض الآخر لا يستطيع إلا أن يقاتل».
ثم يسوِّي جلسته، كمن يستعد للمغادرة، ليبادرني بعدها بالسؤال: «أنترك سوريا تتشتت وأهلها يتشردون؟ أنترك الناس للجوع والبرد. من سيُلقي عين اهتمام على الناس. من سيُعيد تجبير اليد المكسورة، حجاب وجماعته؟»، يضيف بحنق: «هل هذه قناعته التي خبأها عنا؟ أن لا تقوم سوريا الجديدة سوى على خراب؟ أن يكون شعبها الموعود هو الذي في المنافي والمهجر؟ ما الذي يبرر تحصن المئات بين عشرات الآلاف ليجروهم إلى مصيرهم المظلم ذاته؟ أي أخطاء ثورية كما يسمونها تلك التي يمكن التسامح بشأنها، من دون أن تلد جنينا يشبهها ويحمل ندباتها الغليظة؟»
تذكرت والوزير مفيد يلقي حججه، قصة بيتنا الريفي الآيل للسقوط.
كان والدي كثير السفر، قد عهد ببناء البيت إلى مهندس من بين أصدقاء طفولته. وبعدما تسلم البيت الذي استقر فيه لاحقاً بعامين، بدأت الشقوق والثقوب تظهر في الأعمدة والجدران. كان البيت الواسع والممتد على مساحة كبيرة، قد شيد من دون اساس متين يذكر، ووضع بدل الحديد الأسلاك المعدنية، وبدل الاسمنت الحجارة. بدأ سقف البيت يميل، والبلاط يتباعد كاشفا عن تصدعات عميقة ومظلمة. مات ابي بعد سنوات عدة وفي قلبه حرقة من أمرين. خيانة صديقه له. وعدم قيامه بهدم البيت الملعون، وبناء بيت جديد مكانه مطهر من تلك الخيانة.
هل يمكن قياس وضع الدار الكبرى على وضع داري تلك؟ كان مفيد، يرى ما يدعو للكثير من الفخر في سوريا العام 2012. «بغض النظر عن كل ما يحصل، المعامل تعمل، الرواتب تدفع، ثمة جيش يقاتل ولو بنصف عديده، باصات النقل العام توصل الناس لبيوتهم وأماكن عملهم، والقمامة تُزال حين يمكن لعمال النظافة دخول حي أو حارة، ما الذي يريده هؤلاء الخونة؟» تعابير وجهه باتت اشد.
«أن يذهب ضحية القتال على جرة غاز مئة شخص؟». كان الوزير يشير لحادثة جرت في منطقة على أطراف دمشق قتلت خلالها امرأة وجرح اشخاص عدة. «هل هذا هو المطلوب لكي يظهر جعاري على (قناة) الجزيرة ليغرقنا بلعابه حول فساد النظام وعدم أهليته للحكم؟ هل نترك أولادنا في الطرقات والحدائق لكي ترضى شاشات التلفزيون؟ ولكي يتبجح وزراء فرنسا وتركيا وقطر ببؤسنا؟ أليسوا سببا مباشرا لهذا البؤس؟»
كانت الوزيرة سعاد تهز رأسها بالموافقة وتنفخ سيجارتها بين الحين والآخر، بحركة عصبية ومحبطة. «يعني استاذ، أيهما افضل أن تتلقى راتبا لتخدم بلدك من ضرائب الدولة وموازنتها ايا كان موقفك من هذه الدولة، أم من خزائن إمارة قطر وحساب رئاسة وزراء تركيا الخاص، أو حتى من موازنة الاستخبارات التركية أو الفرنسية؟ أليس عارا أن يقول عميد لامع في الجيش أن الاستخبارات الفرنسية هربته من البلد؟ مَن كان يخدم طوال فترة وجوده في الجيش إذاً؟ مع مَن كان قلبه؟ ومثل هذا وغيره يجب الاطمئنان له في الحكم؟ أنا أعرف شيئاً واحداً. الشريف لا يغادر. لا يترك أبناء وطنه في محنتهم من دون أن يلتفت للوراء. يبقى ويقاتل حتى ولو بلسانه. الكلمة التي تنقذ روحاً في سوريا يجب أن يُقدَّس صاحبها. لا الكلام الأجرب الذي لا يرى أفقاً سوى بقصف الناتو لكل سوريا».
يبدو مفيد مستعداً لقول المزيد، حين يأتي النادل مجددا ليمسح الطاولة ويجدد ابريق القهوة. ينظر مفيد إلي ويبتسم، ثم يخاطب النادل بلطف: «يعطيك العافية، اكتفينا يا ابني». يحييه الشاب بحرج، فيما يتابعه مفيد بعينيه وهو يبتعد. يتهيأ الوزير للوقوف، بعدما نظر لساعته «الخلاصة أخي. هذا النظام ونحن جزء منه. فيه مليون علة وعلة. لكن تركه يغرق بالشكل الحالي سيغرق البلد. ونحن لسنا خونة لهذا البلد الأمين. نؤمن بقداسته وطهر ابنائه أو معظمهم. على الاقل أنا شخصيا هكذا. نؤمن بمستقبل سوريا ورسالتها للعالم أجمع». تغيب عيناه وراء النظارة التي يرتديها بحركة مترددة، كأنما يخفي غشاوة دمع تَشَكَّل في عينيه.
يختم بجرأة: «ابني، نحن عشنا أكتر منك، لا كرامة لنا إلا في وطننا، بتاخد من الغريب بدك تخدم الغريب. صحيح أننا نحمل عبئا عظيما، لكن تخيل كم يزيد ثقل هذه الأزمة حين يترك كل منا مكانه. لهذه السفينة ربان، والعاصفة شديدة، خائن من يطلق النار على الربان، وخائن من يترك مكانه، أما من لا يرى أفقا... فليقفز من المركب اللعين ويريحنا من تشاؤمه وإحباطه».
زياد حيدر
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد