الأرستقراطي الثري الذي وَهَبَ إبداعه للعالم وممتلكاته وقصوره للفقراء
رحل الأديب الروسي ليون تولستوي (1828 1910) وعلى خطى بطلته الشهيرة «آنّا» في رواية «آنّا كارينينا» أنهى حياته في محطة قطار متواضعة هي محطة «آستابوفو» حيث لفظ أنفاسه الأخيرة وأغمض عينيه على العالم. وإذا صاحب أشهر روايتين في العالم: «الحرب والسلم» و«آنّا كارينينا» كان قد أصبح في قمة التقشّف والزهد بعد الثروة الهائلة التي جمعها من إمبراطورية الكتابة، فهو لبس ثياب الفقراء ووهب ماله وممتلكاته للفلاحين في قريته وهام على وجهه «لينهي حياته كما يريد»، فربما هي لعبة الأقدار التي شاءت أن يتوجه في يومه الأخير الى محطة قطار مسافراً الى بلغاريا، فينهار كلياً بسبب إصابته بالتهاب رئوي حاد ويموت هناك.
كأن في ميتته تلك وفي ذلك المكان بالتحديد ما يتواصل مع انتحار بطلته الشابة «آنّا» التي رمت بنفسها أمام القطار. وكأنه جاء ليسهر على موتها وعلى ذكراها، تلك التي ذابت من شدة الحب ومن فرط الأحاسيس ومن قوة التحدّي لمجتمعها. ماتت عنه قبل أعوام وها هو يعود إليها ليذوب هادئاً في ظل انتحارها الصاخب. «آنّا» البطلة الشابة الجميلة العاشقة والرافضة والثائرة أحيت للحظات في صدره الهالك وفي ذاكرته التي هي ذاكرة بلاده ومجتمعه على مرّ ما يقارب القرن كل حياته كشريط سينمائي وعلى صوت صفّارة القطار وضجيج السكة الحديد وأصوات المسافرين أغمض تولستوي «شيخ الروائيين» و«أعظم روائي في التاريخ» عينيه ليكسب موته تماماً كما أراده حين لم يعش حياته خصوصاً السنوات الأخيرة كما حلم بأن يعيشها.
وليس غريباً على أي دارس لحياة تولستوي أن يبدأها باتجاه معاكس، أي من النهاية الى البداية لأن ما طمح الى عيشه هذا الكاتب في أيامه الأخيرة كان أشد غرابة وأعظم بالإحساس والإنسانية من كل ما كتبه في مؤلفاته.
فحين بلغ تولستوي الثمانين من عمره، كانت شهرته قد ضربت كل أقاصي الأرض وترجمت أعماله الى لغات عديدة. وكان أرستقراطياً حقيقياً يحمل لقب الكونت ليو نيكولايفيتش تولستوي ويعيش حياة رغيدة ويتنعّم مع عائلته بثروة كبيرة جمعها من نجاحه العالمي وبممتلكات وصلت الى أن يمتلك القرية التي يعيش فيها. لكن تولستوي الذي كان قد بدأ يميل منذ سن السبعين الى تغيير كل نمط حياته. تنازل عن ضيعته لأهلها وعن أرباح مبيعات كتبه لزوجته ولبس ثياب الفقراء وراح يعيش في الحقول المجاورة لبلدته يكسب ماله بعرق جبينه. وذاع صيته في روسيا وخارجها وتهافت الناس يبحثون عنه لمعرفة تفاصيل حياته باعتباره فيلسوفاً له مبادئه الخاصة. أما زوجته، فقد ثارت على كل هذا الموضوع وسعت الى اتهامه بالجنون لاستعادة ممتلكات العائلة واعتبرت أن حياته بين الفلاحين ونومه في أكواخهم وارتداءه ملابس تشبه ملابس الفقراء أمر يدعو الى الاشمئزاز. وكان ردّ تولستوي عليها برسالة طويلة وشهيرة تركها لها ذات يوم قبيل رحيله النهائي عن المنزل وجاء فيها: «أصبح وضعي غير محتمل في هذا المنزل يا صوفيا. لم أعد قادراً على ممارسة حياتي اليومية في هذه الرفاهية التي تحيط بي وبات الثراء يخنقني. وما أنشده هو عالم من السكون والوحدة، لا يفسده ضجيج المال، وأنانية الثراء، ووحشية الرغبة في التملّك...». في كل هذا نقرأ حياة تولستوي وكأن هذا الأخير اختار في عرشه على مملكة الأدب والكتابة أن يقول إنها ليست مملكة من هذا العالم، فلا تاج ملكها مرصّع بالماس والذهب ولا ثيابه ولا ماله ولا قصوره لها علاقة بممالك الأرض.
نتذكر ليون تولستوي في مروره الرائع على هذه الأرض فكان الروائي والمفكر والفيلسوف والداعية للسلام وهو اعتبر من المؤسسين أو من المهندسين للثورة الروسية ومصدر وحيها وقد وصف نفسه يوماً بالآتي: «إن جسمي يشدّني الى شكل فلاح روسي حقيقي...». وهو كان شغوفاً بالمعرفة والعلم ومعروف عنه قوله: «أشعر بحاجة ملحّة الى أن أعرف وأعرف وأعرف وأعرف...». ويقال بأن لينين طوّر شعاره الثوري منه فقال: «أيها الرفاق، تعلموا تعلموا تعلموا...».
ولد الكونت ليو أو ليف تولستوي في 9 أيلول 1828 في قرية روسية صغيرة هي ياسنايا بوليانا وتمتلكها عائلته الأرستقراطية قرب موسكو. توفي والده وهو لما يَزَل صبياً صغيراً، فتولّت خالته تربيته، وبدأ يتلقى علومه على يدّ مدرسين خصوصيين. في العام 1844 وكان في السادسة عشرة، التحق بجامعة قازان لكنه لم يحب طريقة التدريس فيها، وفي تلك المرحلة، ظهرت لديه الميول الثورية والانتقادية البنّاءة، وحين سيصبح في ما هو عليه من شهرة سنكتب أيضاً إصلاحات في الشؤون التربوية في بلاده. ترك الدراسة عام 1847 قبل أن يتخرّج وعاد الى مسقط رأسه. بدأ بتثقيف نفسه ثم شرع في الكتابة. ومن مؤلفاته في البدايات: «الطفولة» نشرها عام 1852، ثم «الصبا»، 1854 و«الشباب» 1857، وفي تلك المرحلة من الكتابة كان مسافراً الى القوقاز حيث شارك في الحرب القوقازية.
ثم شارك في حرب القرم متطوعاً في الجيش حيث أظهر شجاعة فائقة لكنه كره الحروب وما ينتج عنها من بشاعات فكتب من وحي تجربته هذه «القوقاز» عام 1863 وتحتوي على قصص قصيرة، وبعدها كتب «قصص من سيفاستوبول» عالج فيها موضوع الحرب. لكن كتابه العظيم «الحرب والسلم» الذي يُعتبر حتى اليوم من أعظم الروايات في التاريخ فقد كتبه بعد تلك التجربة القاسية في الجيش والحروب وتحديداً بين 1863 و1868 ليصدر في العام 1869. و«الحرب والسلم» ملحمة تاريخية تغطي الأحداث السياسية والعسكرية في أوروبا بين 1805 و1820 ومن أبرز ما يتناوله من أحداث في «الحرب والسلم» غزو نابوليون لروسيا عام 1812. غير ان الظاهر من الرواية المتعلق بالأحداث هو جزء بسيط منها، فتولستوي رسم صورة عن البلاد بأسرها ودخل في تفاصيل حياة أفراد في المجتمع الروسي، حيث القارئ مدعو الى موسكو في بداية القرن التاسع عشر: في غرب البلاد الحروب التي يقودها نابوليون في أوجها، اما في موسكو فاللقاءات الاجتماعية تتواصل، خاصة تلك التي تضم شخصيات سياسية تدلي بآراء حول الحرب «بالفرنسية» التي صارت منتشرة آنذاك في المنطقة، واللقاءات تعني الحفلات ودعوات على العشاء والعيش اليومي الهانئ الى حين يأتي يوم ويدخل بونابرت الى روسيا: الكل ينهض لمواجهة الاحتلال. وحاول تولستوي ان يجسد من خلال شخصيات رمزية تصور كل المجتمع الروسي تلك الحقبة المحتدمة: الجندي الشاب والمناضل نيكولا وشقيقته ناتاشا ووالدهما الكونت روستوف، والأمير اندريه بولكونسكي وبيار، الابن غير الشرعي للكونت بزوكوف... من ينسى هذه الشخصيات المؤثرة من عالم تولستوي؟ ولكن ثمة ما حصل بعد أعوام حين كتب تولستوي روايته الطويلة الثانية وكانت بعنوان «آنا كارينينا» وصدرت عام 1877 وكانت رائعته الثانية التي انتقل من خلالها من معالجة الشؤون السياسية والوطنية الى القضايا الإنسانية والفلسفية العميقة، وهو وضع فيها بطلة نموذجية تدعى «آنا» وقعت أسيرة عواطفها الجامحة وشغفها بحب رجل جعلها تثور على مجتمعها وواقعها، وبهذه الرواية وجه الكاتب ضربة موجعة في وجه الأسس العائلية الزائفة في مجتمعه.
«الحرب والسلم» و«آنا كارينينا»
وإذا كان تولستوي قد كتب بعد روايتيه «الحرب والسلم» و«آنا كارينينا» العشرات من المجموعات القصصية، فإن الرواية لديه طبعت مسيرته وتعد «الحرب والسلم» ذات قيمة تاريخية حيث الأحداث في تدفق مستمر من تاريخ البلاد ومن حاضره في حياة الأبطال وهم في خمس عائلات روسية تمر في تجارب إنسانية وبخاصة بطله بيار بيزوخوف الكاتب المحب للسلم الذي يتلقى الاهانات من كل صوب في مجتمعه لرفضه خوض الحروب والمشاركة فيها على غرار شباب جيله، لكنه بعد غزو نابوليون بلاده ومشاهدته أهوال ما حدث من حوله انضم الى صفوف المقاتلين وعاش تجربة قاسية بين مشاعره الوطنية وواجبه بالدفاع عن عائلته ومحيطه ومبادئه الرافضة لفكرة القتل ليصل في نهاية المطاف الى حالة اكتئاب من واقع الطبيعة الإنسانية وكيف ان الإنسان يميل الى تمجيد القتل والحروب. وإذا هو وضع في «الحرب والسلم» 600 شخصية مثلت مجتمع بلاده فكل شخصية كانت قائمة بذاتها وتتفرد بتاريخها. اما كتابه «آنا كارينينا» فقد غاص فيه وعبر شخصية بطلته الى عمق القلب الإنساني النابض بالعواطف والأحاسيس واستطاع ان يفهمه بمقدرة غير عادية وتمكن من رؤية الحقيقة المجردة والعارية الكامنة فيه، وقد اعتبر كبار النقاد كما الروائي الكبير دوستويفسكي من بعده انها رواية «الكمال»....
كوليت مرشليان
موقع " المستقبل "
إضافة تعليق جديد