رغم غيابه عن ملتقى السرديات.. وليد إخلاصي يثير الأسئلة المشروعة
سنوات كثيرة متواصلة من الكتابة في جريدة «تشرين» لم ينهها سوى وضع صحّي حال أيضاً دون قدوم الأديب وليد إخلاصي من حلب إلى دمشق وتكريمه من قبل القائمين على ملتقى السّرديات، لتبقى أسئلتهم وأسئلة الآملين برؤيته والنّقاد والحضور المشروعة بلا جواب.
تجربة غنية تدلل على عمق موهبته وثقافته، يقول الإعلامي جمال الجيش: كانت تجربة لصيقة بالواقع، حاول وليد إخلاصي من خلالها سدّ الفراغ الموجود في الميدان الأدبي.
تعددت طرائق التّفكير والإنتاج عند وليد إخلاصي وتنوّعت الأجناس الأدبية لديه بين قصة ورواية ومسرح، يقول الدكتور عاطف البطرس: اقترب وليد من المفكّر، والعلاقة بين المفكّر والرّوائي عضوية من الصّعب الفصل بينها، والسّؤال هنا: هل تعدّد الإنتاج يضعف المستوى الإبداعي؟.
سؤال يتبعه البطرس بآخر: لو أنّ وليد إخلاصي ركّز على موهبة أو جنس واحد أما كان سيعطي نصّاً أعمق وشكلاً أكثر تطوّراً؟ ويجيب عليه بشكل عام: تعدد الأجناس قد يفضي إلى النّمطية والتشابه في الإنتاج، صحيح أنّ الموضوعات تختار أشكالها لكنّ هذه الأشكال تتقارب، وتعدّد الأجناس يقود إلى تعدّد الأماكن والأحداث والشّخصيات ما يؤدّي إلى التّكرار، وهناك كتّاب كبار وقعوا في هذا المطب.
حاول وليد إخلاصي أن يقارب الحداثة في النّص – حسب جمال الجيش- وأن يكون حداثياً لأنّه أدرك أنّ التّجديد حالة مهمّة، لكن لم تكن هوساً لديه، أما الدّكتور البطرس فيذهب إلى أبعد من هذا، فيتساءل: هل هناك كتابة حداثية في مجتمع لايعرف الحداثة؟ سؤال كان من المفترض أن يجيب عنه الدكتور سعد الدّين كليب لولا تغيبه أيضاً وعدم مجيئه من حلب، لكن البطرس يجيب بـ: نعم لأنّ العلاقة بين الواقع والأدب ليست انعكاسات مباشرة وخاصّة بعد أن انفتح المكان على العالم وتنوّعت ثقافات وتداخلت.
اطّلع وليد إخلاصي على الثّقافات الغربية، لكنّه بقي مغرقاً في المحلية كما فعل الأديب الراحل نجيب محفوظ، يقول البطرس: ربما تكون المحلية أقصر الطرق إلى العالمية، كان وليد في أعماله القصصية والروائية مأخوذاً بفكرة التّجريب لكن تجريبه لم يكن متعالياً على واقعه، فتميّزت واقعيته بنكهة وجودية مرّة، وفرويدية مرّة أخرى، ومادية جدلية مرة ثالثة.
يضيف البطرس: وليد كاتب طموح لا يستقر على شكل وهذا واضح من تعدد مرجعياته الثّقافية وأشكال الكتابة، لكنّ النزوع إلى التجريب يثير إشكالاً نظرياً ومعرفياً هناك من يرتاح له وهناك من يشك به.
تعدد الأجناس عند الأديب وليد إخلاصي يستدعي مقاربة وجانباً تطبيقياً يصعب تنفيذه في ساعات وهو الذي قدّم ثمانين مؤلفاً للمكتبة العربية، لكن الدكتور البطرس أبى إلا أن يقدم نموذجاً مختصراً، يقول: رواية «زهرة الصندل» الصادرة عام 1980- 1981 تقدم بتكثيف شديد تجربة سورية في ثمانينيات القرن الماضي في مواجهة «الإخوان المسلمين»، وتجسّد شخصية الجدة «وهوب» الوطن بشكل عام فتدعو إلى المحبة والتسامح والمصالحة بين أبناء الوطن، عندما نقرأ هذه الرّواية اليوم نشعر أنّنا في أمس الحاجة لما آمنت به «وهوب»، هذه الرّواية شجرية فيها أجيال عدّة وتجري أحداثها في حي لا توجد فيه قطعة سلاح.. صدر بعدها مباشرة رواية «بيت الخلد» وتمثّل حالة انكسار لمناضل تقدّمي «أكسم الحلبي» الذي سجن لنشاطه الصّحفي، يمارس السجّان «نمر الكلسي» شتّى الوسائل لكسر «الحلبي» وينجح بذلك بعد أن يصل إلى زوجته ويقيم معها علاقة قذرة ينهيها «الحلبي» بحرق الاثنين معاً في فراش الجريمة ومنزلها، وينهي بعدها حياته بأن يحفر«قبراً» ويدفن نفسه فيه.
لم يتميّز وليد إخلاصي بالتّجريب والتّحديث والتّنوع فحسب بل بنبوءة تدللها شخصيات رسمها وكوّنها ونقلها من الواقع، يقول البطرس: وليد إخلاصي ابن مفتي مع ذلك كان تقدميّاً، في مسرحية «مقام إبراهيم وصفية» تقول صفية لإبراهيم: «لما بيخطبوا بيقوسوا السّما ولما بيرجعوا من الحج بيقوسوا السّما»،عند «أوديب» يقتل الابن أباه، لكن وليد إخلاصي وفي قراءة للمستقبل وتنبؤ له يرى أن الأبناء يقتلون الآباء، وفي «كوميديا سوداء» يوجّه الممثلون الرّصاص باتّجاه الجمهور، في ذلك الوقت سألته عن السّبب، فقال: إنّي أرى دماء في سورية!.
نبوءة ما كانت لولا التصاق وليد إخلاصي بواقعه وفهمه وإحساسه به، يقول الكاتب والشّاعر مالك صقور: لو كان وليد إخلاصي موجوداً كان الحديث تغيّر، ولد وليد في 27 أيار عام 1935 في مدينة اسكندرون وانتقل إلى حمص فحماة فحلب المدينة التي نشأ فيها وباتت تسكنه وهو يعيش فيها وينثرها بأقاصيصه وحكاياه، عشق حلب وقلعتها، فهما رمز الوطن الأم ورسم أو جسد أو صور أو خلق شخصيات متنوعة ومعقدة متناقضة، التقيته منذ أربعين عاماً، أديب جديد متمرد وحديث ومحدّث ويعلّم النّقاد النّقد مع احترامي لجميع النّقاد، ويتحدّث عن الجانب الإنساني عنده فيقول: بدأ وليد الأدب قاصاً، وهو مهندس زراعي، كان يقول: «دراستي للزّراعة علمتني الكيمياء وفيزياء الحياة ومن علاقتي بالزراعة وشغلي بالأقطان تعلّمت علاقتي مع الإنسان».
يضيف: كان لدى وليد هاجس الحرية وهذا كان مربوطاً بهاجس الموت وفي حواراتنا الطّويلة كان يقول: أنا لا أخاف الموت، إنّما أدفع الموت. وكان يدفعه بأن يجعله مصير أبطال شخصياته في الغالب.
يضيف صقور: لفت وليد انتباه القراء والنقاد وآمن بمقولة إغريقية قديمة تقول: «الموضوع يختار شكلاً» وردّدها وعمل بها، فالموضوع الذي يجب أن يكون مسرحاً جاء كذلك وهكذا.. حلب تشتهر بأبوابها الثّمانية لكن «باب الجمر» من اكتشاف وليد إخلاصي الذي مزج بين الحكاية والواقع في هذه الرواية وصوّر عوالم البؤس والتّخمة والفساد والإصلاح بعد أن عرّى التّجار والسّماسرة وبرهن أنّ الفقراء مصدر الخير وفاعلوه.
نجوى صليبه
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد