24-10-2017
عندما يقرر أدونيس أن يحدد ثديه الضوئي
عندما ينهمر أدونيس، يقدّم فكراً، شعراً، نثراً، لوحة، يقدم دنيا متكاملة من نور معرفة تستحق أن يقف عندها المتابع سواء اتفق معه أم اختلف، فأدونيس شهاب من معرفة يتدلى مع الضوء المنساب من خيوط معرفة تصوغ شعراته الشائبة، وضحكته الطفولية العذبة، وحسن تأتّيه للقضايا من زوايا كثيرة أقربها إلى ذاته ما يختلف فيها الآخر عنه، أو ما يصارعه الآخر عليها ليكتشف الآخر وادونيس معاً أن نقطة الاختلاف هي بؤرة اللقاء الوحيدة.. أدونيس عندما يتكلم تتحرك الحروف لتصنع عالماً أدونيساً مختلفاً، فكيف بنا عندما يفتح شاعرنا ابن جبلة وقصابين، ابن سورية واللاذقية، ابن أم علي الرحم الذي كان يربطه بأشعة شمس بحر جبلة قبل أن تغادر، كيف بنا عندما يستخرج أدونيس أوردته وشرايينه دفعة واحدة؟ يغمرنا دم المعرفة، وطن الصدق، ومجافاة المجاملة لنغتسل بصوفية تعلمها أدونيس، ولم يستطع الخروج منها في بيروت، أو في باريس، أو في أي محطة في الكون.. (بيروت ثدياً للضوء) ليس كتاباً جامعاً، وليس كتاباً كافياً، ولا يختصر ما لا يختصر، إنه نبيذ أدونيس المختمر في وعاء الفكر المتجدد دوماً.. بالأمس رأى النور ملوناً بنبيذ بيروت وسواد الدمار، وتشظي الإنسان، فماذا قدم لثدي الضوء؟ وماذا تبقى في جوفه من هذا الثدي الذي أعاد له أدونيس اعتباره متجاوزاً ما يفعله التجار وأصحاب المنافع؟
لأجل بيروت
سيرة أدونيس وحياته، وليست سيرته، سيرة جيل، سيرة أدب وشعر، من الغلاف إلى الغلاف سيرة جيل وأدب، ومن الغلاف إلى الغلاف إبداع لا متناه في سحر مدينة هي المدينة المرضعة بضوئها ونورها، لمدينة هي بيروت، التي تسمح لمبدع يعرف أنه من الهائمين، مستعيراً صورة الآية القرآنية أن يهيم في كل صقع، ليشكل هائمها الأكبر، والضال إلا عن الإبداع، ليكون من القلائل الواصلين إلى نقطة مقاربة للجوهر.. سيرة مبدع هائم ومدينة، والمدائن هامش ضوئها الذي رضعه، فكانت: قصائد من أجل بيروت، نحو ضوء بيروت، أمكنة تستضيء ببيروت، شخصيات في أفق بيروت، سياسة بيروت، حوارات في بيروت، استشرافات لعبت المكان كلها لبيروت، وفي بيروت لأدونيس غير البيروتي، ومحمود درويش، الطيب صالح، يوسف الخال، وغيرهم، وكلهم رضعوا من ضوء بيروت فنهلوا منها، وأعطتهم وزودتهم بما يلزمهم في رحلتهم.. القاسم المشترك هو الوفاء للمدينة وما أعطته، والوفاء الأكبر في أن أدونيس قال في بيروت حباً، وقال نقداً، فاستجلب التصفيق، واستثار غضب من أراد أن يرى بيروت مكاناً ومستراحاً، ولم يشأ أن يراها ضوءاً يمد القادم والساكن والمرتحل بمزيد من الضوء والنور، ليملأ عقلاً، ويستمد طريقاً للغد، أدونيس شكر المكان وأخلص له وردّ له الجميل، لكنه لأنه أدونيس جعل بيروت ضوءاً أنار له، وفي كل مرة، وهذه المرة يفصح أدونيس عن دور بيروت في صنع الاكتمال لفكره وشاعريته، ولولا النور ما اكتمل بدر قصابين ليملأ الدنيا ضوءاً، وهو وإن رأى ولادة القمر على شاطئ جبلة، فإن النور يأتيه من بيروت ليدفعه إلى المسير قدماً إلى كل محطة من محطات الكون، ومن ثم يعود لينام في حضن الضوء.
قصابين بداية ومرتكز
أول نقطة ضوء لثدي بيروت الضوئي كانت منها، وأدونيس لم يشأ أن يتقدم إلى محبوبته بيروت خالياً من الضوء، وأذكر كما يذكر كثيرون ما يثار دوماً حول أدونيس، فهو إن عبر عن حبه لسورية عد ذلك خروجاً عن عالميته واقتراباً من النظام، وكلما عبر عن امتنانه لبيروت وما منحته من حرية نهض عدد لينددوا به وبإنكاره لأصله السوري، وكأن أدونيس يطالب في كل جلسة أن يسرد سيرته مع الحرمان، وسيرته مع الضوء وسيرورته، ولكنه يبتسم بطفولة، فلا يجيب هذا، ولا يهاجم ذاك، فهو فكر لا ينكر انتماءه، ولا يقبل أن تشده الحبال من قمة الضوء التي صار مصدراً من مصادرها وإلهامها.. إنه مبدع الجذور، وفي حديثه لـ«الوطن» في 11/9/2010 أصر أن يكون أطول حديث أجري معه في سورية على الأٌقل، في مدينة جبلة، وفي بيته في قصابين محاطاً بأسرة وأصدقاء، فهل يضيره أن يقال عنه مفكر سوري، مفكر لبناني، مفكر عربي، مفكر عالمي، مفكر علماني؟ وحين أراد أن يخرج الضوء الذي منحه ثدي بيروت لم يشأ وهو في هذه السن المتقدمة إلا أن يسرد الحكاية، حكاية ولد قصابين العاشق للعلم، المتمرد على شيخ الكتاب، الولد الذي احترم والده رغبته وألحقه بالتعليم، الولد الذي شق الصفوف بحذاء غلفه الطين ليصل إلى رئيس الجمهورية آنذاك شكري القوتلي ليطلب منه حقه في التعلم، ويمنحه الرئيس ذاك، واليوم وبعد ثمانية عقود أو أقل يتذكر المفكر والشاعر العالمي، ويدوّن ذلك بقلمه، بعذوبة متناهية لا حقد فيها ولا ضعف ولا نقمة، ولغة أدونيس المتصالحة مع ذاتها وذاته تشي بأنه لا يختار الكلمات بقدر ما يجعلها تنساب منه دون حواف تهذب مسيرها، فلنقرأ، الطفل الثمانيني وما يقول: «ولدت في الأول من كانون الثاني سنة 1930 في قرية قصابين من أعمال مدينة جبلة على الساحل السوري.. عانت قرية قصابين- على وضوحها وجمالها- الكثير من ظلم الإقطاع، في ظل الاستعمار الفرنسي، فتراكمت في سمائها وعلى أرضها غيوم الفقر وضبابه، فحجبت أبصار وبصائر الكثير من الناس.. كان بيتنا في قصابين مصنوعاً من الطين، لذلك كان يتشقق موسمياً، وكنا، في كل موسم، نكسوه بطين جديد.. حتى الثانية عشرة من عمري، لم أعرف المدرسة بالمعنى المتعارف عليه.. وحتى هذه السن، لم أشاهد سيارة، ولم أعرف الراديو، ولا الكهرباء، وطبعاً، لم أعرف المدينة.. لا تزال راسخة في ذاكرتي صور من اشياء طفولتي في القرية. أذكر منها السرير الخشبي الهزاز الذي كان بمثابة رحم ثانية.. تمرست بالعمل، فلاحة وزراعة وحصاداً، مرة، أخذ المنجل إصبعي، ولا يزال أثر ذلك الجرح واضحاً حتى اليوم. وكنت أسابق البارعين في شتل التبغ، كان الشاتول كمثل قلم في يدي، والحقل كمثل صفحة بيضاء.. لكن، أين هذه القرية الآن؟ حين أفكر بأني سأعود إليها الآن، أشعر كأنني سأعود إلى نوع من الموت، محمول في ماء اللغة. أشعر كأنني سأصعد على جبل من الريح، وما أتحدث عنه هنا ليس، إذاً، إلا دخاناً لا موقد له.. كأنني أبتكر مكان ولادتي، كما أبتكر قصيدتي؟ والقصيدة لا تكتمل، كذلك المكان الذي ولد فيه الإنسان: إنه هو أيضاً لا يكتمل، هل أفاجئ، أو أصدم أحداً، إن قلت: أتعجب ممن يزعم أنه يعرف نفسه؟ كيف أعرف نفسي؟ فيما تبدو لي كمثل الأثير، أو كمثل خيط في غزل الشمس، أو كمثل الهواء سائحاً في الجهات كلها؟ كما خيل إلي أنني أقترب منها، أكتشف أنني أبتعد. وأعرف أنها ليست سراباً. إنها كمثل ضوء يسلمك، فيما تصل إليه، إلى ضوء آخر يسلمك هو نفسه إلى آخر، إلى ما لا ينتهي، وكل ما كتبته ليس، في ظني، إلا بحثاً عنها، بحثاً، وليس تعبيراً عنها، كنت أترصدها، أستقصيها، أكمن لها، وكانت تفلت دائماً..».
أعتذر من أدونيس، ومن النص الأدونيسي المدهش في الحديث عن الولادة مرات، اضطررت للاجتزاء، وكلام الولادة والمخاض لا يختصر، لكن رغبتي في الانتقال بين دهشة وأخرى دفعتني إلى هذا الاجتزاء ليطلع صديقي القارئ على مكانة قصابين وجبلة في روح أدونيس وفكره، وليعرف كل من صافح أدونيس وعاينه أن الأرض التي عمل فيها أعطته الكثير من حنطتها وخيراتها ومزاياها.. أدونيس الذي تعملق فوق نوبل والجوائز، ووصل آفاق نبوءة الفكر يعود ذلك السارح في بساتين ضيعته، يعمل ويشتل ويحمل المنجل.. ما بين ولادة وموت، ارتحال وتخيل عودة يسأل عن قريته وكيف هي وكيف يمكن أن تكون؟! وسؤاله ليس سؤال البحث عن جواب، فهو لم يغادر جبلة وقصابين، ولم يهجرها، وهو يعود إليها كلما سنحت الفرصة، ولكنه سؤال المعرفة.. أما الذات عنده ومعرفتها فأمر آخر، ولغز محير ليس سراباً، ولا يعرف حقاً ماهيتها، لكنه بحث دائب.. ترى ألم يرافق هذا البحث عن الذات شاعرنا منذ بدأ رحلته في الحياة؟ في حديثه للوطن، وفي كل حديث يركز أدونيس على قضية من الأهمية بمكان، وهي قضية طرح الأسئلة، ويرى أن أمتنا تخلفت لأنها تعنى بالإجابات، وأن العقم في الفكر الديني يتأتى من المرجعيات التي تعطي إجابات، ويرى أن أسباب نهوض الفكر والإنسان لا يكون إلا بطرح الأسئلة، لأن الأسئلة تحفز للبحث، وترتفع بمستوى التفكير، وهذا ما جعل أدونيس مولعاً بحياة الأسئلة، ويسكنه الاستفسار والسؤال
أدونيس والعلم
حين التقيت أدونيس قبل سبعة أعوام، وقضينا جلسة استمرت ست عشرة ساعة متتالية، لم نتوقف فيه عن حديث، روى لي طرفاً من مصادفات تعلمه، وأن الذي أعطاه فرصة التعلم الرئيس شكري القوتلي، لم أكن أعرف القصة، وأدونيس رواها باقتضاب، وعندما سألته عن القصيدة التي قالها في الرئيس وأمامه تجاهل سؤالي، وأشار إلى أنه نسيها أو ضاعت، ولم أحصل على بيت واحد منها!!
سألت المقربين منه، فقال بعضهم: يريد أن يمحوها من الذاكرة! وقال بعضهم: لأنها تنتمي إلى شعر المديح العموديّ وقالوا الكثير، وأحد أصدقائه أرسل لي نص القصيدة، ولكنني احتراماً لرأي أدونيس لم أنشرها، وأشرت إليها فقط، وتركت أمر نشرها للزمن القادم و(في بيروت.. ثدياً للضوء) الذي صدر في دمشق عن دار التكوين يفاجئ أدونيس القراء، ويقدم القصة بتمامها، ويسجل القصيدة بأبياتها كاملة، ويقدم ذلك بشيء من الزهو والفخر، ناسفاً كل الآراء التي كانت تتوقع موقفه من الحادثة والقصيدة، وحين قرأت ذلك في الكتاب عرفت الأسباب التي جعلت هذا الصوفي طارح الأسئلة مثقفاً عالمياً لا يصل إلى مستواه أقوام من المثقفين..! لقد آثر أدونيس أن يحمل أعوامه التي قاربت التسعين ليزرع عرفانه وحكايته وألمه بذاته وبشعراته الشائبة، وبصوته النقي الهادئ على أن يقدمها في لقاء أو استجواب! وثمة فرق بين أن تتحرك الأصابع بالقلم، وأن يجيب أدونيس على سائل مهما كان هذا السائل.. ولنقرأ معاً ما كتبه عن هذه القصة، ولنكن منصفين، ولنعترف بأن أدباء لا يصلون إلى حاشية كتاب عند أدونيس. لا يكتبون بهذا التواضع، وهذه الحميمية، لذلك أظن أن هذا الكتاب في كثير من فواصله روح أدونيس وفكره وتواضعه وحبه: «عندما توفي والدي في حادث سير مروع، جفت في داخلي ينابيع الحياة وماتت قريتي في نفسي، لم تعد تعنيني قصابين بعده.. يولد الإنسان أكثر من مرة، وفي أكثر من مكان. ولادته الأولى من أبويه عمل الطبيعة، لا اختيار فيه، وربما بدوت فعالياً إذا قلت: إنني منذ طفولتي كنت مسكوناً بشعور غامض أن مكان ولادتي الأولى ليس مكاناً لكي أنمو فيه، بل لكي أنطلق منه. شعور يقول لي: لن تجد نفسك إلا في مكان آخر.. لا أعرف كيف خطر لي أن أحلم حلم يقظة، أرسم فيه الطريق إلى دخول المدرسة.
قلت الرئيس الأول للجمهورية الأولى لسورية بعد الاستقلال، سيزور منطقة اللاذقية، ضمن برنامج زيارته للمناطق السورية. سأكتب له قصيدة ألقيها أمامه مرحباً. وسوف تعجبه، وإذاً سوف يطلب أن يراني، وسوف يسألني عما أريد، وسأجيبه: أريد أن أتعلم، وسوف يعمل على تحقيق هذه الإرادة، وهكذا تم حرفياً. أول حلم يتحقق، وكنت آنذاك في الثالثة عشرة من عمري، ومن ذلك اليوم، أحب رقم 13».
يتابع أدونيس استعادة حلم اليقظة، فيتذكر كيف حال عدد من زعماء المنطقة بينه وبين اللقاء بالرئيس، وذلك بسبب خلافات مع أبيه (هو ابنه، إذاً؟ اطردوه.. لا أريد أن يبقى هنا..).
لكن مشيئة الطفل ترسم غير ذلك واترك البيت شبه حافٍ، بالقنباز، وبقية الزي القروي وانطلق تحت غيم كثيف بالأسود يكاد يلامس رؤوس الشجر».
وحين بدأ اللقاء خواتيمه، وكاد الرئيس يلقي خطابه ويمشي، قبل أن يفعل تأتيه النجدة «الخطيب الأول، الثاني الثالث، وآخرون.. وأنا أهملوني إذاً؟ غيروا رأيهم، أكاد أنفجر.. سمعت من يقول لي، غاضباً أهملوك.. إنه القائمقام.. وشتمه، وصرخ بأعلى صوته بينما كان الرئيس يبدأ خطابه: يا فخامة الرئيس، هذا طفل جاء من أعالي الجبال، لكي ينقل إلى فخامتكم مشاعر أهل الجبل وعواطفهم.. نرجوك أن تصغي إليه.
توقف رئيس الجمهورية، وأشار بالقبول، حضنني هذا الشخص، وكان رئيساً لدائرة الأحوال الشخصية في جبلة، وكان اسمها دائرة النفوس، وحملني، ووضعني على المنبر، وعرفت فيما بعد أن اسمه عبد الرزاق المحمود، أحسست كأنني رئيس آخر، وبهذا الإحساس قرأت القصيدة:
سلام على هذا الهلال الذي يبدو
وأهلاً وسهلاً أيها الأسد الورد
حللتم فخلفتم سروراً وبهجة
وذكراً عظيماً دونه المسك والند
حببناك عن بعد وشئنا تقرباً
فكان كما شئنا ولم يحل البعد
فداك نفوس لم ترد حوض ذلةً
ولم تفتكر إلا وتفكيرها المجد
أيا بن الكرام الصيد من آل يعرب
ويا أيها المبرور والعلم الفرد
تجلد وكافح ما استطعت لنعتلي
فأنت لنا سيف ونحن لك الغمد
شبابٌ يخوضون الحروبَ وهولها
نبالي إذا ما ساء أو عَذُبَ الوِردُ
نذودُ عن المحبوب أعداه مثلما
تزودُ لئامَ الوحشِ عن خيسها الأُسدُ
فدى العلمِ السوريِّ ما عزَّ يا منى
البطولة، الأرواحُ والمالُ والجندُ
يدافعُ عن حق البلاد سميدعٌ
من الصِّيدِ ليثٌ ليس يزعجه النَّقدُ
إذا حذفت لامٌ وياءٌ من اسمه
بدت قوةٌ لا يُستطاعُ لها ردُّ
أشكري وإن الشكر باقٍ تصونُهُ
غطارفةٌ عُدٌّ لهم ألسنٌ لُدُّ
فنحن حيالك فتيانٌ كرامٌ أفاضلٌ
إذا عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
فنحنُ لكم زندٌ وإنك ساعدٌ
ومن عجبٍ أن يترك الساعدَ الزندُ
وعندما أنهى الرئيس خطابه، أخذ الناس يتدافعون حولي، فيما كان صوت يناديني، يريد الرئيس أن يراك… صعدت إلى السراي، حضنني الرئيس بحنان قبلت يده
– ماذا يمكن أن نقدم لك؟ ماذا تريد؟
– أريد أن أدخل المدرسة.. أريد أن أتعلم.
– سنفعل ذلك. اطمئن
بعد نحو أسبوعين جاء الدرك يبلغونني:
أنت مطلوب لكي تذهب إلى طرطوس، وتدخل المدرسة..
بهذه الروح العذبة الصادقة يتحدث أدونيس الثمانيني عن النافذة العظيمة التي فتحت له، والتي مهدت له الطريق إلى ندى بيروت الضوئي، وبعد دراسته الجامعية يصف المشهد الشعري لينصف كل أولئك الذين كانوا أسياد الساحة الشعرية… ويتابع متحدثاً عن خروجه من سورية:
«تركت سورية لأسباب سياسية، أولاً. لم تكن تعجبني أفكار النظام آنذاك ولا ممارساته. وكنت مناوئاً فكرياً، لنظريات القومية العربية والوحدة العربية، كما كان يطرحها كتاب هذا النظام ومفكروه. وقد أمضيت قرابة السنة في سجن المزة بدمشق، وفي السجن العسكري بالقنيطرة، دون أن أحاكم. وخرجت، بعد هذه السنة بريئاً! وتركتها ثانياً. لكي ألتقي بيوسف الخال. لأنه كتب لي من نيويورك أنه عائد إلى بيروت، وأن في نيته إصدار مجلة تعنى بالشعر العربي وبالحداثة الشعرية خصوصاً، وأنه سيكون سعيداً بالتعاون معي في إصدار هذه المجلة. وتركتها ثالثاً، شغفاً ببيروت، ورجاء بحياة لا طغيان فيها».
ويتحدث عن تجربة مجلة شعر، وما عانته، والحرب التي طالتها بسبب نهجها… ليختم هذه الرحلة قبل الدخول في النصوص التي خصّ بيروت إلى القول: «آثرت في هذه الكتاب أن أقدّم للقارئ رؤيتي لبيروت، شعراً ونثراً، وعلى امتداد تجربتي الثقافية كلها، لتستبين بيروت بعد تأملي فيها لأكثر من نصف قرن عالماً ذا فضاءات لا نهائية، تخلقها اللغة في صورها المتنوعة».
وفي ثدي الضوء: يبدأ أدونيس حديثه لبيروت عن مجيئه، واصفاً هذا المجيء:
آت بلا زهر ولا حقول
وفي دمي نبع من الغبار
أعيش في عينيّ
أحيا، أسوق العمر في انتظار
سفينة تعانق الوجود
تغوص للقرار
كأنها تحلم أو تحار
كأنها تمضي ولا تعود
بهذا النص استقبل أدونيس بيروت، وجعله فاتحة نصوصه إليها، وحتى نتعرف مكانة بيروت عنده لا بد أن نقف عند نص يعبر عن الضوء الذي أدمنه في بيروت:
«لم تكن الشمس هي هي
لم يكن الأفق هو هو
وكان الموج يخلع هويّاته
ويدخل في تحول آخر
باء بيت شاغر وليس فيه غير الغرف المليئة، هل يغلق الأبواب؟ بؤس، بلاء هل يفتحها؟ بارود، برزخ
ياء يوسف ليلك نهارك بين يدي امرأة… هكذا تنبأ ياقوت السماء
راء رتل رجّة رعب.. يخاف أن يموت حرف الراء من الرجم قبل أن يبلغ سن الرشد
واو وطن وصاية وجع وليمة ورقة ويل وعد وعيد هل يرسم حدوداً بين هذه الحروف؟
لا مكان لأي أحدّ… والشمس ليست واحدة، والهواء ليس حراً.
تاء تبركاً بالقدس الرياض بغداد القاهرة دمشق، لن يمزق ورقة التوت.
كثيرة هي النصوص والأحاديث والحوارات، عديدة هي الشخصيات التي كانت جزءاً من ضوء بيروت، وإن كنت قد آثرت التركيز على المرحلة السورية التي تهم القارئ السوري، فإن جبلة وسورية في كل سطر وفاصلة، ولكن من يعرف أدونيس لا بد أن يختار من هذه السيرة المنطلقة في آفاق الشعر والحرية ما يشكل عاملاً فيها… ومن شخصيات بيروت على ما فيها من حميمية وصدق بدءاً بسعيد عقل، مروراً بالشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب، إلا أنني اخترت من الشخصيات التي أعطاها أدونيس اهتمامه يوسف الخال، وها هو في تباريحه ليوسف الخال يقول وجداناً وعلماً:
في باريس حيث كنت تحارب الداء، وقبل رحيلك الأخير، كنا نحب في جلساتنا أن نتذكر البدايات: بدايات لقائنا في بيروت، في أواخر تشرين الأول 1956 في مطعم نصر الروشة، وبدايات عملنا لإصدار العدد الأول من مجلة «شعر» في المطبعة بمحلة الزيتونة في كانون الأول من السنة نفسه
اليوم، بعد مرور أربعين سنة على صدور العدد الأول، وبعد مرور عشر سنوات على رحيلك، أنظر، أقرأ، أتأمل. مطعم النصر لا يزال وفياً حيث هو. المطبعة التي شهدت ولادة المجلة مع عددها الأول، زالت وأنت لا تزال كما كنت في وفائك لغربتك على الرغم من أنك خلقت أولوفاً لا يفهمك إلا قلة
هكذا ينسى مرة أخرى أنه لا أهمية لشكل القول، أو لكيفيته، إلا في ارتباطه عضوياً بماذا يقول، هكذا على الشعر هو أيضاً السلام في أرض لم يكد يبقى لها، حضارياً إلا الشعر.
مع ذلك، من أجل ذلك، بسبب من ذلك: (عدو عاقل خير من صديق جاهل).
اللهم أكثر أعداء مجلة و«شعر»؟ والبقاء لك، أيها الصديق، أيها الشاعر.
يرهق أدونيس قارئه ويمتعه في (بيروت… ثدياً للضوء) فأنت أمام بحر حياة وفكر وشعر وسياسة، لكنه إرهاق ممتع ومفهوم قياساً إلى شكوى الجمهور من غموضه، أدونيس مرة أخرى مكرماً في دمشق ومكرماً لها حين يصدر كتاب حياته بحلة تعجز عنها دور النشر الكبرى كما أخرجته دار التكوين، وفي ظل ظروف الحرب القاسية على سورية يقدم أدونيس بصورة لائقة، وهو يقدم حياته قرباناً لسورية التي خرج منها مستلهماً ضوء بيروت.
المصدر: الوطن
إضافة تعليق جديد