الأغلبية لا تضمن الاستقرار
هل يقود الانتصار إلى بوابة مُشْرَعةٍ على الاستئثار؟
قد يقول قائل: لِمَ لا، ذلك أنه تحقق بتضحيات الأغلبية، بدمها ودموعها، فبأيّ داعٍ وتحت أي ضغطٍ أو إلحاحٍ ستتخلّى الأغلبية المنتصرة والمضحية عن امتيازاتها؟!
إنَّ هذا الجواب عاطفيٌّ، إذ يدحضه واقعنا السوري ودروسه التي يفترض أن تصبح مُستفادةً، كما تدحضه تجارب أُممِ الأقربين والأبعدين.
صحيح أن من المتعذر تحرير أو تبرئة ما جرى في سورية من وصمة المؤامرة، وقد كان هناك استهداف ممنهج لأوابدنا وذاكرتنا الحضارية والثقافية، للبنى التحتية، للمرافق الخدمية، لوحدة التراب، لغنانا، لتنوعنا، لأمننا، لأفقنا، لدورنا، لحلمنا، لاستقرارنا.. أخشى إن أكملت القائمة أن يستغرقني النواح والتفجُّع ..مفردات لا يمكن أن تشكل روافع لثورة يفترض أن تنقل الناس المعنيين بها إلى مستوى أفضل.
لكن هل كان ممكناً أن تنجب المؤامرة كل هؤلاء المسوخ وأن تثمر كل هذه الغراس المسمومة وأن تورق كل هذا الشر لو انسكبت على أرض صلبة كتيمة؟
ألم يكن لدينا من الشقوق والشروخ ما أفسح في المجال لتسربات نغلت ونخرت ففسّخت وصدّعت!
ألم تعرف سورية قبل الحرب إجماعاً أو شبه إجماع؟ لكنه انسال وتسلل بين الشقوق، إما لخوف، أو ثأر، أو مصلحة، أو ضعة، أو بحث عن دور وامتيازات...
يمكن قانونياً أن يستبعد الغالبون، وأن يقصي الفائزون بالإجماع أو بما يشبهه، تلك القلة الرافضة من على مائدة السلطة، لكن أَيقدرُ هذا الاستبعاد، تحديداً إذا ترافق مع إهمال تعليمي وخدماتي أن يوحِّدَ شعور الأفراد والفئات، على نحوٍ يخلق حالة من التحالف والتعاضد؟! غير أنَّ حالةً من هذا القبيل لن تلبث أن تشكل سرّاً بدائل هرمية صارمة بولاءات ما دون الدولة وعلى حسابها.
كيان جديد، يتمتع بنضارة لم يَشُبْها بعدُ ترهل المؤسسات الهرمة، وبسرية مشوقة لما فيها من صبغة رسولية، ما يعني غواية ارتياد أفق لم يختبر، ستجذب كتلاً ممن شكلوا الإجماع السابق، لاسيما إن كانوا ممن يدينون بالولاء على مبدأ التقية.
غير أنَّ المفارقة، لكن المُتفهَّمة، أننا إن عدنا إلى تاريخ هذه الفئة الرجراجة والحَرِجة، لوجدنا أنها تتألف من أشخاصٍ كانوا يبالغون في إظهار الولاء، إما مداراة للحيرة، أو تمويهاً على الضغينة.
هل تبدو سورية استثناء على مشهد مختلف ومنسجم في بقاع أخرى؟
إنَّ أحداث العنف الدورية في فرنسا (دورية حتى أنها أصبحت تقليداً فولكلوريّاً على هامش احتفالات رأس السنة)، لا ترتكبها فئات وجدت مخارج سلمية وقانونية للتعبير عن حُنقها.
تهديدات موازية في بلجيكا وإيطاليا وبريطانيا..
أوربا كلها رهينة إرهاب فئات صغيرة منبوذة لم يتم استيعابها وإدماجها.
كما أنَّ حال أمريكا لا يختلف كثيراً عن القارة العجوز، مع تفوق للاعتبارات العنصرية والإثنية، إضافة إلى أخرى يمينية عنصرية، والأخيرة تشكل اختباراً جِدِّياً أخطر للديمقراطية الأمريكية، إذ تتميز هذه الأقلية اليمينية المحافظة بقدرتها على العمل وفق تسلسل صارم والتزام شبه عسكري يجذب بعض أصحاب المصالح الواضحة، وجموعاً كبيرة من التائهين ما يحيلها إلى قوة تفتك بالأكثرية..
إشارات اليمين المتطرف في أمريكا باتت متواترة إلى الحدّ الذي دفع المثقفين والفنانين وصناع الرأي إلى التعامل معها على أنها خطر حقيقي يهدد الولايات المتحدة كما نعرفها وكما رسمها الدستور بعد حرب أهلية دامية.
وهنا أسمح لنفسي بأن أفتح قوسين عن (حكاية خادمات المنزل)، وهو عمل تلفزيوني يحقق نجاحا باهراً ليس لأنه الأكثر إتقاناً والأضخم إنتاجاً، بل لأنه يصادي مخاوف تتمطى مع كل صباح جديد، وتتأسس على فرضية أنه ماذا لو التقى الأفراد المنبوذون بسبب هوسهم الديني (الأصولية المسيحية في هذه الحالة) على قاعدة منظمة مسلحة؟
آنذاك، ستستطيع الأقلية المنظمة أن تطيح بالأغلبية، وكذا بهوية الدولة، تحت تهديد السلاح والتعسف والتطرف.
السيناريو الافتراضي أعلاه عشناه واقعياً في سورية، ويمكن أن يتكرر إلى حدّ الابتذال في كل بقاع الأرض، لجهة تمكن اليمين المتطرف الشعبوي من استقطاب كتل رجراجة كبيرة بَرِمَةٍ من حالتها الهيولانيّة، ومتشوقة إلى الانخراط في كيان صلب يضمن تحقيق الطموح والأطماع بأسرع السبل.
ربما كانت هذه العوامل وراء إقرار دول عديدة لنظام النسبية الكفيل بانخراط الأقلية في الحكم، وبالتالي تحملهم المسؤولية بالتضامن والتكافل، بدل إقصائهم، وما يليه من استحقاقات، بدءاً من التذمر وصولاً إلى الانفجار.
بالعودة إلى سورية، كانت المؤشرات تدل على رضى والتزام يكادان يقتربان من إجماع يشبه تياراً متدفقاً لم يلتفت بسبب غزارته وسرعته إلى رواسب تركها على جانبيه، يميناً ويساراً.. اليسار واليمين، ضفتان نقيضتان، لكنهما تحالفتا كحجري رحى طحنا الأخضر واليابس -كما يقال- بحثاً عن دور.
بعد الحرب سيكون هناك بالضرورة عدد أكبر من المتضررين عما كان عليه العدد قبل اندلاعها، وهؤلاء قد يختارون في الصدع القادم الانضواء تحت راية الإجماع، أملاً في الخلاص من جحيم جربوه واكتشفوا أنه لا يرتوي ولا يشبع، لكن جرح الثأر قد ينفتح إن لم تسكته المصلحة المتجددة بفعل مُجٍد اقتصاديّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً، وهذا خطر قائم، لأنَّ المتكئين على وسادة الإجماع سيلتحفون هذه المرة بغطاء التضحيات.
لا بد أن يتحول تلافي تجاهل المتضررين والمهمشين إلى أحد الدروس المستفادة من الحرب السورية، وإلا فما بدا أنه كارثي التأثير طوال سبع سنوات، قد يبدو لاحقاً تمريناً لحالة طوارئ افتراضية، لن تجدي أمام فيضان جارف قد يذهب بالمدينة بعد أن أتى على المدنية في إدارة الصراع.
ديانا جبور: مداد
إضافة تعليق جديد