حرب الطاقة: خرائط هلسنكي
وضعت الحرب العالمية الثالثة أوزارها.. فالتوافق على الأسواق الكبرى مع الولايات المتحدة الأمريكية، وفق ما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قمة هلسنكي، التي جمعته والرئيس الأمريكي منتصف الشهر الجاري؛ أوحى بأن حرب الطاقة هذه التي انطلقت شرارتها نهاية العقد الأول من القرن الحالي جنحت إلى التهدئة، وما على الجرحى إلا لعق جراحهم بما تبقى لهم من طرائق متاحة.
تقاسم «الأسواق الكبرى» وولادة ما يشبه «أمماً متحدة نفطية» تحاكي سالفتها السياسية إبان الحرب العالمية الثانية، ملخصه أن على المنتجين «وفي مقدمهم إيران وفنزويلا» تخيل العالم وفق قواه الواقعية: روسيا والولايات المتحدة قوى عظمى طاقوية أيضا.
وفق الترجمة العملية لمؤتمر هلسنكي، فما سبق يعني الشروع في تقاسم حصص مدروسة للصادرات النفطية والغازية الروسية الأمريكية نحو أسواق شرق آسيا وأوروبا الأكثر استهلاكا، وإذا نجحت الدولتان في ذلك، فسيفضي الأمر إلى تبدل في مسارات النفط والغاز حول العالم، ليجرّ ذلك خلفه تبدلات في خرائط الأهمية الاقتصادية والجغرافية التقليدية للمنتجين والمصدرين وقناطر عبور الطاقة.
لكن في الواقع، لم تُطْفأ ميكروفونات مؤتمر بوتين ترامب في هلسنكي، حتى استأنفت مدفعية المتضررين جولة جديدة من القصف السياسي والقانوني: أوروبا الغربية «المتضررة» لم تلبث أن عطلت في اليوم التالي للقمة، تفاهما يبدو أنه تم الاتفاق عليه بين رئيسي الدولتين العظميين بشأن قرار محكمة استوكهولم الذي قضى بتغريم غاز بروم الروسية 2.6 مليار دولار لشركة «نفطو غاز» الأوكرانية لـ«تضرر» الأخيرة من خفض إمدادات الغاز إليها وعبرها نحو جنوب أوروبا إبان انقلاب شباط 2014.
أما على الضفة الأخرى للأطلسي، حيث الدولة الأمريكية العميقة كما سماها بوتين في كلمته خلال المؤتمر، فذهب المتضررون من التفاهم البوتيني الترامبي إلى اجتراح ما يعكره عبر تقديم مشروع قانون إلى الكونغرس يتضمن فرض عقوبات على مشروع أنابيب غاز «السيل الشمالي 2» المتجه نحو ألمانيا عبر بحر البلطيق، وذلك بعدما أبدى ترامب تفهمه له بدلا من مناهضته قبل أسابيع.
أوحى تفاهم روسيا مع ترامب كممثل لأحد أجنحة الغرب المتوزع على ضفتي الأطلسي كمفصل في نهاية الحرب المندلعة على تخوم آبار النفط والغاز ومسارات توريدها، إلا أن ذلك يبدو كأمنيات بعيدة المنال،على الرغم من شح المعروض الذي عززته هزليات التصدير عبر الموانئ الليبية بذرائع مختلفة بعضها طريف بالفعل، وانعكاسها تراجعا لصادرات الدولة الإفريقية العضو في أوبك إلى أسواق إيطاليا «مثلاً» بنحو 70 بالمئة خلال الشهرين الأخيرين في مقابل تصاعد صادرات واشنطن إليها بنحو الضعفين خلال المدة ذاتها، وعلى الرغم من الحصار المطبق على إيران والتهديدات الحاسمة لكل من يستورد نفطها شرقا وغربا، ومع هذا وذاك استمرار الحرب الاقتصادية ونزوعها نحو أشكال عسكرية على فنزويلا.
فكل ذلك لا يكفي، إذ ثمة رأي للمستهلكين الكبار أيضا..
الصين، أكبر مستوردي العالم، بدأت خطوات احترازية لتقليص منعكسات التوافق الروسي الأمريكي على الأسواق، فذهبت إلى استثمارات ضخمة في الخليج العربي ووسط إفريقيا، إلى جانب إعلانها المتكرر نيتها الاستمرار بتوريد الشحنات من إيران بالتزامن مع وصول طلائع شحنات الغاز من حقول «يامال سيبيريا» عبر الناقلات الريادية الكاسحة للجليد، بينما أوروبا الغربية وتحديدا قطبها البريطاني لا تزال تضغط بيأس على مسارات السيل الشمالي والتفاهمات الروسية الأمريكية بهذا الشأن، عبر حلفائه في شرق أوروبا.
المنتجون الأمريكيون الباحثون بلهفة عن الأسواق، يتطلعون إلى تبريد الحرب الطاقوية على جبهات محددة بالتزامن مع تفجير أخرى كشرط لاستمرار أعمالهم، وهو ما يتهدد كارتيلات داخلية منافسة تنتمي إلى أجنحة صناعية أخرى، وهم لا يعدمون الوسيلة كما يبدو لإدامة الحرب، ولو عبر اصطناع جبهات جديدة.
علي محمود هاشم – الوطن
إضافة تعليق جديد