جان بول سارتر و سيمون دوبوفوار
وجهاً لوجه مع الحياة بوصفها نزهة وجودية!ذهبا إلى المطاعم الرخيصة، تناولا القريدس المشوي والزيتون الأسود وآيس كريم الدراق؛ جلسا في المقاهي حيث تحدث العمال بنشاط عن ثورة 1968 الوشيكة.
هكذا حافظ كل من سارتر ودوبوفوار على تلك الحرية الفردية المطلقة في عيش الحياة كنزهة زمنية تشاركاها في ظمئهما للمطلق؛ فبعد نهاية الحرب العالمية الثانية تبوأ كل منهما مكانة عالية كزوجين من أزواج العالم الأسطوريين، وكمفكرين حرين ومثقفين ملتزمين كتبا في جميع الأنواع الأدبية، من مسرح ورواية ودراسات فلسفية وقصص رحلات وسيرة ذاتية ومذكرات وتراجم وصحافة، لتشكّل رواية سارتر الأولى «الغثيان» حدثا في عام الرواية الفرنسية المعاصرة، ولتغدو مسرحياته العشر حديث الموسم المسرحي في باريس، فيما لمعت دوبوفوار بمؤلفها الشهير «الجنس الآخر» ككاتبة استحضرت بمذكراتها وبروايتها «المندرين» أوروبا بعد الحرب،
فإلى جانب دراسات سارتر الفلسفية سجلت رفيقته مجلداتها الأربعة في أجمل كتاب مذكرات حول رحلتها إلى الصين «المسيرة الطويلة»، وكتاباً عن موت أمها «موت سهل جداً»، وآخر عن سنوات سارتر الأخيرة سيحمل اسم «الوداع» كعنوان مؤثر عن علاقتها بصاحب «الوجود والعدم».مثلما كان صاحب «نقد الفكر الديالكتيكي» الشخصية الجوهرية في كتابتها، كانت دوبوفوار كاتبة سيرته وسيرة صديقاته، ففي كتابتها عن حياتها كتبت عنه أيضاً وقد شجعها سارتر على ذلك، بوصفهما وجوديين؛ أما أن شخصيتهما ليستا أكثر أو أقل من مجموع أفعالهما، فلم يتوقفا في علاقتهما عن العيش ككاتبين عالجا مسائل علم الأخلاق ومذاهبه، فمنذ البداية كانا منشغلين بالحرية الفردية، ينتقدان فيما بعد وبشدة، تلك الفترة المبكرة الطويلة من عمرهما التي نظرا إليها كفترة الشباب غير المسؤولة.
لقد جعلتهما الحرب مدركين للتاريخ بشكل أفضل؛ ليؤسسا معاً عام 1945 مجلة «الأزمنة الحديثة» التي كان لها أثر كبير في فرنسا وأوروبا وحتى في بلدان العالم الثالث، فسارتر المدافع المتحمس عن السلام في العالم عن الاشتراكية تمسك بالشيوعية كمسألة شغلت مثقفي الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت، ليقف مع صديقة عمره بكل شجاعة ضد الحرب الجزائرية والحرب الفيتنامية جنباً إلى جنب مع أطروحة دوبوفوار الأدبية كنص مؤسس لثورة النساء الحديثة.
نتعرف أكثر على حياة رجل وامرأة «كتاب: وجهاً لوجه- صادر حديثاً عن الهيئة السورية للكتاب» نجحا في تحويل الحياة إلى سرد، تلك المتعة الحسية الشهوانية كمهووسين بما يدعوه سارتر«وهم السيرة» مجسدين فكرتهما القائلة: «إن الحياة المعيشة يمكن أن تماثل الحياة المسرودة، فلا أسرار، لكون الاحتفاظ بالأسرار كان بنظرهما أثراً من آثار نفاق البرجوازية».ثمة الكثير مما يثير فضول القارئ نحو حياة هذا الثنائي النجم الذي برع في تحويل الشخصي الدفين إلى إرث إنساني عمومي، فقد كان سارتر يؤمن بشدة أن المرء يمكنه بقوة الإرادة أن يتجاوز كل العواطف والإزعاجات، وبالنسبة إليه، فإن الدموع والحالة العصبية السيئة هي ضعف. حتى دوار البحر كان ضعفاً: «نحن كائنات حرة ويمكننا أن نختار» فلم يولِ صاحب مسرحية «الذباب» أهمية للوظائف الفيزيولوجية ولا لتكيف الفيزيولوجي، في حين مضت دوبوفوار- المعرضة لدوار البحر وذرف الدموع- مع وجودية سارتر المتطرفة نحو اعتبار «الجحيم هو الآخر».
لقد كانا وقت ذاك في شرخ الشباب، وفي صحة جيدة، مع وفرة من الوقت والمال الكافيين لفعل ما يريدانه في حياتيهما كفيلسوفين يقيّمان العالم من خلال نظرة موضوعية.أنفقت دوبوفوار عمراً وهي تلاحظ كم كان سهلاً على النساء أن يحشرن سارتر في زاوية «ضميره المذنب» فمع أنه كان يكره مشاهد الغيرة تجاه رجال يترصدن دوبوفوار، إلا أن «نساءه» كنَّ يسكنَّ على بعد عشر دقائق من بيته. كان نادراً أن تجتمع الواحدة مع الأخرى، لهذا لم تعرف أي واحدة منهن الحقيقة حول حياته، فحين كان يمضي الوقت مع أخريات كان يحتج دائماً لغيرهن بقوله: «ألم أقل لكِ منذ البداية أنه ينبغي عليّ أن أمضي وقتاً مع سيمون؟»...
مفارقات كانت دائماً تضع الرفيقين وجهاً لوجه مع فكرتهما الأولى عن الكتابة بوصفها «شفافية لانهائية نحو الذات» سواء في لحظات خلودهما إلى الكتابة، أو حتى في أسفارهما الكثيرة التي تعرفا فيها إلى جمهورهما عبر العالم، ففي عام 1965 بعد ترجمة كتاب «الجنس الآخر» إلى اليابانية، ذهبا إلى طوكيو، متنقلين من مكان إلى آخر، ليلقيا العديد من المحاضرات، متحدثين فيها لحشود من الصحفيين والمثقفين اليسارين، معبّرين عن احتجاجهما على الحرب الفيتنامية، حيث قامت دوبوفوار كعادتها بالبحث عن كتب حول اليابان، بينما فضّل سارتر في محاولته لفهم الثقافة اليابانية، التعرف على عشيقة جديدة، لتغدو «توميكو أسابوكي، المرأة الضئيلة والمجاملة والشغوفة، حبيبة ومترجمة شخصية لسارتر، وتعلق دوبوفوار على هذه العلاقة بقولها: «في كل رحلة قمت بها أو ستقوم بها يكون هناك امرأة تتحول لأجلك لتصبح جسداً للبلد».
سيكون عام 1970 عاماً حاسماً بالنسبة لحركة نسوية رفعت دوبوفوار رايتها، حيث كان الإجهاض لا يزال غير قانوني في فرنسا الكاثوليكية، لكن وباجتماع مجموعة من النساء الناشطات المعروفات تم إصدار بيان الـ343 الشهير في 5 نيسان 1971 نشرته صحيفة «نوفيل أوبسرفاتور» طالبن الموقعات عليه باستخدام وسائل منع الحمل الشرعية وجعل الإجهاض قانونياً، ما أثار وقتها فضيحة كبرى، فلأول مرة تُذكر كلمة إجهاض في الراديو والتلفزيون الفرنسيين، ولينعت المحافظون صاحبات البيان بالبغايا، إلا أن ذلك كان خطوة نحو جعل الإجهاض قانونياً في بلاد بلزاك عام 1975.جهدٌ أبلته الكاتبة بالتوازي مع كتب سوف تثير شكيمة النقاد، ففي مؤلفها «قدوم الشيخوخة» 1967، درست دوبوفوار خريف العمر البشري من الناحية البيولوجية والتاريخية، محققةً عشرات الزيارات لدور المسنين، مسجلة مذكراتهم حول شيخوختهم. ففي حين أجمع النقاد على أن كتاب دو بوفوار غني وواضح وأشبه برواية، أشاروا إلى أنها اصطدمت ثانية بالمحظور الاجتماعي، لكن الكتاب في الوقت ذاته وبعد ترجمته إلى الانكليزية عام 1972 انتقد نقداً لاذعاً في صحيفة «لوس أنجلوس تايم»، فقد كتب نيلسون ألغرين يقول: «لقد أخذت دو بوفوار دور عالمة اجتماع عن غير قصد في كتابها (أمريكا يوماً بعد يوم) وأعجب فعلاً من الذي يقوم بتلقينها. أرجو ألا يكون سارتر»!.في هذا الوقت أنهى سارتر بعد عشر سنوات من العمل مؤلفه الضخم عن فلوبير تحت عنوان «أبله العائلة» تناول فيه فلوبير في الستة وثلاثين عاماً الأولى من حياته، وليحقق عبر أربعة مجلدات شرح عن حياة هذا الكاتب؛ ولاسيما رواية فلوبير الشهيرة «مدام بوفاري».
كتاب سيغمر سارتر بسعادة بالغة بعد وصول أول نسخة إلى يده عن دار غاليمار، سيقابل ذلك شعور خانق بالقلق واليأس كانت دوبوفوار تتعرض له طوال حياتها رغم أكداس الكتب التي كانت تكتبها عن سارتر المنشغل بوجوديته وبنساء أخريات، لتكتشف أن خوفها من الوحدة وفقدان الحب كان أقل بكثير مما وصفته بـأسوأ كابوس، ألا وهو: موت سارتر.
فلقد أساء هذا الأخير بتهور لجسده، متسبباً خسائر فادحة، ليصل إلى حالة من العمى والهذيان وارتفاع السكر في الدم بسبب إفراطه بتدخين وشرب الكحول، إلا أن دوبوفوار لم تتخل عنه حتى اللحظة الأخيرة من حياته، والتي حاول فيها مواجهة البنيوية كموضة فكرية جديدة حمل رايتها كل من دولوز وفوكو، ففي عام 1974 وقّع سارتر عقداً مع التلفزيون الوطني لكتابة عشرة برامج حول صلته بالتاريخ الفرنسي في القرن العشرين وذلك بالتعاون مع بيير فيكتور. ليتعرف سارتر فيما بعد على فرانسواز ساغان؛ الروائية الفرنسية التي أحبته كاتباً وإنساناً دافع عن الضعفاء والمظلومين، ليلتقي بصاحبة «صباح الخير أيها الحزن» مصطحباً إياها إلى المطاعم الفخمة ولتصبح بمثابة المرأة الثانية في حياته، حتى إنه كان يدعوها بـ«الشيطانة ليلي».
كان يقول لها: «هل تعلمين يا طفلتي أن لديَّ تسع نساء في حياتي ماعدا دو بوفوار؟»كانت السنوات الخمس الأخيرة من حياة سارتر شاقة وعسيرة بالنسبة لبوفوار، فلم تكن تتحمل رؤيته كرجل أعمى يفرط في الشراب والنساء والسجائر، إلى أن حانت تلك اللحظة التي شهدتها في 13 نيسان 1980 في غرفة العناية المشددة واقفة أمام سريره وسارتر يمسك بمعصمها وعيناه مغلقتان: «أحبك كثيراً عزيزتي بوفوار» لتودعه مرة وإلى الأبد، نائمةً إلى جانبه في سريره الأخير رغم تحذيرات الأطباء من خطر انتقال الغرغرينا التي أصابت ساقيه إليها. أحداث سوف تدونها بوفوار في كتاب لن يقرأه حمل عنواناً مؤثراً: «وداع سارتر».بنت بوفوار هذا الكتاب على مذكراتها في السنوات العشر الأخيرة، واصفةً وداعها المطوّل للرجل الذي أحبته، ولم تغالِ في العاطفة، فلقد صورت تدهور سارتر الجسدي إلا أن إصدارها للكتاب أثار ضجة نقدية عارمة، ففي عام 1981 نشرت صحيفة ليبيراسيون رسالة مفتوحة من إحدى عشيقات سارتر إلى سيمون دوبوفوار جاء فيها: «كان سارتر ميتاً تماماً بنظركِ حينئذٍ، ويبدو أنك انتهزت الفرصة بقسوة وتصميم، ووطئت على وجوه الناس الذين أحبهم بهدف نزع مصداقية المقابلات التي كانت تجري بينك وبين «بيني ليفي» في الشقة التي مات فيها سارتر، مع أنه كان يقظاً تماماً، فعلياً لم يعد يرى شيئاً قد كانت صحته متدهورة، لكنه كان يسمع ويفكر. لقد عاملتِه كإنسان ميت».
لم ترد دو بوفوار وقتها على هذه الرسالة المفتوحة، إلا أنها وبعد سنتين قامت بنشر رسائل سارتر التي كتبها لها على مدى سنوات، قائلة لأصدقائها: «إن كل من يقرأ رسائله لي سيعرف ماذا عنيتُ له».الحقيقة لقد أخفت دو بوفوار الكثير من أسماء الأشخاص في نص الرسائل التي نشرتها لكن حرصها الشديد على قول الحقيقة جعلها تودع الرسائل الأصلية في المكتبة الوطنية الفرنسية. حتى قام الناشر روبيرت غاليمار بنشر «الرسائل» عام 1990 بعد أربع سنوات على موتها، ليترك هذا الكتاب صدمةً هائلةً عند القراء حول «الشفافية السارترية» لكنه في الوقت ذاته أوضح ذلك البعد الشهواني المدمر بين رجل وامرأة يخبران بعضهما بعضاً أدق تفاصيل حياتهما الحميمية على الورق، فهنا كان سارتر رجلاً ضئيل الجسم وقبيحاً، يملك بعض الملابس وغليون وقلم حبر ويبدو أنه لم يكن يهتم بشيء سوى التفكير والكتابة والحب، وهنا كانت دو بوفوار التي عاشت حياتها بحرية تتمتع بذكاء لامع وبشغف لا ينضب للحياة، إلى أن توفيت في 14 نيسان 1986 بسبب استسقاء رئوي. وليصاحب جثمانها نحو خمسة آلاف شخص ويدفن رمادها في قبر إلى جانب قبر سارتر.نهاية يمكن تلخيصها في جملة كتبها بابلو نيرودا نقتطفها هنا من كتابه «مئة سوناتة حب لماتيلدا» والتي يقول فيها الشاعر التشيلي: «جسدان مقهوران بعسل واحد» ربما يلتقي مع نص رسالة كتبها سارتر إلى بوفوار: «ثمة شيء واحد لم يتغير ولا يمكن أن يتغير، وهو أنه مهما حدث ومهما أصبحتُ، سأصبحهُ معكِ».
سامر محمد إسماعيل
إضافة تعليق جديد