الليبرالية كمذهب فكري
يتبدى مفهوم الليبرالية، سواء في طرحه الفلسفي أو السياسي أو الاقتصادي مفهوما زئبقيا ينفلت من التحديد والتعريف، مفهوما مخاتلا غارقا في الالتباس.
والواقع أن إشكال التعريف ليس خاصا بمفهوم الليبرالية تحديدا، بل هو المشكل الدلالي المزمن الذي تعاني منه جميع المفاهيم السياسية, وذلك راجع إلى أنها ليست مجرد دوال لفظية حتى يمكن الاكتفاء فيها بالمقاربة المعجمية، بل هي أفكار مجسدة في الواقع وموصولة بالتاريخ وما يعتمل فيه من تدافع وصراع، وما يختزنه من اختلاف وائتلاف.
والتحليل التداولي لهذا النوع من المفاهيم يكشف أنه من السذاجة الحديث عن إمكان إنجاز تحديدات موضوعية، هذا فضلا عن أن مفهوم الموضوعية ذاته يبقى نسبيا جدا في حقل العلوم الإنسانية.
ومن ثم فالخطاب المثقل بنغم الشعارات، الذي أخذ صيته يتعالى في الفكر العربي المعاصر حول الليبرالية، والذي يتحدث عنها وكأنها نمط محدد الدلالة والملامح، وعلى نحو من اليقين والقطع والجزم، يخفي أو يجهل إشكالات الدلالة والرؤية في الفلسفة والمذهب الليبرالي.
كما أن الحديث عن الليبرالية بوصفها نمطا جاهزا في إدارة الشأن السياسي والاقتصادي يتجاهل أنها ليبراليات عديدة وليست واحدة، وأن تناولها على ذلك النحو من التعميم، سواء رفضا أو قبولا، هو تناول يسقط في مزلق التعميم، فضلا عن الخلط والالتباس.
وتأسيسا على ما سبق تغدو معاودة التفكير في النظرية الليبرالية ومعاينة دلالاتها وتعدد أنماطها مقدمة ضرورية لبلورة حوار معرفي جاد.
ومن الملاحظ في لحظتنا هذه أن الجدل لم يقتصر على واقعنا العربي، بل يسود أقطارا ووقائع مجتمعية أخرى، فالكل يتحدث اليوم عن الليبرالية، وقد تصاعد الجدل واشتد في مختلف المنتديات السياسية والفكرية، وانفصل الأطراف المتجادلون إلى مواقف حدية جد متطرفة في تقويم النموذج الاقتصادي والسياسي الليبرالي، وتحديد الموقف منه.
وإذا رجعنا إلى النصوص التي أرجعت الفكرة الليبرالية وفلسفتها إلى واجهة النقاش السياسي المعاصر، سنلاحظ أن هذه النصوص ترجع إلى لحظة بداية التسعينيات من القرن العشرين، وهي اللحظة التي تُزَامِن انهيار المعسكر الشرقي، الذي سيشكل سقوطه مناسبة لإعلان الأيديولوجية الليبرالية بوصفها النموذج الفكري والسياسي الأقدر على تنظيم الاجتماع، وإدارة مشكلاته السياسية والاقتصادية.
بل لم يعد الحديث عنها بوصفها نظاما مجتمعيا من بين أنظمة أخرى منافسة، بل أصبحت تُقدم بوصفها النظام الواحد والوحيد!! فالمفكر الأميركي فوكوياما مثلا سيسعى، مرتكزا على رؤية هيجيلية للتاريخ، إلى القول بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأفضل ما كان وما سيكون في نظره هو الأيديولوجية الليبرالية التي تؤشر على نهاية التاريخ.
بمعنى أن صيرورة تطور البشرية آخذة حتما في نقل أنظمتها المجتمعية نحو الانتظام بالنظام الليبرالي. وقبل فوكوياما كان المفكر الإيطالي جيدو دو روغييرو قد بلور تقريبا ذات الموقف من الليبرالية في بداية القرن العشرين في كتابه "تاريخ الليبرالية الأوروبية" (1925).
في مقابل هذا الاحتفاء والتبجيل اللذين حظيت بهما النظرية والفلسفة الليبرالية عند البعض، ثمة أيضا توجه مناهض لها على أساس أنها مجرد قناع لإخفاء تغول الرأسمال وتفتيت أنساق القيم، وتدمير المقومات الأخلاقية للحياة.
بل إنها حسب نقادها غير قادرة على تحقيق حتى شعاراتها الاقتصادية الأساسية، فالرفاه الذي يعد به المشروع الليبرالي يتحول واقعيا إلى مجرد وهم جميل، وذلك بفعل تضاد المقاصد المثالية لليبرالية مع الواقع المحكوم بجشع الرأسمال، حيث يستحيل المجتمع المنتظم وفق النسق القيمي لليبرالية، القائم على الحرية والفردانية، إلى واقع تصارعي متوحش لا يحتكم لأي قيمة إنسانية، بل يسوده قانون الغاب.
بين هذا الاحتفاء والتبجيل وذاك النقد والتحذير لابد أن يبرز السؤال: ما هي دلالة المشروع الليبرالي؟
يرجع لفظ الليبرالية من حيث الاشتقاق اللغوي إلى اللفظ اللاتيني "ليبراليس" الذي يعني "الشخص الكريم، النبيل، الحر". ومن بين هذه الدلالات الاشتقاقية التي يحملها اللفظ نجد أن المعنى الأخير (أي "الشخص الحر") هو المعنى الذي سيكون مرتكز البناء الدلالي للمفهوم لاحقا.
حيث نلاحظ أنه حتى نهاية القرن الثامن عشر لم يكن لفظ الليبرالية متداولا، بل كانت الكلمة الشائعة هي "ليبرال" (libéral) التي قصد بها وقتئذ "الشخص المتحرر فكريا".
لكن في نهاية القرن التاسع عشر نجد أن لفظ الليبرالية سيظهر كدال على رؤية مذهبية لها أساسها الفكري ونظريتها السياسية والاقتصادية.
لكن هذه الصيرورة التي لحقت لفظ ليبرالية منذ أصله الاشتقاقي اللاتيني وإلى استوائه في القرن التاسع عشر كلفظ دال على مذهب فكري واقتصادي وسياسي، لا يعني أن المحتوى الدلالي للفظ لم تتم صياغته إلا في القرن التاسع عشر، بل إن الرؤية المذهبية الليبرالية، حسب المنافحين عنها، ترجع إلى لحظات تاريخية سابقة، حيث تبلورت بفضل أعمال جون لوك، وديفد هيوم، وروسو، وليسنغ، وكانت، وآدم سميث.
ففي أعمال هؤلاء المنتمية معرفيا إلى حقل الفلسفة والاقتصاد السياسي توجد المرتكزات النظرية التي سيستند عليها المذهب الليبرالي لاحقا.
فما هي الدلالة المذهبية لليبرالية؟ إن رسم أي دلالة كلية للليبرالية يجب أن يضع في الاعتبار وجود اختلافات معرفية ونظرية تصل أحيانا إلى درجة التناقض بين منظريها.
ومن ثم فإن أي تسطير لدلالة كلية جامعة هو مجرد اختزال، ولا ينبغي أن يصبح الشجرة التي تخفي الغابة، فنسقط في مأزق الأحادية ونغفل عن تعددية الرؤى واختلافها حتى تجاه المفاهيم المشتركة التي تشكل أساس المذهب.
فلابد أن نعي أن الليبرالية من حيث وجودها النظري والفلسفي تشهد تباينات تصل أحيانا إلى درجة الاختلاف الشديد بين الرؤى. فالفكر الليبرالي عند جون لوك مثلا يتمايز عن ليبرالية ماديسون، وليبرالية فريدريك هايك تختلف عن ليبرالية توكوفيل، والليبرالية بمنظورها التحرري الإطلاقي مع فريدمان أو بوشانان أو نوزيك تختلف عن الليبرالية بمنظورها الكينزي.
أما على المستوى الواقعي فإن الأمر أكثر إشكالا وتعقيدا, فالليبرالية أنماط واجتهادات مختلفة، والبحث في سياقاتها المجتمعية ينبغي أن يتزود برؤى وأدوات منهجية أعمق من مجرد القراءات العجلى التي تمتلئ بها الساحة الثقافية المثقلة بنتاج العقل الشعاراتي.
فليس كل حزب ليبرالي من حيث التسمية والعنوان يصلح للدلالة على الليبرالية، كما أن عدم اعتماد الاسم لا يعني عدم وجود الليبرالية. ودليلنا على ذلك أن الواقع السياسي الأميركي مثلا، الذي يشكل أحد الوقائع المجتمعية الأكثر استحضارا للدلالة على النموذج الليبرالي، لا نجد فيه ولو حزبا واحدا يتسمى باسم الليبرالية!
كل هذا يؤكد أن القراءة الميدانية للتجارب السياسية، والقراءة النظرية للفكر الليبرالي لابد أن تحترسا من مزلق الاختزال، وعند كل صياغة تعميمية لابد من الوعي بنسبية التعميم بسبب تعددية وتباين الظاهرة الليبرالية، سواء على مستواها النظري أو الواقعي.
وبعد تسجيلنا لهذا الاحتراس يمكن أن نقول في سياق التعريف الأولي: إن الليبرالية هي فلسفة/فلسفات اقتصادية وسياسية ترتكز على أولوية الفرد، بوصفه كائنا حرا.
فمقولة الحرية هي المقولة المركزية التي يستند عليها كل البناء المذهبي لليبرالية، وانطلاقا من هذه المقولة يتم تحديد طبيعة رؤيتها لمختلف مجالات الكينونة الإنسانية:
فالليبرالية من الناحية الفكرية تعني "حرية" الاعتقاد والتفكير والتعبير، ومن الناحية الاقتصادية تعني "حرية" الملكية الشخصية، و"حرية" الفعل الاقتصادي المنتظم وفق قانون السوق. وعلى المستوى السياسي تعني "حرية" التجمع وتأسيس الأحزاب، واختيار السلطة.. وهكذا نلاحظ أن مقولة الحرية لا تشكل فقط مبدأ من جملة مبادئ، بل هي مرتكز لغيرها من المبادئ. هذا مع ضرورة الوعي بأن لفظ الحرية ذاته ليس لفظا محدد الدلالة ولا محدود الأبعاد.
لكن على الرغم من ذلك، وحتى في حالة اعتمادنا على التحديدات السابقة، فإنها رغم صوابها معجميا تبقى مجرد دلالة نظرية للمفهوم. في حين أن الليبرالية ليست مجرد لفظ نظري يعيش بين دفتي القاموس، بل هو لفظ يدل على أنظمة مجتمعية متعددة، ويحيل على سياقات تاريخية لابد من استحضارها لفهم المشروع الليبرالي.
وما يؤكد في تقديري صواب هذا المسلك المنهجي التاريخي في المقاربة، وأولويته على المقاربة المعجمية هو أن الليبرالية (liberalism) ظهرت أولا كمعطى تاريخي قبل أن تتشكل كلفظ اصطلاحي.
بمعنى أنها من حيث وجودها كلفظ لم تظهر إلا لاحقا لوجودها كواقع. إذ إنها كوجود معرفي ومجتمعي أخذت في التبلور داخل سياق التاريخ الأوروبي على الأقل قبل ثلاثة قرون من ظهورها كلفظ اصطلاحي.
ودليلنا على ذلك أن كلمة ليبرالية ستظهر في اللسان الإنجليزي سنة 1819م. أما في اللغة الفرنسية فغالب الظن أن مان دو بيران كان أول من استعملها وذلك سنة 1818م، حيث حددها بوصفها "المذهب المدافع عن الحريات".
في حين قبل ظهورها كلفظ، كانت صيرورة الحداثة الأوروبية منذ النزعة الإنسانية وحركة الإصلاح الديني، ثم التأسيس الفلسفي للحداثة مع الديكارتية، قد بلورت وقائع نظرية ومجتمعية يصدق على جوانب منها وصف الليبرالية.
كما أن أول حزب ليبرالي سيظهر وينتظم في الواقع الأوروبي كان قبيل ظهور لفظ الليبرالية، أقصد حزب "الكورتيس" الإسباني الذي ظهر سنة 1812م.
كل هذا يؤكد أن الانحصار في بحث الدلالة المعجمية للفظ لن يفيد في فهم المشروع الليبرالي في تجسيده التاريخي، فضلا عن أن إبستمولوجيا البناء المعرفي للمعاجم تنهض بطبيعتها على الاختزال والتبسيط والتنميط، واستبعاد ثراء الاختلاف والتعدد والتنوع.
نخلص مما سبق إلى أن الليبرالية ليست باللفظ الذي يجب أن يقتصر في تحديد دلالته على سياقه اللغوي المعجمي، بل لابد من بحث سياقه تنزيله تاريخيا كأنظمة وأنماط مجتمعية.
ومن ثم يغدو سؤال تاريخية مفهوم الليبرالية وصيرورتها الواقعية مقدمة ضرورية لتأسيس نقاش معرفي جاد قادر على بحث المشروع الليبرالي واستحضاره في تنوعه وتعدده، لا الاقتصار على المسلك السهل مسلك التنميط والأحادية المغرقة في الفكر الشعاراتي المثقل بكل شيء إلا المعرفة.
الطيب بوعزة
الجزيرة
إضافة تعليق جديد