الخلطة التركية في إدلب: تدجين التطرف واستثماره
بينما يستعد الجيش السوري لبدء حملة عسكرية لاستعادة مناطق على جبهتي الغاب وريف إدلب تشرف على طريق M4 الدولي الذي يصل حلب بالساحل السوري، إثر عدم وفاء تركيا بتعهداتها وفق الاتفاق الموقع بين روسيا وتركيا في الخامس من شهر آذار/مارس الماضي (البروتوكول الإضافي لاتفاقية سوتشي الموقعة العام 2018)، اشتعلت إدلب بسلسلة من المعارك الجانبية إثر تحركات أمنية نفذتها “هيئة تحرير الشام” طاولت قادة انشقوا عن “الهيئة” وانضموا إلى غرفة عمليات مناوئة للاتفاق الروسي التركي (غرفة عمليات فاثبتوا) التي تضم خمسة فصائل رئيسية هي: تنظيم “حراس الدين”، وجماعة “أنصار الدين”، وجماعة “أنصار الإسلام”، و”لواء المقاتلين الأنصار” بقيادة “أبو مالك التلي”، و”تنسيقية الجهاد” بقيادة “أبو العبد أشداء” القيادي السابق في “الهيئة”( عبد المعين كحال) الذي اعتقلته “الهيئة” في مطلع العام الحالي وأطلقت سراحه في وقت لاحق.
العمليات الأمنية التي تجريها “هيئة تحرير الشام” وصلت إلى ذروتها باعتقال أحد أبرز أذرع “الهيئة” ومؤسسيها “أبو مالك التلي” (جمال زينية) الصديق المقرب من “الجولاني” والذي ذاع صيته خلال فترة توليه منصب “إمارة القلمون في جبهة النصرة”، بعد أيام من اعتقال “أبو صلاح الأوزبكي” (سراج الدين مختاروف)، القيادي السابق في “هيئة تحرير الشام” و الحالي في “جبهة أنصار الدين”، و” أبو حسام البريطاني” (توقير شريف) المقرب من تنظيم “حراس الدين” إضافة إلى اغتيال عدد من قيادات الفصائل المناوئة للاتفاق أبرزهم ” أبو القسام الأردني” (خالد العاروري) القيادي في تنظيم “حراس الدين” التابع لـ “القاعدة” بغارة جوية يعتقد أنها أميركية، وسط اتهامات لـ “هيئة تحرير الشام” بتسريب المعلومات حول القيادات “القاعدية” لتركيا والولايات المتحدة بغرض بتصفيتهم.
علاقة براغماتية
منذ بدء التدخل العسكري التركي في إدلب، عملت أنقرة على توثيق وتمتين علاقتها القائمة مع “هيئة تحرير الشام”، القوة الأبرز في المحافظة الوقعة في أقصى الشمال الغربي من سوريا قرب الحدود التركية، الأمر الذي ساهم مع مرور الوقت واستمرار التوغل العسكري التركي وتمتين القواعد التركية إلى خلق علاقة قوية بين أنقرة والتنظيم الذي يقوده “الجولاني”.
وساهمت تركيا منذ بدء الحرب في سوريا في تسهيل دخول “الجهاديين” من مختلف الانتماءات والمشارب إلى سوريا، الأمر الذي أدى إلى ظهور وتنامي فصائل جهادية “عديدة”، انحشرت مع مرور الوقت، وسط استمرار العمليات العسكرية السورية – الروسية في محافظة إدلب، ما خلق لتركيا أزمة تتعلق بأمنها الداخلي وخطر تسرب هؤلاء المقاتلين إلى الجانب التركي.
وأمام هذه المعضلة، برز “الجولاني” الذي أبدى مرونة سياسية كبيرة في تعامله مع الواقع الجديد، هرباً من المواجهة المباشرة مع تركيا الأمر الذي سينتهي به وبفصيله إلى فتح جبهات مع جميع الأطراف الفاعلة في الملف السوري، وهو ما تبلور بمجمله علاقة براغماتية بين أنقرة “والهيئة” قائمة على تابعية الجولاني وجماعته المُطلقة لأنقرة، في مقابل الحفاظ على وجود “الهيئة” وحماية مصالحها الاقتصادية الخاصة التي تضمن بقاءها واستمرارها.
وبرزت طبيعة هذه العلاقة بشكل واضح بعد الاتفاق التركي الروسي سواء الموقع في سوتشي العام 2018 أو البروتوكول اللاحق في شهر آذار/مارس الماضي، حيث حرص الجولاني على تأكيد موافقته على هذا الاتفاق. كذلك هاجم الجولاني بشكل مباشر وغير مباشر الفصائل التي عارضت الاتفاق، وكرر ظهوره الإعلامي في الفترة الأخيرة ضمن عملية تغيير “جلده” والتملص المتتابع من “عباءة القاعدة” إعلامياً، رغم تمسكه بالمبادئ الأساسية للتنظيم، سواء بشكل الحكم القائم في مناطق سيطرة “الهيئة”، أو الأساليب والطرق العسكرية التي تشرع عمليات الذبح والتفجيرات والعمليات الانتحارية.
إضافة إلى ذلك، عمل “الجولاني” على تسويق نفسه و”هيئته” باعتباره لاعباً أساسياً في ملف الشمال السوري، وهو ما يمكن ملاحظته بشكل واضح خلال اللقاء الذي أجراه “الجولاني” مع “مجموعة الأزمات الدولية” في شهر شباط/فبراير الماضي، حيث أكد خلال اللقاء على حدود عمل “هيئة تحرير الشام” في الداخل السوري، وتقديم ضمانات بعدم تحويل سوريا إلى منصة لانطلاق الأعمال “الجهادية” سواء من جماعته أومن الجماعات الأخرى وأبرزها “حراس الدين”.
استثمار الانشقاق
مثلت الانشقاقات الحالية في الصفوف “الجهادية” في إدلب حيال الاتفاقية الروسية – التركية، والتي نجم عنها بعض الانشقاقات في صفوف “هيئة تحرير الشام” نفسها، وتشكيل غرفة عمليات مشتركة للفصائل المعارضة للاتفاق، فرصة كبيرة لـ “الجولاني” لاستثمار وجوده وتأمين استمرار “زعامته” عن طريق التخلص من هذه الفصائل بشكل متتابع، وتحويل جماعته إلى بيدق في اليد التركية الأمر الذي سيجنب “هيئة تحرير الشام” مصير “داعش” من جهة ومصير الفصائل التي انصاعت لتركيا وانخرطت في مشروعها في الشمال السوري من جهة أخرى، حيث ذابت تلك الفصائل بمختلف مسمياتها (أحرار الشام، وغيرها) ضمن التشكيلات التي أنشأتها أنقرة ، وهو ما لا يريده “الجولاني”.
وعلى عكس تلك الفصائل، تحمل “الجولاني” عبء المواجهة المباشرة مع الفصائل التي تعارض الاتفاقية التركية – الروسية، موفراً على أنقرة عبء الخول في مواجهات مباشرة بين الجيش التركي وتلك الفصائل بشكل يضمن محافظة “هيئة تحرير الشام” على كيانها الموحد.
ولا تبدو خطوة “الجولاني” في استثمار هذه الانشقاقات ارتجالية، حيث جاءت بعد عمل أمني معقد على الأرض، ضمن إعادة فرز وتقييم القيادات الداخلية في “هيئة تحرير الشام” وتقييم الفصائل الأخرى ونقاط قوتها وضعفها، الأمر الذي انتهى بتنفيذ عمليات الاعتقال الأخيرة دون الخوف من تأثير هذه الانشقاقات على التشكيلات الداخلية لـ “هيئة تحرير الشام”.
ومع تصاعد المواجهات بين الفصائل المناوئة للاتفاق الروسي التركي من “جهة” و “هيئة تحرير الشام” من جهة أخرى، لا يبدو أن هذه المواجهات ستتوقف في وقت قريب، حتى إن توقفت المعارك المباشرة، خصوصاً مع إصرار “الجولاني” على وضع قبضته على كامل إدلب وإزاحة جميع الفصائل الأخرى، ومع رغبة تركيا التخلص من تلك الفصائل سواء خلال الموجهات الحالية أو بعمليات أمنية متتابعة تجريها “تحرير الشام” الأمر الذي يضمن لتركيا حلحلة بعض تعقيدات المشهد “الجهادي” قرب حدودها الجنوبية وسحب الذرائع من روسيا، و تسوية الأرض لضمان مشروعها طويل الأمد في إدلب، حالها كحال مناطق “غصن الزيتون” و “درع الفرات” و”نبع السلام” في الشمال والشمال الشرقي من سوريا، وإن كانت في بصورة مختلفة نوعاً ما في إدلب.
علاء حلبي - موقع 180
إضافة تعليق جديد