احتدام الأزمة السياسية في الكويت: المعارضة تختبر العهد الجديد
تبدو الأزمة السياسية الحادّة التي تعيشها الكويت حالياً، مرشحّة للتفاقُم، في ظلّ العودة إلى معارضة شرسة داخل «مجلس الأمّة» (البرلمان)، بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت في الخامس من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وأفرزت مجلساً تسيطر عليه معارضة قبَلية مطعّمة بتوجُّهات سلفية و«إخوانية»، تُذكّر بما كانت عليه الحال في البلاد خلال عامَي 2011 و2012، حين أشعلت المعارضة الشارع، مستفيدة من الأجواء التي ولّدتها أحداث تونس ومصر وسوريا، لكن مع اختلاف الظروف العربية راهناً. وتستمدّ المعارضة الجرأة في حراكها الجديد من واقعِ تغيُّرٍ أساسي داخل الكويت نفسها، تَمثّل في وفاة الأمير الشيخ صباح الأحمد الصباح العام الماضي، بعدما استطاع إدارة الأزمة الخطيرة السابقة بصلابة وحكمة مشهودتَين لا تزالان طريّتَين في ذاكرة الكويتيين، لينتقل مسند الإمارة إلى شقيقه، الشيخ نواف، الذي عاد أخيراً من رحلة فحوصات طبّية طويلة إلى الولايات المتحدة، وإن كان الشقيق الآخر، ولي العهد القوي، الشيخ مشعل، قد تولّى دفّة المواجهة خلال هذه الفترة.
وتُمثّل الأزمة الحالية امتداداً لسابقتها بكلّ المقاييس، في الشكل والمضمون، بدءاً من موضوعها الأساسي المتمثّل في إبطال المحكمة الدستورية عضوية النائب بدر الداهوم، الذي يمكن وصفه بأنه أحد نجوم الأزمتين السابقة والحالية، باعتبار أن حكم الدستورية جاء على خلفية حكم بالسجن صادر ضدّه بتهمة الإساءة إلى الأمير، إبّان أزمة 2011 - 2012. وأعاد إبطال عضوية الداهوم تجميع المعارضة داخل المجلس وخارجه، بعد تفرُّق شملها، ليَظهر على الساحة مجدّداً كهولها، وأبرزهم رئيس «مجلس الأمّة» السابق، أحمد السعدون، الذي شنّ هجوماً لاذعاً على السلطة في ندوة للتضامن مع النائب المُبطَلة عضويّتُه، قائلاً إن «أنجاس الفساد في الكويت ظنّوا أنهم انتصروا وأن الشعب استسلم بعد أزمة 2012، لكنهم فوجئوا بنتائج الانتخابات الأخيرة». وأشعلت تلك الندوة توتُّراً بين السلطة وكبرى القبائل الكويتية، أي قبيلة العوازم، التي ينتمي إليها الداهوم، بعد اعتقال ابن أمير القبيلة، فهد بن فلاح بن جامع، مع عدد من المشاركين من النوّاب السابقين، بسبب مخالفتهم حظر «كورونا». لكن الموقوفين رفضوا دفْع كفالة مالية للخروج من السجن، وأصرّوا على الخروج بضمان إقامة فقط، وهو ما عادت السلطات واستجابت له لتنفيس الاحتقان.
على أن الفارق بين الأزمتَين السابقة والحالية هو أن حراك المعارضة الآن يبدو أقرب إلى صرخة في البرّية منه إلى خطوة ذات أفق. إذ استفاد الحراك السابق من تصدُّر السلفيين و«الإخوان المسلمين» المشهد العربي آنذاك، ومشاركة عدد من الكويتيين إمّا في القتال الفعلي ضدّ النظام في سوريا، وإمّا في تنظيم حملات تبرُّع سخية للمجموعات المسلّحة في هذا البلد. لا يلغي ذلك أن الانقسام الكويتي على الخطوط القبَلية - الحضرية، الإسلامية - المدنية، والشيعية - السنية، لم يتغيّر كثيراً مذّاك ولو خفتَ وهجه، وأن المعارضة لا تزال تريد حصّة أكبر من الثروة. فتحالف القبائل - الإسلاميين يستهدف مؤسّسة الحكم المُتمثّلة في الأمير وولي العهد، وواجهتَها المُتمثّلة في الحكومة ورئيسها.
ولأنه ممنوع المسّ بالأمير، تصبّ المعارضة جام غضبها على رئيس الوزراء، الشيخ صباح الخالد الصباح، من خلال تكرار عمليات استجوابه، هو والوزراء، في «مجلس الأمّة»، وطرح الثقة بالحكومة، والمطالَبة باستقالته، وأيضاً عن طريق التحرُّكات في الشارع. والمطلب الحقيقي الدفين للمعارضة هو إقامة إمارة دستورية يجري فيها الحدّ من سلطات الأمير، وإن كانت تدرك أنه مطلب غير واقعي في الظروف الحالية.ولأن القبيلة هي وحدة الانتماء الرئيسة في الكويت، فإن القبائل قادرة على التحكُّم إلى حدّ بعيد بنتائج الانتخابات. فالانتخابات الأخيرة أعادت المعارضة بقوة إلى المجلس من البوابة القبَلية، حيث وصل عدد النوّاب الذين وقّعوا بيان تضامن مع الداهوم إلى 34 نائباً من أصل النوّاب الخمسين المنتخَبين. ومطلب هؤلاء إجراء تصويت نيابي على صحّة عضوية الداهوم، لكن رئيس المجلس، مرزوق الغانم، يُصرّ على أن النظر في هذا الأمر من اختصاص المحكمة الدستورية، ولا شأن للمجلس به. كذلك، تطالِب المعارضة في المجلس (38 عضواً) وخارجه، منذ الانتخابات، بإسقاط رئيس الوزراء، الذي من المقرّر أن تؤدّي حكومته اليمين في جلسة غدٍ الثلاثاء، علماً أن الحكومة لا تزال، منذ الانتخابات وحتى اليوم، تمارس مهامها بتكليف من الأمير بتصريف الأعمال، ما يعكس شراسة المعارَضة لرئيسها.
ولعلّ من المفارقات أن المعارضين الذين يطالبون بقدر أكبر من الحرّيات السياسية، ويتلقّون دعماً من اليسار المتمثّل في «الحركة التقدُّمية الكويتية»، هم حلفاء لـ«الإخوان المسلمين» والسلف من جهة، وللسعودية من جهة أخرى. وهذه الأخيرة لا تتردّد في استخدام ورقتهم عندما تختلف مع الحكم في الكويت. حصل ذلك قبل سنوات قليلة في خضمّ الخلاف الحدودي السعودي - الكويتي على المنطقة المقسومة والغنية بالنفط في الخفجي، حيث سارعت قناة «العربية» إلى استضافة أحمد السعدون ليُطلِق من على شاشتها مواقفه ضدّ الأمير الراحل.
ماذا سيحصل في جلسة «مجلس الأمّة» غداً؟
السيناريو الأكثر رجحاناً هو بلوغ تحرُّك المعارضة ذروته غداً، من دون أن يؤدّي إلى أيّ تغيير في الميزان السياسي، بالنظر إلى أن لا أفق دستورياً لتحقيق أيّ انتصار راهناً، فضلاً عن أن المواجهة ليست قدراً محتوماً، والمساومات مع أجزاء من المعارضة، إن لم يكن غالبيّتها، ليست معدومة، بدليل ما حدث في مفصل انتخابات رئاسة «مجلس الأمّة»، حين نجح مرزوق الغانم في الاحتفاظ بمنصبه، على رغم أن المعارضة تَعتبره ألَدّ خصومها. ولولا هذه المساومات، ما كان سينجح الغانم في الفوز استناداً فقط إلى أصوات النوّاب الموالين، وأعضاء الحكومة الذين هم حكماً أعضاء غير منتخَبين في «مجلس الأمّة».
ويستند المعارضون، في مطالبتهم بتصويت داخل المجلس على صحّة عضوية الداهوم، إلى أن حكم المحكمة الدستورية بناءً على طعن تَقدّم به ثلاثة من ناخبي دائرته، يتعارض مع حكم أصدرته محكمة التمييز الكويتية قبل أيّام قليلة من يوم الاقتراع في الانتخابات الأخيرة، وقضى بصحة ترشُّح الداهوم. ولَوّحت المعارضة بتحرُّك يحاكي اقتحام «مجلس الأمّة» في 2011 - إذا عمد أمن المجلس إلى منع الداهوم من حضور الجلسة -، حين قام عدد من النواب ومجموعات من المعارضين يقودهم النائب السابق، مسلم البراك، بالدخول إلى المجلس عنوة وتكسير محتوياته، للمطالبة بحلّه واستقالة حكومة الشيخ ناصر المحمد بتهمة الفساد. ولاحقاً، فرّ البراك وعدد من زملائه النواب السابقين إلى تركيا قبيل صدور أحكام بالسجن ضدّهم في 2018، في حادثة اقتحام المجلس بالذات، وكانوا قد فرّوا قبل ذلك إلى السعودية. ويُمثّل العفو الشامل عنهم وعودتهم إلى الكويت أحد المطالب الرئيسة للمعارضة.
وألمح الداهوم، في آخر تصريحاته، إلى ما يمكن أن يحصل في جلسة الثلاثاء، متّهماً مرزوق الغانم بـ«ممارسة الديكتاتورية» في المجلس، وبأنه يهدّد باستخدام القوة لمنعه من الدخول، مؤكداً «أننا لن ندعك تفعل ما تريد»، ومحذراً من أنه إذا لم يجْرِ حلّ المسألة بحلول الاثنين، أي عشية الجلسة، «فلن نتوقّف عند هذا الحدّ». في المقابل، لا يبدو أن القيادة السياسية في وارد التساهل مع اهتزازات من هذا النوع للأوضاع في البلاد، وهي أرسلت إشارات إلى أن أيّ تحرُّك للمعارضة من خارج السياقات «المعقولة» بالنسبة إليها، سيؤدي إلى ردّ فعل يساوي ردّ الفعل على الأزمة السابقة.
فهل تعيد المعارضة الكَرّة؟
الأخبار
إضافة تعليق جديد