نموذج التحويلات في سوريا وضرورة إعادة التوزيع الاجتماعيّ
الاستماتة التي تبديها السلطة السوريّة في استقطاب التدفّقات النقدية من الخارج بالعملة الأجنبية نابعة من إدراكها لعمق التحوّل الذي أصاب الاقتصاد السوري، بُعَيد انتهاء الشقّ العسكري من الحرب. فالإنتاج هنا لم يعد هو مصدر الدخل الفعلي للبلاد، على اعتبار أنّ قوّة العمل الفعلية التي كانت تنتج الثروة سابقاً قد انتقلت إلى الخارج، ومع انتقالها، وحلول قوى أخرى أقلَّ إنتاجيةً مكانها، انتهى النموذج الذي كان يربط بين إنتاج الثروة في الداخل وتحقيق القيمة المضافة للنقد المحلّي.
الاستمرارية الحالية لعملية الإنتاج مدفوعة بعوامل لم تكن موجودة في السابق، وأهمّها الطلب الذي تغذّيه التحويلات بالعملة الأجنبية، حيث لا تستطيع الأجور في الداخل تأمين شراء السلع الضرورية لحياة الناس، نظراً إلى التضخّم الكبير الحاصل، ولذلك يصبح نموّ قطّاعات الإنتاج والتجارة مرتبطاً بالتحويلات أكثر منه بالأجور. أي أنه نموّ يعتمد على الدخل المُنتَج في الخارج بالعملة الأجنبية، والذي لا يصلنا منه إلا القليل، ومع ذلك، فانّ هذا القليل هو الذي يردم الفجوة التي تسبَّبَ بها انهيار سعر الصرف، بين الأجور والأسعار، والتي بسببها، أيضاً، تحوَّلت الأجور، أي القوّة الشرائية للعمل في الداخل، إلى لزوم ما لا يلزم.
هيكلية «الدخل» الآتي من الخارج
التحريك الحاصل للعملية الاقتصادية يعتمد على هذا القليل، وهو كناية عن نسبة الـ5 % أو أقلّ التي يجري اقتطاعها من الدخل المُنتَج في الخارج وإرسالها إلى هنا، حيث يبلغ متوسّط هذا الأخير في دول اللجوء 1300 يورو أو أقلّ بقليل، وبتفاوت أيضاً بين دولة وأخرى، بحسب قوّة الاقتصاد وحصّة اللاجئين من سوق العمل. الباقي، والذي هو الجزء الأكبر من الدّخل، يذهب لتغذية الناتج المحلّي الإجمالي في تلك الدول على شكل ضرائب وإيجارات وإنفاق استهلاكي. الطفرة الاستهلاكية التي أحدثتها التحويلات بهذا المعنى، لم تكن لتحصل لولا الفارق الكبير بين سعر صرف العملة الأجنبية ونظيرِه المحلّي، فالأجزاء من الدّخل التي تصل عبر التحويلات لا تساوي الكثير بالنسبة إلى متوسّط دخل الفرد في تلك الدول. وحتى إذا اعتبرناها عيِّنة ممثِّلة للأجور التي يتقاضاها اللاجئون والفئات المهمَّشة هناك، فإنها بالمعيار المتعلّق بعدد ساعات العمل وظروفه ونظام الحوافز والإجازات و..الخ، أي بالشروط الخاصّة بإنتاج الدّخل لديهم، تُعتبر مجحفةً إلى حدٍّ كبير، إن لم نقل إنها السمة الملازمة لهذا النوع من العمل. أي ظرف الإنتاج في نظام رأسمالي يقتات على العمالة الرخيصة الآتية من دول الجنوب، بفعل تفكيك ليس فقط مجتمعاتها، بل أيضاً نظام الرعاية الاجتماعية الذي كان يحمي هذه الفئات. كلّ ذلك، لا يجعل من العمل في الخارج امتيازاً، إلا في حدود الاستفادة من نظام الخدمات العامّة التي تتوفّر للاجئين هناك، بحكم الإقامة أو الجنسية، حيث يعيشون في ظروف مماثلة لمعيشة سكّان البلاد الأصليين، وبذلك يحصلون، خارج إطار العمل، على «الحدّ الأدنى» من الرفاهية التي خرجوا من بلادهم، على إثر انهيارها، طلباً لها.
توسيع القاعدة الاجتماعية لنموذج التحويلات
وصول التحويلات ليس منفصلاً عن كلّ هذا السياق، فهو نتاج لقوّة العمل التي اقتُطعت بالقوّة والعنف من الناتج المحلّي الإجمالي لسوريا وسواها من دول الجنوب، لمصلحة التراكم الرأسمالي في دول الشمال التي تتغذّى على حركة الهجرة. والحال أنّ معاودة تغذيتها لنظام الإنتاج هنا، ومعه التجارة والاستهلاك والادّخار، ليست إنتاجاً، وان كانت تحرِّك العجلة الاقتصادية في غياب عناصرها الأساسية، بقدر ما هي تعبير عن نمط ريعي في الاقتصاد، سيعيش لفترة، كما حصل في لبنان، قبل أن يعود إلى حجمه الطبيعي، أو يندثر، حين تعاود عملية الإنتاج الانتظام ضمن سياقها الفعلي، الخاصّ بربط الإنتاج بالنقد، أي بتراكم الثروة الحقيقية، لا بالريع . ولكن، في هذه الأثناء، سنضطرّ إلى العيش طويلاً مع هذا النمط، لأنّ حصّة الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي هنا ستستمرّ بالتناقص، مع استمرار التضخّم المرتبط بانهيار سعر الصرف، وفي ظلّ غياب تشريعات فعلية، تقيّد التدفّقات النقدية بالدولار لمصلحة الأكثرية التي تزداد فقراً، أو لِنَقُل تجعل وجهة التدفّق، إذا كان لا بدّ من استمراره، متناسبةً مع حجم التآكل في دخل الفئات الأكثر هشاشةً وضعفاً.
ذهاب التدفّقات بهذا المعنى إلى الفئات الأغنى في المجتمع، أو التي اغتنت بسبب الحرب يُفقِد النموذج ليس فقط جاذبيته، بل أيضاً عنصر التعويض الذي ينطوي عليه، على اعتبار أنّ ما يصل من أموال عبر التحويلات هو نتاج لقوّة العمل التي خسرتها البلاد بسبب الحرب، وهي في معظمها تنتمي إلى فئات متوسّطة و»فقيرة». استعادة بعض من هذه القوّة الآن على شكل تحويلات أو تدفّقات نقدية من الخارج، لا يجب أن تحصل في غياب توزيع اجتماعي، يحفظ للأسر أو البيئات التي فقدت أبناءها لمصلحة الغرب، أو حتى التي لم تستطع إلى الهجرة سبيلاً وبقيت في الداخل، حقّها في الاستفادة من «نمط التراكم الجديد». السوق السوداء للتحويلات تحرم هذه الفئات جميعها، من ثمار هذا التراكم، لأنّ الأموال حين تصل عبر التحويلات وبالسعر الموازي للدولار، لا تأتي عبر القنوات التي يمكن من خلالها لاحقاً إعادة توزيع هذه الثروة، لتصل إلى الفئات التي لم تصل إليها مباشرةً، أو التي لم تستفد منها، مقارنةً بالعائلات المستفيدة التي هاجَرَ أبناؤها، بغية الإنفاق عليها، حين يستقرّون في الخارج. المفاضلة هنا بين السوق السوداء والقنوات المرخَّص لها تصبّ حكماً في مصلحة الثانية، بمعزل عن موقف المرء من السلطة عموماً، لأنّ المعركة في الاقتصاد تختلف عنها في السياسة، وأحياناً يجد المرء نفسه في تقاطع مع الجهات الحكومية التي تتولّى الشأن النقدي وفقاً لمعايير تختلف عن المرحلة السابقة. إذ لا تملك المعارضة موقفاً واضحاً في المعركة الاقتصادية الاجتماعية، حتى لدى أكثر أجنحتها وطنيةً وديمقراطية، بينما، وبحكم المصلحة البحتة، تنحاز السلطة في الظرف الحالي إلى الأكثرية التي تعاني من وطأة الحصار والعقوبات وانهيار سعر الصرف والتضخّم ، وهو الموقف الذي يتعيّن معالجته بسرعة، وبدون الالتفات إلى الوراء، لجهة ظروف المرحلة السابقة وملابساتها.
إعادة إنتاج التحويلات على شكل أجور ودعم
«التدخّل» هنا يعني دعم الوجهة التي تسمح لهذه الثروة بمعاودة التدفُّق باتجاه شرائح واسعة، مقارنةً بتلك التي استفادت منها مباشرةً، حين أنفقتها بالليرة على السلع والخدمات والإيجارات، وصولاً إلى الادّخار. الثروة في هذه المرحلة توزّعت على محورين، الأوّل هو الشرائح والأسر التي وصلتها الأموال بالليرة، والثاني هو السوق السوداء التي عن طريقها وصلت التحويلات باليورو أو بالدولار. قيمة الثروة تبدَّدت لدى الأسر بالإنفاق المحكوم بعامل التضخُّم، باستثناء ما اقتنته منها عبر ادّخار ما تبقّى بالدولار أو بالذهب، في حين بقيت كما هي لدى تجّار السوق السوداء، وربما تضاعَفَت نتيجة عمليات المضاربة على الليرة لاحقاً. وبمعزل عن طبيعة هذه السوق التي تقوم وتزدهر أساساً على عمليات كهذه، فانّ ترك هذه الثروة لها، لكي تتصرّف بها كما تشاء، هو بمثابة ثقب أسود، ومقتل للنموذج بأكمله. حصول العكس، عبر استقطاب أجزاء كبيرة من هذه التدفّقات من خلال قنوات رسمية أو مرخّصة بعد اعتماد سعر صرف تفضيلي، لا ينهي احتكار السوق السوداء للتجارة بالدولار فحسب، بل أيضاً يوسِّع قاعدة نموذج التحويلات، عبر توسيع الشرائح المستفيدة منه. فما يصل باليورو أو بالدولار عبر قنوات مرخَّص لها، يذهب إلى الخزينة العامّة، ومنها إلى الموازنة التي تحدِّد حصّة الرواتب والأجور، على قلّتها وعدم تناسبها مع التضخّم الحاصل، وكذلك الدعم المقدَّم للمواد الأساسية عبر مؤسّسة التجارة. حين يحدث ذلك، ينفتح الأفق أكثر أمام النموذج، فَيُعاد إنتاج الثروة مرّة أخرى عبر قنوات إعادة التوزيع الخاصّة بالدولة، ويحصل النموّ الخاصّ بالتحويلات على جرعة دعم إضافية. وهذا يعني، فضلاً عن إعادة التوزيع، المزيد من النموّ ليس فقط قطاعات الإنتاج والتجارة، بل أيضاً، القوى المنتِجة الجديدة التي حلّت محلّ نظيرتها المهاجرة، في سوق العمل. هكذا، وبدلاً من التسبّب بالمضاربة عبر الأقلّية المستفيدة من التجّار، يُتاح للأكثرية أن تنفق مرّة أخرى على السلع والخدمات والإيجارات، وبكمّيات متناسبة من الأموال، أي بمقدار الإنفاق الأوّل، في حال حصول رقابة فعلية على عملية الاستفادة من العملة الصعبة عبر إعادة التوزيع.
خاتمة
هذا لا يعيد إلى الليرة قيمتها، ولا يوقف عجلة التضخّم، لأنّ نموذج التحويلات الذي تُنفَق عبره الأموال، يقوم أساساً على السعر الحالي لها، أي على انهيار سعر الصرف، أو لِنَقُل، على الفارق الكبير بينه وبين نظيره الخاصّ بالعملات الأجنبية. ولكن ، أقلّه، حين يجري تقييد النموذج وربطه بقنوات إعادة التوزيع، على شكل رواتب وأجور ودعم لسلع أساسية، لا نكون قد وسّعنا قاعدة المستفيدين فحسب، بل جعلنا، أيضاً، من السعر الرخيص لليرة، ومعها السلع والخدمات المُنتَجة في الداخل، ميزةً، لا أقول تنافسية كما هي الحال في معادلات التصدير والتبادل التجاري، بل قادرة، بفضل إعادة إنتاج التحويلات، على اكتساب قيمة مضافة تستفيد منها كلّ القطاعات المنتِجة والمستهلكة في البلاد. وهذا مجدداً، لا يغيِّر من طبيعة الريع الآتي من الخارج، بقدر ما يضعه، ومعه الدولار أو اليورو، في خدمة النموّ الحاصل، وليس العكس.
ورد كاسوحة
إضافة تعليق جديد