غاز وألغاز بين روسيا وأوروبا.. وأميركا
بين الطرفين غرام وانتقام. غرام مصالح، وانتقام سياسة وديبلوماسية وأمن. ويستمتع باللعبة غالباً الرئيس فلاديمير بوتين المتنقل بين الحمل والثعلب والدب بلمح البصر، تبعاً لتطور الهجوم الغربي عليه، وما الغاز إلا سلاحاً بين الأسلحة.
الحلقة الأخيرة من مسلسل “العشق المستحيل” تمخضت عن “ضربة تحت الزنار” رفعت أسعار الغاز بنسبة بلغت نحو 25 في المائة في ايام قليلة، فصرخ الأوروبيون وانتشى بوتين المنتظر عند المنعطف.
اصطكت رِكابُ الأوروبيين لمشاهدة أسعار الغاز الطبيعي تصعد بشكل جنوني، وهم على اعتاب شتاء قد يكون قارساً برداً وبالتالي ارتفاعاً قياسياً في فاتورة تدفئة باهظة تؤثر في مسار تعافي الاقتصاد الذي يحاول الخروج من كابوس “كوفيد 19”.
ارتفعت اسعار الغاز وجرّت معها ارتفاعات في أسعار أخرى، فصعقت البورصات بصدمة لم تصحُ منها الا بعد تطمينات مغلفة بألغاز تحذيرات اطلقها الروس المناورون بامتياز في هذا الملف.
قبل التطمينات المهدئة من روع البورصات، كانت وُجّهت اتهامات أوروبية وأميركية مباشرة وغير مباشرة ضد جهات “تُعَطّش” السوق وتتلاعب بالأسعار التي بلغت مستويات تاريخية لم تشهدها من قبل. واتجهت الأنظار فوراً الى عملاق الغاز الروسي (غازبروم) المزوِّد الأول لأوروبا بهذه المادة الاستراتيجية.
***
قبل الذهاب بعيداً في شرح تطورات الأيام الأخيرة، يذكر أن الأوروببين يستوردون ما نسبته 58 في المائة من حاجة الطاقة الخام بما في ذلك الغاز. وفي مدى 10 سنوات، ارتفعت حصة واردات الغاز من روسيا الى أكثر من 40 في المائة مقابل 18 في المائة من النروج و12 في المائة من الجزائر، وفق موقع “يورو ستات” الإحصائي. وتأتي ألمانيا على رأس الدول الأكثر استهلاكاً للغاز في اوروبا، تليها إيطاليا، فرنسا واسبانيا.
إقرأ أيضاً : وزير التموين يكشف سر ارتفاع أسعار السكرويذكر أيضاً أن روسيا هي ثاني أكبر منتج للغاز في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية، ولديها أكبر مخزون غازي عالمي مكتشف، وهي المصدر أو المُورّد الأول للغاز في العالم وأوروبا زبونتها الأولى.
في أسباب الأزمة الأخيرة، قالت وكالة الطاقة الدولية، ومقرها باريس، نهاية الشهر الماضي، أنه بناء على المعلومات المتاحة، فان روسيا تلتزم بعقودها طويلة الأجل مع الاتحاد الأوروبي، لكن صادراتها من الغاز الى دول الإتحاد هي باتجاه هبوطي مقارنة بالعام 2019.
صعد بوتين الى المنبر محاولاً انهاء الجدل قائلاً: يمكن لشركة “غازبروم” تلبية الحاجات بسهولة ولديها امكانية زيادة الضخ في انابيب عبر اوكرانيا. فالانتاج الروسي يضرب ارقاماً قياسية لم يشهدها منذ عقد من الزمن على الأقل
خلال هذا الأسبوع، اسبوع آلام الأسواق الأوروبية المرتعدة من صعود الاسعار، كانت روسيا صامتة نسبياً وتحصد الأرباح بنشوة. إلا أن تعاظم الاتهامات، التي دخل على خطها الأميركيون أيضاً، وأمام الهلع الذي عمّ عموم العالم وخصوصاً الدول المستهلكة للغاز، شرعت روسيا بالإفصاح والتبرير بدءاً بنفي كل الاتهامات جملة وتفصيلاً، ثم تحميل الأوروبيين مسؤولية ارتفاع الاسعار. وأعادت تأكيد جملة حقائق لا يمكن القفز من فوقها، بنظرها، وهي:
أولاً؛ زاد الطلب على الغاز بفعل عودة الاقتصادات الى الانتعاش بعد فترة البيات النسبي التي فرضها وباء كورونا. فزيادة الطلب بشكل مفاجئ ترفع الأسعار عادةً. وأكد الروس أن الأوروبيين، وبين الأخطاء التي ارتكبوها خلال الفترة الأخيرة، عدم اكتراثهم بملء خزاناتهم بما يكفي، ما أدى الى ارتفاع الاسعار لنقص العرض الذي يتوفر أحياناً من المخزون الاستراتيجي اللاعب لدور التوازن بين العرض والطلب خلال الأزمات.
ثانياً؛ أن خط أنابيب “نورد ستريم 2” من روسيا إلى أوروبا عبر بحر البلطيق هو أكثر من ضرورة، وعلى مهاجميه مراجعة حساباتهم فوراً سواء كانوا أوروبيين أو أميركيين أو أوكرانيين. وكانت الولايات المتحدة هدّدت بفرض عقوبات على الشركات المشاركة في هذا المشروع العملاق البالغ طول الأنابيب فيه 1230 كلم وتعتبره أميركا مقلقاً استراتيجياً ويزيد الاعتماد الاوروبي على الطاقة الروسية. وحاربت أوكرانيا المشروع لأنه قد يحرمها من عائدات مليارية تتقاضاها لقاء مرور أنابيب روسية عبرها الى أوروبا. والأنبوب الجديد يمر في خط قريب بالتوازي مع خط أنابيب “نورد ستريم 1 ” الناقل بنجاح 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي الى ألمانيا منذ 2012، ويوفر مشروع “نورد ستريم 2” كمية مماثلة.
ثالثاً؛ ألمح الروس الى أخطاء يرتكبها الأوروبيون بلجوئهم في الفترة الأخيرة الى تنويع مصادر استيرادهم للغاز بالاعتماد على الشراء الفوري (سبوت أون) من الأسواق العالمية من دون عقود طويلة الأجل، واعتمادهم أيضاً أكثر على عقود قصيرة الأجل. وهذا يعاكس مصالح شركة غازبروم الروسية (المحتكرة لتصدير الغاز) التي تفضل عقوداً طويلة الأجل تصل الى 25 عاماً تؤمن لروسيا عائدات مجزية وتؤمن هدف زيادة الإدمان الأوروبي على الغاز الروسي. كما تنتقد موسكو مشاريع أوروبية لاستيراد الغاز المسال (ال بي جي) من مصادر مختلفة ضمن محاولاتها للتنويع وعدم وضع كل البيض في سلة الدب الروسي.
رابعاً؛ ينزعج الروس من الأصوات الأوروبية المنادية بالتخلي التدريجي عن مصادر الطاقة الأحفورية ( بترول وغاز..) الملوثة للبيئة والضارة بالمناخ والداعية بقوة الى مصادر طاقة بديلة. وينتقدون “النفاق” الأوروبي الجامع بين زيادة استهلاك الطاقة الأحفورية ونهم الطلب عليها من جهة، ومشاريع التخلي عنها من جهة أخرى.
عندما علت الصرخة بقوة وطلب الاوروبيون بالحاح زيادة الضخ الروسي، صعد بوتين الى المنبر محاولاً انهاء الجدل قائلاً: يمكن لشركة “غازبروم” تلبية الحاجات بسهولة ولديها امكانية زيادة الضخ في انابيب عبر اوكرانيا. فالانتاج الروسي يضرب ارقاماً قياسية لم يشهدها منذ عقد من الزمن على الأقل، بطاقة تبلغ 510 مليارات متر مكعب سنوياً.
وصدرت تصريحات أخرى جددت رغبة روسيا في مفاوضات جديدة لابرام عقود طويلة الأجل مع الاوروبيين بعد انتهاء الاشغال في “نورد ستريم 2” الشهر الماضي وانطلاق تعبئته هذا الشهر بطاقة تصل بعد فترة قصيرة الى 55 مليارمتر مكعب سنوياً ليصل الضخ الى 110 مليارات في الانبوبين 1 و2 بالاضافة الى كميات يتم ضخها عبر انابيب عابرة لدول في اوروبا الشرقية والوسطى وصولا الى اوروبا الغربية.
هل انتهت القصة هنا؟ بالطبع لا! فمعارك الطاقة باقية ما بقيت أميركا ساعية الى السيطرة على هذا القطاع أو على الأقل حرمان من يملك الطاقة بوفرة، مثل روسيا وايران وفنزويلا، قدرة استخدامه استراتيجياً بمواجهتها. فسيطرتها في الشرق الأوسط النفطي لا نزاع فيها، اما مع موسكو وطهران وكراكاس فالتطويع بعيد المنال حتى تاريخه.. والحرب سجال.
منير يونس – 180Post
إضافة تعليق جديد