طرابيشي: العلمانية هي السبيل لتسوية العلاقات بين الطوائف الإسلامية
اختتم يوم الجمعة 18 من أيار الجاري مؤتمر " العلمانية في المشرق العربي" و الذي عقد في المعهد الثقافي الدنمركي في دمشق برعاية من (دار بترا) و (دار أطلس)، و ذلك بعد يومين من ندوات شهدت إقبالا لافتا على الرغم من تقلبات الطقس المفاجئة، التي أجبرت المنظمين في النهاية على إقامة الجلسة الافتتاحية يوم الخميس 17 من الجاري؛ في إحدى القاعات الداخلية لبيت العقاد -مقر المعهد- , بعد أن كانت الباحة الخارجية نالت نصيبها من العاصفة المطرية التي فاجأت دمشق ذلك اليوم, فيما عادت الأمور إلى نصابها في الجلسات اللاحقة وفق ما كان مقررا لها.
وإضافة للمحاضرات التي لقيت استحسان غالبية الرواد, فتميزت الندوات الأربع التي تضمنها برنامج المؤتمر بأنها مفتوحة، تمكن الحضور من خلالها من طرح مداخلاتهم و مناقشة ما طرح المحاضرون في أوراقهم, الأمر الذي أضفى على ندوات المؤتمر المزيد من الحيوية و الجدة, وشكل إضافة مهمة خاصة مع ما تمتعت به مداخلات الجمهور من جرأة في طرح الأفكار وعرض المواقف على الرغم من حساسية الموضوع المطروح.
وتناولت أوراق المؤتمرين بالنقد والتحليل القضايا والإشكاليات التي تطرحها مقولة العلمانية منذ دخول هذا المصطلح حيز التداول اللغوي و الفكري العربيين في العشرينيات من القرن المنصرم، و من هذه النقطة بالذات أنطلق نيافة المطران يوحنا ابراهيم ليركز على إشكالية مصطلح (العلمانية) نفسه، الذي اعتبره غير ذي معنى في العربية، و أن أحدا من الذين اشتغلوا على تعريب الكلمة؛ لم يفلح في أن يعطيها ما هي أهله، لينتقل بعد ذلك نحو التأكيد على أن المسيحية حلت موضوع فصل الدين عن الدولة منذ أيام السيد المسيح، عبر إعطاء (ما لقيصر لقيصر و ما لله لله), واعتبر أن رجال الدولة هم من تدخلوا في شؤون الدين، واستشهد على ذلك بترأس الأباطرة الرومان منذ عهد قسطنطين للمجامع الكنسية المسكونية، الأمر الذي وضع رؤساء الكنائس والأديرة أحيانا في مواجهة عسف السلطة وإرهابها, بعد أن ادعى كل طرف أنه ظل الله على الأرض.
وخلص الأب يوحنا مطران السريان الأرثوذكس؛ إلى أن طرح مفهوم فصل الدين عن الدولة واستخدام مصطلحات مثل العلمانية؛ لا ينبغي له أن يحول دون تحقيق الإصلاحات المنشودة، لأن الإصلاح لا يتناقض مع القيم الدينية، وأنه يتوجب أن يكون هناك احترام متبادل بين السلطتين الدينية والسياسية بشكل اعمق مما دعت له أوراق بعض المحاضرين الآخرين.
و كان السيد ابراهيم الموسوي رئيس تحرير أسبوعية (الانتقاد) الناطقة باسم حزب الله اللبناني؛ غمز من ذات القناة تقريبا، عندما جادل بأن تعريف العلمانية لا يزال تعريفا (زئبقيا)، عالقا في حيز التجريد، و بعيدا عن ملامسة الواقع و التجربة، علاوة على أن هذا المفهوم في الأساس هو وليد جغرافيا تاريخية معرفية غربية بامتياز.
غير أنه أقر من جهة أخرى بأن موقفا سلبيا من العلمانية طغى على مجمل الخطاب الإسلامي في القرن العشرين، ناهيك عن أن بداية التبشير بهذه الفكرة واكبتها الكسارات عسكرية و سياسية، و تشظ أصاب الهويات الوطنية في المنطقة. ثم ما لبث الأستاذ الموسوي -الذي يعد لرسالة الدكتوراه حول (الشيعة و الديموقراطية) في جامعة برمنغهام- أن فصّـل في تطور تناول فكرة العلمانية في أدبيات الشيخ شمس الدين -الفقيه الشيعي ذائع الصيت- و صولا إلى اقتناع الأخير بعد \ 35 \ عاما من معارضتها المطلقة، بأنه (لا وجود لشكل محدد لنظام الحكم في الإسلام), و أن الأمر إنما هو منوط بإرادة الأمة و اختياراتها, على العكس من الترابي الذي حذر من انقطاع الدين عن الناس إذا ما تم عزل الفقهاء عنهم، صولا - ووفق ملاحظات الموسوي دائما- إلى الغنوشي الذي اعتبر أن العلمانية قدمت إلى بلادنا على ظهر دبابة، و(لا تزال عاجزة عن الحياة إلا في حمايتها)!
غير أن الموسوي لم يتمالك نفسه في النهاية من التعبير عن (حزنه) و (دهشته) إثر مطالعته ما ورد في ورقة عزيز العظمة، لما كان فيها - وفق تعبيره- من (قسوة وتطرف)، و ما أطلقه العظمة فيها من أحكام قيمة قطعية، علاوة على ما وصفه بـ(المغالطات) و(التجني) من وجهة نظر الموسوي، كمزاوجة الدكتور العظمة بين العقلانية و العلمانية، و انتصار الأخير للعلمانية على حساب الحرية, واعتبر الموسوي أن هذا أمر لا تستقيم في وقت يتراجع فيه الكثير من المفكرين في العالم عن رفضهم الحاد للدين, معيدين له الاعتبار على أنه ظاهرة فاعلة اجتماعيا, ضاربا المثل بـ(ريجيس دوبريه), ليختم السيد الموسوي بخلاصة تنظر إلى أن فصل الدين عن الدولة يشكل بترا للشخصية الإسلامية, و أن الحل إنما يكون عمليا في (علمنة السلطة) لا علمنة الدولة, بحيث يتمكن المجتمع الأهلي من الحفاظ على الخصائص المختلفة لمكوناته الدينية و الثقافية.
و بالعودة إلى الجلسة الافتتاحية التي آثر جورج طرابيشي ألا تكون أقل (إثارة) من الطقس العاصف الذي هيمن على ساعات ذلك الصباح الماطر؛ فاستهلها بمحاضرة حملت عنوانا بدا لكثيرين استفزازيا : (العلمانية كإشكالية إسلامية – إسلامية)، وذهب طرابيشي في معرض بحثه إلى أن معارضي العلمانية في عالمنا العربي تعاملوا معها على أنها إشكالية مستوردة من الغرب المسيحي - غليون ومن بعده الجابري- بغرض مفترض هو ترتيب العلاقات بين الأقلية المسيحية والغالبية المسلمة، بل إن بعضهم ذهب إلى حد اتهام نصارى الشرق بالعمالة الحضارية لصالح الغرب كما صرح حسن حنفي في أحد كتبه. و لاينكر طرابيشي في هذا الصدد أن هذه العلمانية هي في بعض وجوهها تمثل عملانيا مطلبا للأقليات من باب كونها ضمانة للمساواة التامة أمام القانون، غير أنه ينفي بشدة أن تكون هذه الأقليات المعنية هي المسيحية منها حصرا.
و سرعان ما ينتقل طرابيشي بنا الى جولة تاريخية سردية و مستفيضة, لجملة من الأحداث و الصراعات الطائفية الدامية التي شكلت بلاد الرافدين مسرحا لوقائعها المروعة, عرضٌ أراده قاسيا -بتعبيره هو نفسه- و هدف من ورائه إلى نقـد\ـض ما دعاه بـ(أدبيات المؤامرة الخارجية), و التي شكلت حسب رأيه؛ ثابتا عنيدا من ثوابت الإيديولوجيا العربية المعاصرة, مقيما الحجة على اجتهاده ذاك بكون الفتن الطائفية (داخلية) بامتياز, ذاهبا إلى أن أبطال هذه الفتن هم أنفسهم من كان يوظف (الخارجي) توظيفا فئويا على مذبح ما نسميه اليوم (المصلحة الوطنية أو القومية).
و ينوه طرابيشي في استخلاصا ته التي اعتبرها خاتمة (مؤقتة) لأطروحته؛ إلى أن الأمر لا يحتاج كثير عناء لكي نتخيل ما يمكن أن يحدث في حال ارتفعت قبضة الدولة القامعة أو الضابطة عن بعض المجتمعات, و يسوق مثلا الحاصل اليوم في العراق و إلى حد ما في باكستان و ما يمكن أن يجري في السعودية و دويلات الخليج أو حتى في إيران نفسها, على اعتبار أن الطائفية في الإسلام لم تكن يوما حدثا طارئا عليه أو مصطنعا فيه, بل إنها واقعا من اكثر ثوابت الإسلام التاريخي استمرارية.
و يتسائل جورج طرابيشي عن سبيل سوى العلمانية إلى تسوية العلاقات المتوترة دوما (ظهورا أو كمونا, علانية أو سرا تقية), بين الطوائف الإسلامية المتكارهة, تلك العلمانية التي برأيه ما جرى اكتشافها و تطويرها في مختبرات الحداثة الأوروبية إلا لتكون (الدواء الشافي من الداء الطائفي)، دون أن يفوّت طرابيشي المناسبة للتعريض بالجابري الذي دعا يوما إلى سحب كلمة العلمانية من قاموس الفكر العربي, مفندا الطروحات (الديموقراطوية) لحل هذه الإشكالية, باعتبار هذه المقاربات فاقدة لأي معنى في ظل أكثرية و أقلية طائفيتين مستديمتين, اللهم ما لم يتغير ميزان القوى الديموغرافي!
لكن أمين سر رابطة العقلانيين العرب لا يفوته أن يشدد على أن دفاعه الذي أتى دون شك حارا عن العلمانية, لا يجعل منها إيديولوجيا خلاصية, و ختم بأن التربية العلمانية يجب أن تبدأ من المدرسة الابتدائية, قبل أن تتحول إلي مادة دستورية أساسية يترتب عليها ما يترتب من تعديل لمواد القانون المتعارضة و المبدأ العلماني.
وفي اليوم الثاني، و على غرار طرابيشي لم تكن ورقة عزيز العظمة أقل جرأة أو(قسوة) فبدا أن المفكر السوري الأبرز في هذا المجال قد تحلل من كثير من المحاذير اللوجستية، و عمد إلى شن هجوم توصيفي لاذع على الراهن العربي, دون أن يوفر فيه أبناء جلدته من المثقفين, عندما قال أن ممانعة التقدم تتصدر المشهد العام العربي منذ ما يربو على العقدين، و أن هذا النكوص يمعن في التجذر بوتائر متسارعة، وأن الحداثيين والعلمانيين أنفسهم بدؤوا يستهلكون رأس المال الثقافي والاجتماعي الحداثي الذي روكم على امتداد نيف وقرن، بل إن منهم الكثير ممن اتخذوا مواقع دفاعية أو انزوائية، وأحيانا محابية أو منافقة، بدلاً من بذل الجهد استمراراً في مسيرة التقدم وصيرورة النهوض.
و إذ ينفي عن نفسه تهمة العدمية التي تصبغ حسب رأيه الغالب الأعم من المثقفين وغير المثقفين العرب؛ يؤكد الدكتور العظمة على أن النظم القانونية التي احتكمنا إليها على امتداد قرون طويلة قد تقادمت، بل حتى (أن دولة عربية تعتبر القرآن دستوراً لها أو بديلاً لها عن دستور، كان لا بد لها وأن تلتجئ إلى تشريعات إدارية حديثة لتسيير أمور الناس ومعايشهم), و أن عنوانا مثل (تطبيق الشريعة) لم يبق منه في واقع الأمر إلا (بعض العناصر المشهدية والدرامية كالحجاب والعقوبات)
و يسوق العظمة دولا مثل سورية ومصر والعراق والكويت كمثال على تبني القوانين المدنية تدريجيا, و لئن تضمنت بعضاً من الأحكام الفقهية و هي قليلة, فإنما ذلك قد أتى باعتبارها في حكم (العادات الاجتماعية لا تشريعا إلهيا.)
و بعد أن هاجم بمرارة تعدد الزوجات وإطلاق اليد في الطلاق و تشريعات المواريث الإسلامية واصفا إياها بالعادات المذمومة التي تشي بالتخلف و الفهم المَرَضي للرجولة؛ اعتبر العظمة أنه قد أن الأوان للسلطات التشريعية من غير بلد عربي مساوقة التشريع مع واقع المجتمع، و اعتبر أن رفض العلمانية في هذا الإطار إنما يعبر عن رفض للإقرار بالوعي، بل عن رغبة في التراجع والنكوص, استجلابا للعصمة أو المناعة في مواجهة ما نعانيه من تصدُّع في الهيئة الاجتماعية و استبداد واستئثار بالثروة الوطنية، ومن هجمة خارجية بالغة الوحشية عنواناها إسرائيل والولايات المتحدة. ولكن واقع الأمر على خلاف ذلك
و يؤكد العظمة في غير مكان من محاضرته على أن الإسلام ليس برنامجاً سياسياً واجتماعياً، إلاّ في نظر جماعات سياسية تبتغي الهيمنة، وتعمل بتأييد لوجستي وإيديولوجي من دولة عربية ومن الولايات المتحدة , متوسلة العنف اللفظي والمعنوي والجسدي, واحتلال الفضاءات العامة وإقلاق راحة الجيرة في سكون الفجر.
و ندد العظمة بما أسماه الاستتباع الثقافي للإسلام السياسي من قبل فئات عريضة من المثقفين الذين يعتقدون بالدراما المشهدية، وما تنطوي عليه من استسهال عصابي لقبول الإهانة التي قد يراها البعض في (صور كاريكاتورية سخيفة، ومن مشاكسة مستمرة وعيون حمراء متوهجة وهندام غريب وتفجير أعراس وقطارات وانتحار مَزْهوّ)
و نفى الدكتور العظمة عن العلمانية تهمة معاداتها للدين مستشهدا بأن فئات اجتماعية عديدة انضوت تحت لواء العلمانية و كأن منها كاثوليك و أنغليكان، وليبراليون بروتستانت، و أن الحزب الثوري المؤسساتي (PRI)، الذي حكم المكسيك مثلا على مدى 70 عاماً، لم يعمل يوما على إيذاء المشاعر الدينية, وتسائل مستنكرا (ألا تظنون أن غلبة فكرة المؤامرة على الخطاب السياسي الإسلامي إنما هي صيغة معلْمَنة لفكرة إبليس وما تشي به ـ في كل المجتمعات في أوقات الأزمات ـ عن رهاب فردي وجماعي؟)
و رفض العظمة فكرة أن المسيحية عملت على فصل الدين عن الدولة و تحدى بأنه على استعداد للاستشهاد بنصوص لا حصر لها من العهدين القديم والجديد -ناهيك عن الفكر السياسي المسيحي- للدلالة على عدم جواز فصل الدين عن السياسة، وعلى أن الحاكمية لله وحده وليست للبشر، ورأى أن المسيحية في أوروبا قد تصالحت مع (العلمنة) دون التصالح مع (العلمانية) بعدما أجبرها المجتمع على الإلمام بالواقع.
ولم ينج - حتى حين- من نقد العظمة سوى مفتي الجمهورية العربية السورية لكلامه (المحمود) حول جرائم الشرف، و نظيره شيخ الأزهر لفتواه بجواز إلزام الدولة الفرنسية المسلمات بخلع الحجاب في المدارس، و رحب بانتشار الرأي لدى قطاعات من مسلمي أوروبا بوجوب الانتقال بصلاة الجمعة إلى يوم الأحد.
وخلص الدكتور العظمة إلى أن الاعتبار الساري بين العلمانية وشأن الحضارة والثقافة يكمن اعتبار تحولات مجتمعاتنا في القرنين الأخيرين على أنها هباء وعماء، وأن لمجتمعاتنا هوية تسبق الفعل التاريخي وتعلو عليه، وأضاف (بين الحرب والحوار تضيق مساحة الهوية، وتضيق مساحة الفعل, وتحثنا على الهرولة هرباً من التاريخ؛ ولا هرب من التاريخ إلا بالخروج منه نحو فردوس المحمية البشرية التي نراقب فيها ذواتنا وندور عليها، ويراقبنا فيها الآخرون، فرحين بالتردّي والنكوص فخورين به، متغنّين بالقول أنه ليس بالإمكان أحسن مما كأن، متحولين بالهوية الدينية عن الواقع إلى الوهم، ناعين على العلمانية عدم إلمامها بالخيال وبأولوية الخيال.)
خالد الاختيار
إضافة تعليق جديد