مصطفى الفقي : فكر الإصلاح يختلف عن أسلوب الثورة
كتب ابن المقفع عن «فضل الأقدمين»، وتباكى قبل مئات السنين على الأخلاق الضائعة والقيم الغائبة والفضيلة المفقودة، وقال إن الأجيال الجديـــدة لا تحترم التقاليد ولا تعرف المروءة ولا تؤمن بما يجب أن يكــــون عليه الإنسان السويّ. تذكرت ما قاله ابن المقفع منـــذ عـــدة قـــرون وأنا أتابع الحملة التي تقودها بعض الأجيال القديمة على الأجيال الجديدة من شباب الأمة العربية، اذ يرمونهم بالسلبية والتقاعس وضعف الانتماء بينما الأمر في ظني يختلف عــــن ذلك، فالأجيال الجديدة تملك بدائل أخرى من الوعي التقني والفـــطنة العامة التى لم تكن متاحة لأجيالنا التى سبقـــت، فـــإذا كنا نعيب عليهم ضعف الاهتمام بالحياة العامة أو التراجع عـــن الانخراط في الجدل السياسي أو متابعة الشأن القومي إلا أننا يجب أن نعترف بأن عصر «الانترنت» أوجد بدائل أخرى تعطي مــــيزات للأجيال الجديدة تعوض بها تلك الصفات السلبية التي ننعتها بها من حين لآخر. فالمسافة الفكرية والثقـــافية بل والتعليمية بين الشاب العربي والشاب الأميركي أو الأوروبي أو الياباني تبـــدو ضيقة للغاية أو ربما معدومة فهم جميعاً يستــخدمون «الكمبيوتر» ويدخلـــون على «الانترنت» ويتمتعــــون بنفس المعلومات كما أن السموات مفتوحة لهم بنفس القــدر والفضائيات من كل الثقافات واللغات أصبحت في متناول الجميع. كـــذلك فإن الجيل القديم يحاول أحياناً استخدام الشعور الأبوي الزائد لقمع حركة الأجيال الجديدة بل والمصادرة على مبادراتها غير التقليدية حيث يتغنى الأباء بأمجاد وهمية ويـــرفعون شعارات نظرية في محاولة لوضــع الأبـــناء أمام مأزق لا مبرر له على نحو يصل أحياناً إلى حد السماح لنا بالحديث عن صراع الأجيال، ولعلنا نفصل الآن ما أوجزناه وذلك من خلال النقاط الآتية:
- أولاً: إن أكثر من ثلثي السكان في العالم العربي ودوله المختلفة ينتمون إلى شرائح عمرية تقل عن الخامسة والثلاثين وإذا أخذنا النموذج المصري ـ على سبيل المثال ـ فإن ما يقرب من السبعين في المئة من السكان لم يعيشوا أيام حرب تشرين الأول (أكتوبر) ولكنهم سمعوا عنها، كذلك فإن الأجيال الجديدة من الشباب المصري تنظر إلى «عبد الناصر» ـ من الناحية الشكلية على الأقل ـ بنفس منظارهم إلى الملك «فؤاد» أو الخديوي «اسماعيل» أو «محمد علي» باعتبارهم حكاماً رحلوا فهم يقرأون عنهم عن بعد ولا يتذوقون في الغالب حماس تلك الفترة ولا يدركون ظروف تلك المرحلة، كما أن نصف المصريين على الأقل يعرف عصر «السادات» من ذات المنظور فضلاً عن أن اهتمامهم بالتاريخ السياسي للوطن يبدو محدوداً للغاية والقياس وارد بالنسبة الى الشعوب العربية الأخرى وحكامها الراحلين وأنظمتها السابقة، ولعل ذلك كله يعكس جزءاً من أزمة الشباب العربي الذي سمع ولم يرى وقرأ ولم يعش، إنها أزمة معروفة في كل الأمم والحضارات يمكن تلخيصها في غياب عامل المعاصرة وافتقاد القدرة على التقييم المباشر للشخوص والأحداث والظروف.
- ثانياً: إنني ـ وغيري كثيرون ـ نشعر بالصراع المكتوم بين الأجيال وحرمان الجديد منها من مواقع السلطة أو مراكز اتخاذ القرار بل إننا نقرر لهم أحياناً ما يجب أن يفعلوه في وصاية مستمرة يجب أن تتوقف، ومرة أخرى فإننا لو تأملنا الشرائح العمرية لمتخذي القرار في عدد من الدول العربية لوجدنا أن إقصاء الشباب واضح وأن التمسك بالمقاعد مستمر لذلك فإن إحساس الأجيال الجديدة بقدر لا بأس به من الحرمان والضغط والقهر هو أمر وارد يشعر به كل المعنيين بالشأن العام في عالمنا العربي.
- ثالثاً: إن ألف باء الإصلاح يعتمد على التوازن بين الأجيال، فالحياة مزاج من حكمة الكبار وحماس الشباب، كذلك فإن روح المبادرة بل والمغامرة لدى الأجيال الجديدة إنما تمثل الوقود المطلوب للحركة الطبيعية للتاريخ وفلسفة التطور الإنساني المعتاد، كذلك فإننا يجب أن ندرك أن أصحاب المستقبل هم الأحق بأن يقرروا له وأن يحددوا المسار إليه أما تجاهلهم وإغفال قيمتهم أو تهميش دورهم فإن ذلك يؤدى إلى ترهل النظم القائمة وشيخوخة القيادات المسيطرة واختفاء الدماء الجديدة كما أنه يعطل مبدأ تداول السلطة ويوقف دوران النخبة ويجمد القيادات، والأمثلة على ذلك متاحة في عالمنا العربي لمن يتأمل الساحة القومية في مجملها.
- رابعاً: إن أخطر ما تتعرض له أمة هو أن تطفو على السطح مشاعر الثقة المفقودة بين أجيالها المتعاقبة وأن يصاب شبابها بالإحباط وأن يشعر بأنه ليس شريكاً حقيقياً في صنع القرار ولكنه مجرد متفرج وذلك نتيجة طغيان جيل أو جيلين على الأجيال التالية، وعالجت دول كثيرة هذه الظاهرة من خلال تطعيم القيادات العليا على كل المستويات بعناصر شابة وضخ دماء جديدة إلى ساحة العمل الوطني بكل مستوياته، ولعلنا نتذكر هنا أن قيادات تاريخية كبرى بدأت مسارها في سن مبكرة وحققت نجاحات باهرة ودخلت التاريخ من أوسع أبوابه وهي في مستهل العمر، ونحن لا نجادل هنا في أهمية الخبرة ولكننا نزعم أيضاً أن العمر ليس هو المعيار الوحيد لتبوء المناصب وتحمل المسئوليات أقول ذلك بعد رحلة أربعين عاماً في الحياة العامة آمنت خلالها أن القرار السليم لا يرتبط بشريحة عمرية قدر ارتباطه بنوعية التعليم وطبيعة التربية.
- خامساً: إن طول مدة القيادات في مواقعها والمسئولين في مناصبهم تؤدى بالضرورة إلى حالة من حالات فقدان الحماس وضعف الشهــية للابتكار أو روح المــــبادرة في اتخاذ القرار كما أنها تصيب المجتمع بحالة من الجمود وتجعل النظم راكدة وغير قادرة على ميلاد جـــديد وذلك كله يتعارض مع فلسفة الإصلاح ومفهومه ولا يتمـشـــى مع الجهود التـــى تبذلها عناصر شابة تحاول اقتحام الحياة في شجاعة وجسارة وثبات.
... هذه ملاحظات عامة لتوصيف الظاهرة التى تسيطر على الأوضاع في الدول التى تعاني من المصاعب الضخمة والمشكلات المتراكمة وتنتظر الإصلاح على كافة الأصعدة والمستويات ولا أظن أن ذلك الإصلاح يمكن أن يتحقق في ظل أوضاع معكوسة تجعل من ذلك المصطلح الخطير مجرد غطاء لديمومة الأوضاع واستمرار سيطرة الأجيال المغادرة على مقدرات الأجيال المقبلة، وأحسب أن الارتباط بين الإصلاح الذي نريده والواقع الذي نعيشه هو ارتباط عضويى متلازم بل إن دور الأجيال الجديدة هو جزء لا يتجزأ من حركة التاريخ ومسيرة التطور فإذا كان الإصلاح يسعى لإحداث نقلة نوعية في المجتمعات فإن البداية تكمن في محاولة إحداث التوازن بين الأجيال المختلفة والتوزيع العادل للمسئوليات بين الذاهبين والقادمين، لذلك فإنني أطرح تصورنا للمنهج الإصلاحي الذي يبدو ضرورة تاريخية بسبب ارتباطه بحركة الأجيال من خلال الأبعاد الآتية:
(أ) إن نظم التعليم وأنماط التربية في الأقطار العربية مسؤولة مسؤولية مباشرة عن تكوين الخلفية الثقافية والعقلية القادرة على صياغة الأوضاع المتغيرة في عالم يموج بكافة التيارات من مختلف النظريات وهو أمر يلقي بالعبء الأكبر على صانع القرار السياسي الذي ينبغي عليه أن يوائم بين كافة الاعتبارات وأن يجعل لحماس الشباب مكاناً مساوياً لهدوء الكبار.
(ب) إن الإصلاح عملية واعية ذات أبعاد تنموية تعطي الفرص المتكافئة للجميع وتستوعب كافة الأعمار وتدرك أهمية التدريب السياسي كما تحمل الأجيال الصاعدة لمسئولياتها لأن الغد امتداد لليوم مثلما كان اليوم امتداداً للأمس فالتواصل بين الأجيال ركن أساسي في عملية الإصلاح وفي جوهر التنمية البشرية بكل جوانبها، ولاحظت من مشاركتي في الاختبارات الشفهية للدبلوماسيين الجدد في وزارة الخارجية المصرية والمرشدين الأثريين في وزارة السياحة أن هناك ميزات بديلة لكل ما نتحدث عن غيابه لدى الأجيال الجديدة بحكم منطق العصر وروح التطور.
(ج) إن فكر الإصلاح يختلف عن أسلوب الثورة فالإصلاح عملية تدريجية تحوى كافة المستويات العمرية وليست عملاً فجائياً يرتبط بانفعال الشباب أو فوران الشرائح الوسطى من العمر التى تقود الثورات غالباً ولا تتبنى التوجهات الإصلاحية بسبب نفاد الصبر وقلة الخبرة، من هنا تبرز أهمية الإصلاح باعتباره تجسيداً لحالة الانصهار والتفاعل بين الحكمة والحماس، بين الخبرة والحيوية، بين الحاضر والمستقبل، لذلك فإن أجندة الإصلاح تضع في أولوياتها الاستفادة من طرفي المعادلة العمرية.
... إن الرسالة التي نريد أن نبعث بها من خلال السطور السابقة هي أن حيوية الإصلاح ودينامياته المختلفة ترتبط كلها بمنظور تاريخي يؤمن بضرورة التقدم والاتجاه نحو الأفضل بدليل أن الحياة تزداد سهولة مع حركة الزمن ولا يمكن أبداً إيقاف عجلة التاريخ إنحيازاً لجيل معين أو محاباة لجيل آخر، فالكل يدرك أن كل جيل أفضل من سابقه والاعتراف بهذه الحقيقة يؤكد في الوقت ذاته الدور البناء الذي يقوم به الجيل السابق للجيل اللاحق فالفضل يرجع للجيل الذي ربى وبنى وليس فقط الجيل الذي حصد وجنى، ونحن لا نشك أبداً بهذا المنطق في القول الذي يرى أن الحياة تتجه دائماً للأفضل وأن الإصلاح هو بحق ضرورة تاريخية.
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد