أنقرة – دمشق: بداية تطبيع صعب
سارعت أنقرة، في الساعات الماضية، إلى نفْي نيّتها بدء أيّ عمل عسكري برّي في الأراضي السورية، بعدما ارتفعت نسبياً سخونة الميدان في مناطق الاحتكاك في الشمال، على خلفيّة قصف طائرة تركية نقاطاً للجيش السوري، تسبّب بـ«استشهاد ثلاثة عسكريين وجرح ستّة آخرين»، وفق ما أعلنت وزارة الدفاع السورية. وأكدت الوزارة أنه «مع تزايد حدّة الاستفزازات التي يمارسها النظام التركي، والاعتداءات المتكرّرة على مناطق مختلفة من الأراضي السورية، نؤكد أن أيّ اعتداء على أيّ نقطة عسكرية لقوّاتنا المسلّحة سيقابله الردّ المباشر والفوري على الجبهات كافة». لكن تركيا، التي برّرت هجومها بأنه جاء ردّاً على قصف نقاط لجيشها قرب الحدود بما تسبّب بمقتل وإصابة عدد من ضباطها وجنودها، عادت وخرجت بتصريحات لتهدئة الأوضاع، خصوصاً بعدما ظهرت ملامح انفلات ميداني على خلفيّة دعوات أطلقتها مساجد تركية في المناطق الحدودية على الطرف المقابل لجرابلس، إلى التزام المواطنين منازلهم تمهيداً لعملية عسكرية تركية، ليخرج بعدها مسؤولون أتراك، وينفوا وجود أيّ عملية من هذا النوع، ويعلنوا فتْح تحقيق للوقوف على خلفيّة تلك الدعوات. وفي السياق ذاته، لوحظت محاولة «قسد» استثمار الأحداث الأخيرة، عبر نشر أخبار حول خسائر كبيرة في صفوف الجيش السوري، لكنّ وزارة الدفاع السورية بادرت إلى إيضاح حقيقة هذه الخسائر، الأمر الذي أعاد السكون النسبي إلى الميدان، من دون أيّ تغيير في خريطة السيطرة.
وبحسب مصادر ميدانية ، فإن اجتماعاً عاجلاً عقده ضبّاط عسكريون وأمنيون أتراك مع عدد من قادة الفصائل المعارضة المنتشرة في بعض مناطق ريفَي حلب والرقة، حذّر فيه الأوّلون، الأخيرين، من الانزلاق إلى أيّ مواجهة عسكرية مع الجيش السوري، مشدّدين على منع أيّ محاولات لتبديل خريطة السيطرة، إضافة إلى ضبط الأمن الداخلي على خلفية تزايد التظاهرات المناوئة لأنقرة خلال الأيام الماضية، والتي تمّ على إثرها اعتقال أكثر من 150 سورياً حتى الآن. ويأتي التسخين التركي المحدود على بعض المحاور في الشمال السوري، في إطار عمليات الاستهداف الجوي التي بدأتها أنقرة أخيراً ضدّ مواقع كردية، تريد إبعادها من خريطة المناطق الحدودية في إطار مشروع التفاهمات التي تقضي بأن يتسلّم الجيش السوري الشريط الحدودي.
ويعني ذلك أن هذا النوع من العمليات قابل للاستمرار بشكل حذر، حتى لا يفضي إلى مواجهة مع الجيش السوري الذي ترغب تركيا في أن يتابع انتشاره على الحدود بما يتوافق مع «اتفاقية أضنة»، والتي يجري الحديث عن إمكانية تعديلها والخروج بصيغة جديدة تناسب الأوضاع الحالية.
وبالتوازي مع العمل الميداني، ثمّة جهود عديدة ضمن مسارات متوازية تقودها طهران وموسكو لفتح الأبواب المغلَقة بين دمشق وأنقرة، وسْط انفتاح تركي واضح ومدفوع بالرغبة في التخلّص من «خطر الأكراد» من جهة، ومن «عبء اللاجئين» من جهة أخرى، قبيل الانتخابات الرئاسية المقرَّرة العام المقبل. وبحسب المعلومات، فإن تركيا تحاول تثبيت شرعية «الائتلاف السوري» كممثّل عن المعارضة، تمهيداً لدخوله حوارات مع الحكومة السورية، تستهدف التوصّل إلى اتفاق سياسي تتعهّد أنقرة أن يتبعه انسحاب قوّاتها من الأراضي السورية. لكن هذا الطرح قوبل برفض من دمشق، التي شدّدت على ضرورة وقف الدعم التركي للفصائل المعارضة، وانسحاب القوّات التركية من المناطق التي تسيطر عليها كشرط للارتقاء بمستوى العلاقات مع تركيا. في المقابل، يبدو أن ثمّة التقاء مصالح حول ملفّ اللاجئين، الذين ترغب أنقرة في التخلُّص من عبئهم، فيما تسعى الدولة السورية إلى رفع وتيرة إعادتهم من جميع دول الجوار، ضمن مخطّط يتمّ العمل عليه سواءً مع لبنان أو مع الأردن، وتريد تركيا أن تكون جزءاً منه، خصوصاً أن هذه القضية لم تقابَل بأيّ شروط من دمشق. وفي هذا السياق، تأتي التسريبات التي بدأت بعض الصحف التركية المحسوبة على حزب «العدالة والتنمية» الحاكم نشرها، حول نيّة البدء بإعادة النازحين إلى محافظات عدّة، من بينها حلب وحمص الخاضعتان لسيطرة الحكومة السورية.
ويعني ما تَقدّم فصلاً واضحاً للملفّات العالقة بين البلدين بعضها عن بعض، الأمر الذي يبدو مقبولاً لدى الجميع، ومُساوِقاً لمصلحة تركيا التي تريد إغلاق ملفّ اللاجئين في أسرع وقت، في ظلّ الضغوط الاقتصادية المتزايدة عليها، وارتفاع معدّلات «الكراهية» في الشارع التركي ضدّ السوريين، واستثمار الأحزاب المعارضة هذا الملفّ في السباق الانتخابي، إضافة إلى عدم كفاية مشروع «مدن الطوب» الذي تتولّى أنقرة تنفيذه في مناطق حدودية، بتمويل قطري.
ومن شأن التحرّكات التركية على خطّ حلحلة الملفّ الإنساني، أن تفسّر حملة الاعتقالات والترحيل المتصاعدة ضدّ شخصيات مؤثّرة إعلامياً، وذلك لضمان عدم تعكيرها الأجواء، أو عرقلتها جهود أنقرة، والتي تتوقّع مصادر مطّلعة أن تؤتي أُكُلها خلال فترة قريبة، خصوصاً مع استمرار الحكومة السورية في العمل على إعادة تأهيل البنى التحتية في المناطق المتضرّرة في حلب وحمص وغيرهما، بدعم روسي واضح.
وعلى رغم أن مسألة اللاجئين تمثّل بوّابة مضمونة لتعاون جزئي سوري – تركي، إلّا أن جهود حلحلتها تُواجه تحدّيات عديدة، لعلّ أبرزها المحاولات الأميركية المستمرّة لعرقلة هذا المسار وإبقاء الوضع الراهن في سوريا على ما هو عليه. وتتجلّى آخر تلك المحاولات في إعادة الحديث عن عمليات إنعاش اقتصادي لمناطق سيطرة الفصائل المدعومة تركياً في ريفَي حلب والرقة، تمهيداً لانفتاح اقتصادي بينها وبين مناطق «قسد»، وفق التسريبات المتزايدة في بعض وسائل الإعلام التركية، والتي تتحدّث عن عرض أميركي للفصائل بالتخلّي عن تركيا والانفتاح على «قسد». لكنّ مصادر معارضة نفت، في حديث إلى «الأخبار»، صحّة تلك الأنباء، معتبرة أنها تأتي في سياق الدعاية التركية المضادّة للمساعي الأميركية إلى عرقلة التوافقات التركية – الإيرانية – الروسية، موضحةً أن هذا الطرح غير قابل للتطبيق من دون موافقة تركيا، في ظلّ التركيبة البنيوية للجماعات المعارِضة، والتي تتحكّم بها أنقرة بشكل شبه مطلق، يمنعها حتى من مجرّد التنسيق مع واشنطن ميدانياً بشكل منفصل.
علاء حلبي – الأخبار
إضافة تعليق جديد