أمريكا وبناء الدولة الفاشلة قبل استثمارها
الجمل: بدأ يتكشف أكثر فأكثر أن الحرب التي بدأت بشنها أمريكا عبر باكستان ضد حركة طالبان الافغانية وتنظيم القاعدة الأصوليان الإسلاميان، هي حرب تتستر خلف عباءة الحرب ضد الإرهاب، ولكنها في الوقت نفسه تخفي تحت هذه العبارة الكثير من الملفات الأخرى غير المعلنة، والتي باتت تتكشف يوماً بعد يوم.
• دائرة الهدف الأمريكي:
برغم أن المعلن بواسطة إدارة بوش يتمثل في أن أفغانستان هي الهدف الرئيسي لعملية الغزو، فإن القراءة الفاحصة في ملفات ووثائق مراكز الدراسات التابعة لجماعة المحافظين الجدد تشير إلى غير ذلك تماماً، فأفغانستان هي الهدف الثانوي المعلن، وباكستان وغرب الصين ودول آسيا الوسطى وإيران، هي الهدف الرئيس غير المعلن، وفقط كانت أفغانستان مجرد المحطة الأولى لوصول تمركز القوات الأمريكية، على النحو الذي استطاعت فيه بناء قاعدة الباغرام الجوية العسكرية، استعداداً للانطلاق وتوجيه المجهود الرئيسي الحقيقي للحرب الأمريكية في وسط وجنوب آسيا.
• طبيعة الأهداف الرئيسية غير المعلنة:
باكستان دولة نووية إسلامية، والصين دولة كبرى شيوعية علمانية، ولكن يقطن في غرب الصين وتحديداً في إقليم شينكيانج حوالى 150 مليون مسلم سني، وفي منطقة آسيا الوسطى توجد خمس دول غنية بموارد النفط والغاز واليورانيوم والمعادن، وجميع سكانها من المسلمين السنة، إضافة إلى أن من يسيطر عليها يستطيع تهديد خاصرة روسيا، وشمال وغرب الصين.. أما الهند فهي دولة نووية وقوة كبرى صاعدة، يبلغ عدد سكانها مليار شخص، منهم 750 مليون هندوسي و250 مليون مسلم سني، وتتميز علاقتهما بالتوتر والتناحر المتزايد.
• النماذج الاستراتيجية وخارطة الطريق الأمريكية:
توجد الكثير من الدراسات والأوراق البحثية التي تحاول بناء النماذج الاستراتيجية ورسم خارطة طريق الإدارة الأمريكية للتعامل مع هذه المنطقة، وتتفق جميع هذه الدراسات والأوراق على أهداف محددة تتمثل في:
- الاستفادة من المزايا الجيوستراتيجية بإقامة القواعد العسكرية الأمريكية في هذه المنطقة، وبالفعل، استطاع البنتاغون بناء قاعدة الباغرام الجوية العسكرية في أفغانستان، وبناء قاعدة أنديجان في قيرغيزستان، وقاعدة أخرى في أذربيجان، إضافة إلى ثلاثة قواعد في باكستان.
- تهديد الصين وروسيا انطلاقاً من هذه المنطقة.
- السيطرة على موارد هذه المنطقة.
- أعاقة نمو وتطور باكستان والهند الى قوى كبرى عالمية.
- بناء نموذج الدولة في هذه المنطقة على غرار النموذج الأمريكي اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.
- تهديد إيران من الناحية الشرقية والشمالية وإعاقة تقدم نفوذها في هذه المنطقة التي ظلت في الماضي ترتبط اثنياً وثقافياً واجتماعياً بالحضارة الفارسية والثقافة الإيرانية الإسلامية الشيعية.
خارطة طريق الإدارة الأمريكية الخاصة بهذه المنطقة تحمل الكثير من المفاجآت، ومن أبرزها:
- في أفغانستان: تخلت القوات الأمريكية عن مسؤولية الحرب والقتال لقوات حلف الناتو، واكتفت بدور القائد والمشرف، وذلك على النحو الذي سوف يؤدي بلا شك إلى توريط دول الاتحاد الأوروبي في حرب هائلة النفقات وغير مضمونة النتائج، بشكل يؤدي إلى استنزاف قدرات الاتحاد الأوروبي ومنعه من النمو وإعاقة تطوره، وتشير توقعات المراقبين والمحللين إلى ان تورط الاتحاد الأوروبي سوف يؤدي إلى تآكل معدلات التنمية الاقتصادية الأوروبية، إضافة إلى تصعيد الخلافات والصراعات بين الأطراف الأوروبية على النحو الذي يضر بالوحدة السياسية الأوروبية الحالية.
- في باكستان: بدأت أمريكا الدخول عملياً في باكستان منذ الأعوام الأولى لاستقلال باكستان، وذلك على خلفية مشكلة كشمير، فقد كانت الهند تجد مساعدة الاتحاد السوفييتي، وبالمقابل على خلفية نظام القطبية الثنائية أصبح التعاون الأمريكي- الباكستاني يشكل المعادل الجيوبولتيكي للتعاون السوفييتي- الهندي الذي يحفظ التوازن الاستراتيجي الإقليمي في منطقة شبه القارة الهندية.
تزايد التعاون الباكستاني- الأمريكي أكثر فأكثر عند دخول السوفييت إلى أفغانستان وسقوط نظام الشاه وظهور الجمهورية الإسلامية الإيرانية المعادية لأمريكا وإسرائيل، وتصاعد أزمة الرهائن الأمريكيين.. أقامت أمريكا قواعدها في باكستان، وغضت النظر عن البرنامج النووي الباكستاني.
كذلك طوال فترة حرب أفغانستان، لم تقم القوات الأمريكية بمطاردة حركة طالبان وتنظيم القاعدة في المناطق الباكستانية الحدودية (منطقة القبائل، المحافظة الشمالية الغربية، وزيرستان الشمالية، وزيرستان الجنوبية، ومنطق بلوشستان) وهي تعلم تماما العلم أن هذه المناطق تمثل القواعد الرئيسية لحركة طالبان وتنظيم القاعدة، كذلك عارضت الولايات المتحدة قيام باكستان بشق حملات عسكرية على هذه المناطق.. وأيضاً فقد كانت القوات الأمريكية ومن بعدها قوات الناتو تقوم بالاكتفاء بقصف المناطق الجبلية بالطائرات، وتمتنع عن القيام بحملات لحرق وإتلاف مزارع الخشخاش والأفيون (المخدرات) من أفغانستان، وقد انكشف لاحقاً أن وكالة المخابرات الأمريكية وعملاء البنتاغون وجماعات المافيا الروسية الإسرائيلية كانت تقوم بالإشراف على إدارة شبكة عالمية لتجارة المخدرات تقوم بتزويد الأسواق العالمية بحوالى 90% من احيتاجاتها من المخدرات.
أمريكا تريد إعادة ترسيم المنطقة وفقاً لخطوط جديدة، وذلك على النحو الذي يؤدي لإضعاف كيانات المنطقة القوية، وتفكيك قدراتها النووية، وجعلها قاعدة لتصدر الصراعات والنزاعات إلى دول الجوار، وقد نجحت أمريكا في إقامة (دولة فاشلة) في أفغانستان، وقطعت شوطاً كبيراً في عملية بناء (دولة فاشلة) في كل من باكستان وقيرغيزستان وأوزبكستان، وعندما يكتمل عنقود هذه الدول الفاشلة، سوف تبدأ أمريكا بتصدير الصراعات والأزمات على النحو الآتي:
- غرب الصين: سوف تسعى أمريكا لاحقاً لدعم القاعدة وحركة طالبان من أجل إشعال صراع قوميات الايغور الموجودة في إقليم شينكيانج ضد الحكومة المركزية الصينية، وذلك بالانطلاق من المناطق الجبلية الأفغانية، وجنوب شرق كازاخستان، حيث تتمركز الآن حوالى 5 حركات مسلحة ايغورية إسلامية سنية صينية، تتلقى الدعم من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
- شمال الهند: سوف تسعى أمريكا لفصل شمال الهند الإسلامي السني، وشمال شرق الهند الهندوسي المتعصب (إقليم البنجاب الذي تقطنه جماعات السيخ) والذي تسعى الحركات الهندوسية الأصولية فيه الى الانفصال عن الهند وإقامة دولة هندوسية مقدسة.
- باكستان: سوف تسعى أمريكا لإشعال حرب أهلية بين سكان المناطق الحدودية ضد القوات الهندية، ولما كان سكان هذه المناطق من قبائل الباشتون الإسلامية السنية المتعصبة المؤيدة لحركة طالبان وتنظيم القاعدة فإن فكرة الإدارة الأمريكية هي إقامة دولة تكون بمثابة محمية باشتونية أصولية إسلامية متعصبة، تسيطر على جنوب أفغانستان، ومناطق القبائل الباكستانية تمهيداً لاستغلال هذه (المحمية الأصولية) في الصراعات القادمة في منطقة وسط وجنوب آسيا، ثم التخلص منها لاحقاً بعد أداء المهمة، تماماً مثلما حدث مع جماعة فتح الإسلام في مخيم نهر البارد اللبنانية.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد