ثأر الأفاعي بالعربية
لاشك أن ما استقر في المدونات النقدية يحيل إلى أن الرواية هي (بنت المدينة) وملحمتها الأثيرة,المدينة كفضاء ملتبس,غاو ومغوي,وعلى ذلك أضحت الرواية شاهدة التحولات الكبرى,لاسيما (الوجودية)وصورة عن اتجاهاتها ليس بالمعنى الطبقي فحسب,وإنما بشيوع ما سمي بالمركز والأطراف والهوامش وسوى ذلك.
وقد استأثر النقد بقضايا عديدة منها(الراوي والمدينة)بحثا في التيمات التي ينفرد بها السرد ودوائره ومرجعياته وسيرورة وحداته,حيث لا يمكننا الادعاء هنا أن رواية -المدينة-قد استنفدت جملتها السردية,نظريا وعلى الأقل لجهة أن الروائيين(يشيدون مدنا متخيلة)أو يتماهون مع مدنهم الواقعية ولكن بحدود الفن واستثمار التقانات السردية بطرائق مختلفة,وبالمقابل نهضت اتجاهات(ترييف السرد)لتضع القرية,بل الريف في الغالب الأعم كمعطى,سبرا لسمات الأدب الشعبي ومقاربة للعوالم الروائية التي نهضت بتعييناتها الواقعية وما بعد الواقعية,فنية وموضوعية فكانت لدينا روايات شهيرة كزينب لهيكل بعنوانها زينب:مناظر وأخلاق ريفية,احدى العلامات في ذلك الاتجاه,التي تعاقبت فيه روايات مثل موسم الهجرة الى الشمال للطيب صالح,وغيرها كثير الرغيف لتوفيق يوسف عواد,ومجمل منجز محمود تيمور...
كرست الواقعية كمدرسة أدبية,تهتم بالوسط الاجتماعي إذ يشير نقاد أنه ليس من مصادفة في أن تنتشر الواقعية في كتابات الروائىين الذين ولدوا في الريف وعانوا حياته عن كثب,تماما كالروائي التركي فقير بايقورت الذي وضع روايته ثأر الأفاعي في الخمسينيات,وتوالت طبعاتها في تركيا إلى أن وصلتنا بطبعتها الجديدة وبترجمة صافية(لم تقطع أوصال)جملة بايقورت السردية الطويلة,بطرافتها وعفويتها وبصدقها(الفني)وانكشاف متونها وشواغلها,وجمالياتها القائمة على الاتجاه الرومانسي الواقعي,فضلا عن مستوياتها الصوتية والإيقاعية والنحوية,ومشاكستها الصادمة والمتوترة في نثرها البسيط (المكتوب بلغة أو لهجة محلية)حسب المترجم الأستاذ عبد القادر عبد اللي,تكمن فضيلة بايقورت في أنه نقل ثقل الرواية للريف وحكاياته التي تتجمع شواردها لتصوغ قدر رجل اسمه(قره بيرم)وزوجه (خدوج)وابنه(البطل)الصغير(أحمد)وجدته(أراظجة)في مقابل (هاجلي)وزوجه (فاطمة),هاجلي أحد أعضاء اللجنة الاختيارية الذي يريد أن يبتني بيتا أمام بيت (بيرم),بمساندة (حسنو)مختار (قره طاش)القرية مسرح الحكاية/الصراع,بمحفزات إضافية,أفاعي (غور أولوق)وملكتهم(شاهمران)وإذا كان بايقورت يبني حكايته مؤسسة على حادثة أقرب إلى الإشاعة التي يتندر بها (الرقيب عمر)وحتى أمه,هي قتل الجد لأفعى الشاهمران في غابة صنوبر (غور أولوق) أهذه هي عديمة الشرف التي ترجف قلوب الناس وسحب بلطته لم يخفه طولها أو ثخنها الذي بثخن خصر الجسم,لم يهمه رأس الأفعى قطعها قطعا ص,46فإن الروائي يذهب ليبرر ثأر أفاعي (غور أولوق)المتبقية,والمتكاثرة عنادا والمهاجمة مرة كل ثلاث سنوات ,وفي موازاة ذلك كله يبرع في تصوير الصراع على الأرض والتمثال واستقبال القائم مقام,والبحث عن الماء!وبالذات ما يدور منه في المواجهة الحاسمة ما بين قره بيرم وباهلي وإسقاط خدوج لحملها,تصوير يتوازى فيه ثأر الأفاعي وأحقاد(هاجلي)المجنون!العضو الجديد في اللجنة الاختيارية لقرية (قره طاش).
أسماء وصفات:محمد الرأس الحجري,حسين البقال,خليل المهزلة,حسن الملاك,اسماعيل التيوس,عبد الله الشفة المشرومة,منجل,يركبها الروائي ليبني مفارقات ساخرة,بل يطرح رؤى العذاب والقلق والقهر,يمزج السخرية بالألم ويقرب منطوق الشخصيات الى الشفاهي والمحكي اليومي,ولكن بطريقة تسمح بتذوق القارئ لروائح الريف وألوانه الماتعة,وتنقله في الأجزاء السردية ذات العناوين التي تردم الجمل الناقصة,سواء ما تعلق منها بأسماء الشخصيات الثانوية أو الرئيسية,مصطفى التعبان,فاطمة القديمة,خدوج, الكنة المصفرة,أو بجمل تفيد متن السرد,كثافة وإيحاء:ضوء طويل ,عرض حال,غيمة سوداء,مجيء أعمى,دون أن يرى أحد,جمعة قديمة.الخ.....
وتسمح طريقة الحوار وبناء الأصوات في انكشاف أبعاد الشخصيات,الرغائب,الانتقام,الحب,القلق,السذاجة المفرطة,التخائب المقصود,ما يعني أن مجاز الحكاية ما بين الواقع والحلم,سيقربنا من تيمات الرواية الأشد وضوحا,الظلم,الحلم,العسف ,الغنى,الفقر,ثنائيات حملها أدب الريف,وفي ثأر الأفاعي حيث (إصبع إراظجة)يمتد نحو عين بيرم,أراظجة التي تصرخ:(الأفاعي تأخذ ثأرها, الأفاعي التي هي أفاع لم تحتمل تصرفات السافلين مثلكم,كيف تحتملون كل هذه الحقارة,وهذا الظلم,وهذا الذل رغم كونكم أناسا,هيه ياقره بيرم .
بالطبع فإن هذه الإشارات لا تختزل الرواية التي كتبت بضمائر شخصيات خيالية شعبية وبإيقاع مسرحي,سينمائي يجد دلالته في تشكيل الصورة الكلية للشخصيات في وضوح الحكاية(إن أمة الأفاعي تتجول زوجين زوجين.منذ ذلك اليوم تمكنا من كثير من الأفاعي,أزواج وغير أزواج,ألن نتمكن من مختار وهاجلي).
ثأر الأفاعي بسياقها ورؤيتها تحيلنا لما تبعها أو سبقها مما وضعه أورهان باموق,وعزيز نيسين,وكمال يشار وسواهم,إذن فما الذي يجمع(ثأر الأفاعي)لسمفونية الرعاة,رائعة أندريه جيد,وهل ثمة مشترك بين الرواية وفيلم الحياة المعجزة بدراميته الكوميدية?!
هي محض جماليات لاتهب متعتها للمتلقي مجانية!ربما وقف وراء ذلك كله ما سمي بالأدب الشعبي,الذي واجه الإيطالي امبرتوايكو(فقدان الذاكرة)روائيا به!
المؤلف:فقير بايقورت
الكتاب:ثأر الأفاعي / رواية
المترجم:عبد القادر عبد اللي
الناشر:دار المدى - 2006
أحمد علي هلال
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد