أدونيس: كتابتان: واحدةٌَ تَسْتَعْمِر، وأخرى تَسْتَنْفِر
- 1 –
بين 26 تشرين الأول (اكتوبر) و10 تشرين الثاني (نوفمبر)، تَيسّر لي أن أرى ثلاثة أماكن تمثّل، بالنسبة إليّ، ثلاث رؤىً للإنسان والعالم، وثلاثة نماذج لصناعة التاريخ.
الأول هو البندقية (فينيسيا، إيطاليا).
الثاني هو المعبد البوذي، بورو بودور (BORO BUDUR)، في مدينة جوجاكارتا (أندونيسيا).
الثالث هو برج دبي (دبي، الإمارات العربية المتحدة).
*
يسير النموذج الأول في أفق الوحدة بين الأبديّ والزائل، وهو الأفق الكلاسيكي السائد،
ويسير النموذج الثاني في أفق السماء محضونةً بِكَبِد الأرض،
ويسير النموذج الثالث في أفُق التقنية.
- 2 –
I – إشارات من البندقية
(احتفاء بصداقة موريسيو سكابّارّو)
تقيم البندقية في الكتب.
بينها في المقام الأوّل تلك التي شارك العرب في كتابتها، أو كان لهم حضورٌ فيها، بشكل أو آخر، قليلاً أو كثيراً.
تشكل هذه الكتب بحراً لغوياً تبدو فيه البندقية كأنها هي نفسها لم تعد إلا لغة:
مخيّلة وذاكرة أكثر ممّا هي واقع،
وأسطورة أكثر ممّا هي حقيقة،
واستيهامٌ أكثر ممّا هي تجربة.
في الكتابة عنها، تجِد أنّك أمام أَمْرين:
إماّ أن تراها في المسار الذي رسمته لغة السابقين، وعندئذٍ لا تراها، كما هي في حركتها اليومية،
وإماّ أن تراها في حركتها اليومية، وفي سريرها المائيّ الأسود، وعندئذٍ قد لا يراكَ أحد.
*
الصَّرْحُ الأكثر فرادة فيها هو كنيسة سان – ماركو.
تبدو هذه الكنيسة، على الرغم من واقعيتها الجمالية الباذخة، كأنها استحضارٌ باذخٌ للذاكرة الدينية – الجمالية.
لم أسمع أسئلة بين جدرانها، أو في ساحتها. ربما، لأن الجوابَ نومٌ،
والسؤال يقظة، قلتُ في نفسي لنفسي.
*
من أين للنور في هذه الكنيسة، هذا الظل؟ مِن أين لهذا الظلّ تلك الأوركسترا التي تقودُها أنوثةٌ اسمُها الشهوة؟
*
عادةً، لا نرى رَقْصاً إلاّ في المادة وبها.
في هذه الكنيسة، رأيت رقصاً بلا جسم – للضوء، حيناً، وللحلُم، حيناً.
*
هل على الكتابة، هنا، أن «تستعمر»،
أم أن عليها أن «تَسْتَنْفِر»؟
*
كُلّ يوم، تُولَد البندقية في سرير ماء أسود.
II – إشارات من «بورو بودور»
(احتفاءً بالأصدقاء في أندونيسيا، خصوصاً الشاعر غوناوان محمد)
*
هل أفكارنا ظِلالٌ لمشاعرنا، أم أنّها على العكس شموسٌ لها؟ وما تكون الكلمات، إذاً؟ أهي ظِلالٌ لهذه الظلال، أم شموسٌ لتلك الشموس؟
*
هل «السرُّ» في «بورو بودور» هو الذي يعيش على هامش السماء، أم السماء هي التي تعيش على هامش السر؟
*
تحزن، إن خابَتْ رغبتك،
الخيبة اسمٌ آخر لرغبة دفينة دائمة الولادة.
لا تَلْجُمْ، إذاً، فَرسَ الشوق،
لئلاّ تخسر مُهْرَ الرغبة.
*
لا يجد العاشق نفسه حقاً إلا في من يَعشقه. وتلك هي الصورة العليا لرؤية الذات.
العشق يولّد في الإنسان الوعيَ بأنّه موجود.
*
العشق عُرْيٌ:
أين تكمن، إذاً، هويّة الجسد؟ أهي في «كسائهِ»؟ طبعاً، لا. فهذا «يتبدّل»، و «يُرْمى»، وهو ليس من «طبيعة» الجسد، وإنما هو «إضافةٌ» من خارج. ولا يغير في الأمر شيئاً كون الكساء «زينة». فالزينة هي كذلك «إضافة».
تكمن هوية الجسد في «عُرْيه». ومع أن العُرْيَ «سطْحٌ»، فإنَه يمثل من الجسد «جوهره».
*
العُرْي «سطح»، لكنه ليس مجرّد سطح مرئي. المرئيُّ في العُري هو، في الوقت نفسه، غير مرئي. العُري كل شيءٍ – إذا حُجِبَ، حُجِبَ الجوهر، وحُجبت المعرفة.
*
بالعُرْيِ وفيه، نرى المحسوس، المُشتهى، تعبيراً عن الرغبة في الكشف عن عُمق الأشياء ومعناها. وفيما تقف عينُ البصر عند «سطح» العري، فإن عين البصيرة تخترقه الى ما وراءه. للعُري ما ورائية، مع أنه يتحرك في أفق الحسّ، وينتمي الى عالم الحساسية.
غير أن الماورائية هنا إنما هي عُريٌ آخر أعلى، أو هي عُرْيٌ العُري. ولئن كانت عين البصر ترى في سطح العُري أقصى ما تصلُ إليه، فإن عين البصيرة تذهب الى ما وراءه، مُؤكدة أن الإنسان لا يَنْحدُّ في ما يراه.
*
العُري صورة الفكر الخلاّق. العُري مُنْتَهٍ يكمن فيه اللامُنتهي. العُري فاتحة الغيب. اتجاهٌ نحو المجهول.
هكذا يتعذّر على العاشق أن يرى جسد المرأة التي يُحبها بنظرة واحدة: لكل نقطة في جسدها حاجة خاصة لنظرة خاصة. ما تريده الشفتان، ينتظر النهدان غيره. وما يحن له الصدر، يحن الظهر الى سواه. وبين السرة والعنق غيرة تُشعل حرب النظر في عيني العاشق.
*
في العُري تكمن الخصوصية الحميمة للمغامرة: فنياً، وفكرياً. وهو، منذ اليونان، امتداداً الى أوروبا، حاضر في النحت والرسم. ما الدلالة في أننا لا نرى عُرياً في الفن عند العرب، وعند الصينيين كذلك؟ هل لأنهم لا يُحبّون أن يذهبوا عميقاً الى الجوهر؟
الماءُ عُريٌ. النار عُريٌ. الهواء عُريٌ.
*
في نحت الجسم الإنساني ورسمه الى ما لا نهاية دلالة عالية هي أن جسم الإنسان، وحده، يُوصَف بأنه عارٍ، وبأن العُريَ ماهيته، خلافاً لأجسام الكائنات كلها.
كل عُري، في هذا الأفُق الذي يؤسِّس له عُري الجسم الإنساني، إنما هو عُريٌ ميتافيزيقي. الدخول فيه، دخول الى الكائن في جوهره الحميم. وليس لأن اللذة تجيء من الكشف عن أكثر الأشياء اختباء، بل لأن في ذلك عناقاً مع كُنْه الوجود. وبما أن الجسم الإنساني هو وحده قابلٌ للعري، فإنه هو، وحده، «مَحَلُّ» الوجود، حيث يُعاش الكائن، ويُكتشف، ويُعرف.
سعي الإنسان الى العُري ليس سعياً لإنتاج المتعة واللذة، خلافاً للمبتذَل الشائع، وإنما هو لإنتاج الجمال. الجمال هو الآخر عُريٌ – بوصفه ظهوراً وتجسُّداً. فالجميلُ هو الأكثر ظهوراً في قلب المحسوس. الجميلُ هو المرئي بامتياز في قلب المرئي. وقوته هي في أنه يُظهِر الوجود ويجعله محسوساً. وتلك هي هوية العُري.
III – إشارات من برج دبي
(احتفاءً بصداقة سيف المرّي)
*
الكلامُ إن لم يكن تعرية،
لا يكونُ إلاّ حجاباً.
*
قلت: الغروب نَدَمُ الشروق،
والليل بكاءُ النهار.
كان المعرّي يُصغي إليّ، ورأيته يتململ غاضباً. غير أنه سُرعان ما استدرك مُربّتاً على كتفيّ، قائلاً:
أحبّ من يسبقني الى قول
ما كنتُ أودّ أن أقوله.
*
تحارُ أمام برج دبي:
هل الشعر هو الذي يأخذ أسراره من التقنية،
أم أنّ التقنية هي التي تأخذ أسرارها من الشعر؟
*
العودة الى الطفولة حلمٌ دائمٌ وعزيزٌ عند معظم البشر.
هنا، في برج دبي، ما يُغري بالتأسيس لقطيعة كاملة بيننا وبين هذا الحلم.
ما معنى، إذاً، أن نقول: الهوية ليست في «الأصل»، بل في مسيرته، وما يتولّد عنها؟
وإذا كنّا لم نجئ من ماضٍ، فكيف وصلنا إذاً الى الحاضر، ومن أين جئنا؟
أليس علينا إذاً أن نؤمن بأن الإنسان يحتاج الى ولادات متعددة ومتواصلة لكي يكون نفسه؟
أليس علينا كذلك، إن شئنا أن نقرأ حقاً، أن نبدأ فنُقصي عنّا، بعناية وإتقان، عدداً كبيراً من الكُتب؟
*
ليس هناك حظٌّ يهبطُ عليك من خارج: من الواقع، أو من الغيب.
أنت نفسك حظُّ نفسك.
*
IV – خاتمة لي وحدي
*
لا تقولوا: تنبَّأ.
لن أساويَ بين الرأس والسجن.
وانظروا الى الصحراء كيف تقود أوركسترا الموج.
حقاً، لبرج دبي لغةٌ تعرف كيف تحاور الفضاء وما بعده.
*
الوطن هو ما يكون متعدداً تعدد الأمكنة التي نفكّر فيها بحرية، ونعمل بحرية، ونتنقل بحرية.
إذاً، هل على الكتابة أن «تستعمر»، أم أن عليها أن تَسْتَنْفِر؟
*
لم أفعل شيئاً:
كنتُ في كل ما كتبت، أشقُّ طريق حريتي.
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد