«باب الحارة» باعتباره «خصوصيتنا الثقافية» في تكنولوجيا الاتصالات
مستهلكو الشرق الأوسط على موعد مع خلوي جديد.
يسوّق نفسه كراديو و«ووكمان» وذاكرة للموسيقى والفيديو بقدر ما يقدّم نفسه كهاتف، وربما تفوق «الميديا» فيه، وظيفته الأصلية.
مميزاته ابنة الصناعة الترفيهية، والإنترنت، والكومبيوتر الذي يعِدُ موقع الشركة المصنّعة بأنه سيحفظ تواصل مُنتَجه معه، خصوصاً بالوصلة والبرمجة الداعمة التي تتيح نقل المواد السمعية -البصرية منه وإليه. لعل المميزات هذه أقرب إلى ما يبحث عنه الشباب في جوّال 2009: كاميرا 8,1 ميغا بيكسل، مشغّل موسيقى و«ووكمان»، سماعات خارجية ستريو، ثلاثة أزرار للتحكم بالموسيقى على الجانب الأيسر، ذاكرة بحجم 8 جيجا بايت، ناهيك بخرائط «غوغل» ونظام «جي بي إس» (لتحديد المواقع الجغرافية) وتطبيق «واي فايندر نافيجاتور»، بل ودعمه لألعاب بلاي ستايشن... إنها الوسائط الإعلامية، والتخاطب مع الأقمار الاصطناعية. الترفيه بأصواته وصوره، بأغنياته و«كليباته» وألعابه.
هذا ليس إعلاناً.
الإعلان الذي ارتأت الشركة الأم توليفه، لتعطي الخلوي الجديد دفعة ترويجية في أسواقنا، يشتغل على إغراء الشاري المنشود بأنه إن طلب منتجها الآن، فسيحصل عليه محمّلاً بجميع حلقات الجزء الثالث من مسلسل «باب الحارة»، إضافة إلى لقطات حصرية من كواليس الجزء الرابع الذي ستعرضه الشاشات العربية خلال شهر رمضان! ويوغل العرض السخي في تطبيق مقولة «نحن كرماء وأنتم تستأهلون»، فيضيف إلى ذاكرة الهاتف صوراً ونغمات تحمل طابع المسلسل، ويغلّف الحمولة «الحاراتية» بعلبة أنيقة طبعت عليها صور الأبطال بحلّتهم الدرامية التي عرفهم بها جمهور التلفزيون العربي.
لا شك في أنهم «كرماء».. لكن هل نستأهل نحن مثل هذه الرزمة التي تولّف بين خيال رجعي، هو فكرة أصحاب «باب الحارة» عن ماضينا، وبين الخيال المعاصر؟ الخيال الذي طوّر الهواتف الخلوية، من لوحة أرقام يضرب عليها المستخدم رقم شخص يود محادثته، إلى شاشة تلفزيون وسينما، و«ستيريو» لموسيقى «البوب»، وعدسة فيديو وفوتوغرافيا، وقناة تبادلية عبر «البلوتوث». بل وجعل منه كومبيوتر صغيراً، ومنفَذاً على الإنترنت، ومساحة افتراضية للّعب والرقمية وتبادل الرسائل بشتى «اللغات» (والثقافة) التي اختُرعت به ومن أجله... من الأحرف والأرقام الأجنبية المقروءة بالعربية، وصولاً إلى تقنيات الاختزال المتفاهم عليها عفوياً بين المستخدمين، ووجوه «إيموتيكون» التي تجسّد «أحاسيس» النصوص القصيرة.
كتب وقيل الكثير عن أن التكنولوجيا والتطور المستمر لثورة المعلوماتية والاتصالات، ولو كانت من سمات الحداثة وما بعدها، لا تساهم بالضرورة في تقدّم المجتمعات. والدليل أن الحركات السلفية، مثلاً، تنشط أكثر ما تنشط على الإنترنت. تجنّد «القاعدة» عناصر لها عبر عشرات وربما مئات المواقع على الشبكة الدولية. ويعبّر كثيرون، عبر مواقع التشبيك الاجتماعي (فايسبوك، وماي سبايس، وغيرها) عن أفكار عنصرية وشوفينية يعود بعضها عقوداً أو حتى قروناً إلى الوراء. وتتمكن سلطة الدين (وبعضه مسيّس) من عقول الناس بواسطة البرامج، بل القنوات، الدينية التي تتوالد بسرعة قياسية على الفضاء التلفزيوني.
بالطبع لا تعميم هنا. ولنا في الحالتين المصرية والإيرانية مثالان ساطعان على الكوّة التي بوسع دمقرطة الاتصالات فتحها في جدران التعتيم الإعلامي والهيمنة السياسية. لكن المسألة الأساسية في الخطة التسويقية للخلوي الجديد تعيد التذكير بوجوب استمرار التأمل في النهضة المعلوماتية والاتصالاتية في مجتمعاتنا، أو بالأحرى في معاني استيرادها وإخضاع استخداماتها لبنية اجتماعية وثقافية ما زالت خلف النهضة هذه، ليس فقط بمعنى رؤية المستهلك العربي لتقنياتها، بل، والأهــــم، بمعنى رؤية المــــصنّع للمستهلك هذا استناداً إلى ما ينشدّ إليه ويستمرئه.
فلنستذكر بعض المحطات المضيئة في «باب الحارة»: «أم عصام» التي تتجرأ على التلفظ بـ«فشرت» في حضرة «أبو عصام»، فتدعو على نفسها فوراً بقطع اللسان، قبل أن تنال العقاب الذي تستحقه وهو الطلاق. «أم حاتم» التي لا تنجب لأبي حاتم سوى البنات وتعيش بحسرتها. «العقيد» أبو شهاب الذي تبذل شقيقته كل جهدها لتقنعه بالزواج ثانية بعد وفاة زوجته الأولى بأن «لازم يكون عندك امرأة تدير بالها عليك وتفتل حواليك»، ناهيك بالأبوية والذكورية المستفحلة، كما في تسلّط الآباء على بناتهم وأبنائهم الذين غالباً ما يَشقَون في مهنهم وعواطفهم وزيجاتهم وإنجابهم لأن أَيمانهم لا تملك القرارات المصيرية لحيواتهم. ولا ننسى العنف والنزق اللذين تبررهما نخوة «القبضاي» و«الزكرت»، أي باختصار.. «الرّجّال»! أما عصبية الـ «نحن» إزاء الـ «هم»، فتتعدى القوالب الجاهزة، والمبتذلة الآن في غالبية مسلسلات المرحلة، باستحضار الوطنية البسيطة في وجه الاستعمار (وهي بالمناسبة تزيّن، بالإسقاط غيرالمباشر، الأنظمة العربية الراهنة المتلطية بشعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وبقوانين الطوارئ المتصدية لـ «الخطرالدائم»، كيما تغطّي ظلمها الفرد العربي في أبسط حقوقه الإنسانية والمواطنية). تتعدى العصبية، تلك القوالب، لتغذّي الانتماء البدائي إلى الجماعة، كما في أحداث الكرّ والفرّ بين حارتي «الضبع» و«أبو النار».
قد يقول قائل إن «باب الحارة» يقدّم الحارة الدمشقية القديمة كما كانت، ولا يسعى إلى ترويج القيم أعلاه. يخرج زعم بأن هذا هو التاريخ. لكن كتب التاريخ والشواهد الحيّة تحكي المرحلة الزمنية ذاتها، في بلادنا، وتدل إلى حركة تنويرية وثقافية وسياسية أوسع مدى، وأرحب. في حين ان الدراما الرمضانية تستعيد التاريخ على ذوق ماضوي إكزوتيكي... ولعلنا نقول: ظلامي. وحتى لو كان هذا هو التاريخ، فإن «باب الحارة» ـ وغيره من المسلسلات ـ يحييه على أنه الزمن الجميل، المفتقد، الذي يجب أن نحنّ إليه... من دون أي نقاش أو نقد. هذا إذا وضعنا جانباً الميل السائد، عموماً، إلى الانكفاء في طيات الأمس، بدلا من فهم اليوم ونقاش الغد.
والحال ان الشركة العالمية التقطت حساسياتنا القديمة - الجديدة تلك، وقررت أن تبيعنا إياها، بعد أن تعيد إنتاجها في مظهر من مظاهر العولمة يسعى إلى أخذ «الخصوصية الثقافية» في الاعتبار، ولو تجارياً.
ويل لنا إن كان الحق كاملاً معها!
رشا الأطرش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد