المسرح يصنعه الهواة
اختارت فرقة «باب» السورية مسرحيةً من غانا لهنري أوفوري بعنوان «الجمعية الأدبية» لتكون باكورة أعمالها. وفي الاختيار الأول للفرقة نزعة متجددة إلى استنبات مسرح، وافد من مكان آخر هذه المرة، من غانا، حيث هموم مشابهة، ربما، من مناخ عالمثالثي موبوء بغياب الحوار. إنها محاولة استنبات بالفعل، إذ يصعب أن يصدق المرء أن النص المكتوب بعامية سورية مفرطة آت من مكان آخر، ولو أن المناخ المحيط، بيئة الشخصيات والحوار تكاد تخلو من إشارات صريحة ودقيقة إلى مكان وزمان واضحين، رغم أن الإشارة هنا يمكن أن تعطي دفقاً هائلاً وغنى لنص مكتوب في الأساس في خمسينيات القرن الماضي. وعلى ذلك فإن الإعداد (أجراه عبد الله الكفري)، ورغم إتقانه اللافت، لم يكن جريئاً كفاية في مقاربة يومياتٍ سوريّة مثيرة للجدل، أو على الأقل للضحك.
العرض هو عبارة عن اجتماع لجمعية أدبية، لا تزيد مدته عن الساعة، ولذلك فإن زمن العرض هو زمن الحدث الذي هو مجرد اجتماع. فلا أحداث تجري على الخشبة، لا وجود إلا لطاولة تتحلق حولها كراسي لستة مجتمعين، سيبدأون بدورهم بقراءة محضر اجتماع سابق، قبل أن ينطلقوا إلى نقاش بنود أخرى. والحكاية كلها هنا، إذ تدور هذه المناقشات حول أشياء قيلت وتقال الآن. هي المفارقة بين اجتماع معدّ من أجل النقاش والحوار، في الوقت الذي يجد الجميع أنفسهم يشوشون ويثيرون الضجيج بالحديث عن ما لا قيمة له. إنه وقت للمشاجرات وللضحك، ليس فقط ضحك المتفرجين بل ضحك المجتمعين الذين يتناوبون في تحويل بعضهم البعض الآخر إلى مثار للضحك. ثم ينفض اللقاء، كما العرض، من غير أن يفضي إلى نتيجة.
ست شخصيات تغرق في نقاش تفاهة قيلت في الماضي، أو تقال الآن، تبدد الوقت في نقاش الفارق بين ملامح الصينيين واليابانيين، الأمر الذي يمكن أن يحدث معركة حامية بين زملاء الجمعية الأدبية، الذين يطيلون النقاش في كل بند قبل الانتقل إلى غيره من معضلات؛ كيف اكتشف الصينيون أن لحم الخنزير صالح للأكل، ضرورة إشراك النساء في عضوية الجمعية الأدبية، آذن الجمعية الذي لم يتلق مرتباته خلال ثلاثة أشهر، تنافر الألوان في الملابس الذي قد يؤدي إلى انفصام الشخصية...
مقطوعة للضحك
وفي النهاية ما من موضوع يكتمل نقاشه، إنها أشياء للثرثرة وحسب. لكن الاجتماع/ العرض هو مقطوعة للضحك، أولاً في تصوير المستوى الضحل الذي بلغه أعضاء الجمعية الأدبية أولئك، ومن ثم فإن الممثلين قدموا أنفسهم كل في شخصية هزلية، اعتماداً على لوازم لفظية وجسدية، وعلى هزل في الملابس أو الماكياج، معظمهم اعتمد طريقة خاصة في الضحك كلازمة للشخصية، والبعض اعتمد اللعب بالألفاظ، أو سوء الفهم. لكن معظم الضحك أتى من التكرار، لصوت أو ضحكة أو مشاجرة أو إهانة. لكن رغم الإيقاع المضبوط والرشيق لحركة الممثلين (الإخراج لرأفت الزاقوت)، فإن المرء يجد نقصاً فادحاً في اشتغال كل ممثل على نمط واضح وخاص به، لذلك راحوا يكررون، بعضهم لوازم البعض الآخر. إن بالإمكان العمل على نمط ما من دون أن يسيء الممثل للنص أو يخرج عنه. الأهم من ذلك أن النص يعطي حيزاً كبيراً لارتجال الممثل الذي ينبغي أن ينهل من حياته ومشاهداته اليومية. ذلك لا يعني أن الممثلين لم يبذلوا جهداً جميلاً يستحق التحية (أحمد ملص، حسام جليلاتي، حسام سكاف، رازميك ديراريان، محمد ملص، وئام اسماعيل)، خصوصاً أنهم كلهم من الهواة لا المحترفين، الأمر الذي يؤكد فعلاً بأن المسرح يصنعه الهواة.
ربما وجد البعض في إسفاف الحوار، وبذاءته أحياناً، نوعاً من التهريج، لكن ذلك يقع حقاً في قلب معنى تلك الملهاة، ولعل ذلك يذكر بمسرح الإيطالي داريو فو الذي يحتفل في مسرحه الشعبي بالبذاءة واللفظة والفعل الشارعي. و«الجمعية الأدبية» لم يكن بعيداً عن ذلك، إلى حدّ أنه استخدم إيماءات جنسية صريحة أضحكت المتفرجين طويلاً.
شخصيات «الجمعية الأدبية» تمتلئ بالحاجة إلى كل هذا الصخب والعنف والثرثرة والضحك، ربما لأنها تعيش، كما يصورها العرض، في تلك الناحية البعيدة والنائية، صورة، أرادها المؤلف، لمثقفي المناطق النائية الذين يأتون كل من ناحية بسبب ظروف العيش والعمل، ويجتمعون في قلب تلك الكرة الهائلة من الفراغ والملل وقلة الحياة.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد