من يصنع التعصب الرياضي... الجمهور أم الإعلام؟!
سألت أحد المعلقين الرياضيين العرب ذات مرة، وكنت اعد فيلماً وثائقياً عن حياته الحافلة، إن كان التعليق الرياضي قد يسيء لمفهوم الروح الرياضية التي يجب أن تسود في الملاعب، ويسهم في شحن الجمهور بالتعصب والكراهية... فاعتبر المعلق سؤالي أشبه بوضع الجرح على الملح في هذه المهنة... فكثير من المعلقين الرياضيين كانوا يسهمون أثناء أداء عملهم في مثل هذه الآثام من حيث يدرون أو لا يدرون، تاركين العنان لمشاعرهم وانتماءاتهم الضيقة، كي تطل من بين هدير الكلمات، أو شيفرات التعبيرات والإيماءات الساخرة من الخصم!
تأملت هذه الفكرة، وأنا أتابع عبر القنوات الفضائية ما يجري اليوم بين وسائل الإعلام المصرية والجزائرية، بسبب معركة التأهل إلى مونديال 2010 في جنوب أفريقيا، والتي سيتنازع عليها الفريقان العربيان في مباراة حاسمة في القاهرة بعد أقل من شهر من الآن... سيكون فيها على الفريق المصري أن يفوز على ضيفه بهدفين نظيفين، او بأربعة أهداف مقابل واحد كي يتأهل، فيما سيواجه الفريق الجزائري مشكلة أنه يلعب في أرض (خصمه) الرياضي، لا في أرض محايدة على الأقل!
وبسبب هذه المعطيات، تحولت المباراة المرتقبة إلى معركة كسر عظم بكل ما في الكلمة من معنى... ليس على صعيد الاستعدادات والتدريبات، وهذا أمر مشروع بالطبع، بل على صعيد الجمهور وتقاليد التشجيع من جهة، ووسائل الإعلام وما تبثه المحطات التلفزيونية من جهة أخرى، الأمر الذي تسبب بأزمة مسبقة الصنع، لم تكن لتخفي نفسها منذ أعلن فوز الجزائر على رواندا بثلاثة أهداف مقابل واحد، الأمر الذي وضعها في مواجهة الشقيقة مصر، وجعل مهمة هذه الأخيرة عسيرة بعض الشيء!
وفي ظل هذه الأجواء المشحونة، صدرت الكثير من المواقف الإعلامية التي يرقى بعضها إلى مرتبة الإهانة والسخرية، ورفعت قضايا ضد إعلاميين مصريين اتهموا بالسخرية والإساءة للجزائر ومنتخبها... وتطورت المعركة إلى ساحات شبكة الانترنت، ودخل 'الهاكرز' على الخط ليهاجموا مواقع مصرية، ويعطلوا مواقع جزائرية في عملية فعل ورد فعل متبادلين.
وفي المباراة النهائية لكأس العالم للشباب، التي جمعت البرازيل وغانا في القاهرة... وانتهت بفوز غانا بالكأس، كانت المباراة مسرحاً لهتافات وشعارات محورها اللقاء المرتقب بين مصر والجزائر، حيث جادت قريحة الجمهور المصري الخفيف الظل بالطبع في تأليف أهازيج ساخرة ولا تخلو من عنصرية وتفاخر ضد أشقائهم الجزائريين، كما نقلتها قناة 'العربية' التي كانت قد أجرت في إحدى نشراتها الإخبارية في وقت سابق تقريراً حول الأجواء المشحونة بين البلدين بسبب المباراة القادمة، ظهرت فيه نماذج من الشارعين المصري والجزائري، تقول بضرورة التحلي بالروح الرياضية واحترام قواعد المنافسة وأواصر الأخوة والقربى التي تجمع بين الشعبين العربيين، بل وترجو الإعلاميين في كلا البلدين ألا يصبوا الزيت على النار... وأن يكونوا (محضر خير) فلا يسهموا في تصعيد الأجواء التي لا تحتاج بالطبع لمن يزيدها تصاعداً وتوتراً!
والسؤال الذي يطرح نفسه، من الذي يزيد المعركة اشتعالاً: هل هو الجمهور الذي يسير ويتصرف وفق ما يعرف تجاوزاً بـ (غريزة القطيع)، أم الإعلام الذي يؤثر في هذا الجمهور، ويصدر له رسائل تستقطب مشاعره وتزيد من تحفزها، فتتحول المنافسة في النهاية إلى حالة تناحرية عدوانية، ومظاهر التشجيع وطقوسه إلى حالة شتائم سافرة تعلن التعصب وتستبطن الكراهية؟!
ترى هل قال الجمهور الذي ظهر في التقرير التلفزيوني كلاماً منمقاً يراعي بروتوكولات الظهور في وسائل الإعلام، فأوغل في المثالية والحديث عن روابط الأخوة كي يبدو مترفعاً، فيما المرجل يغلي بمشاعر أخرى، يعبر الإعلاميون عنها فيتهمون بأنهم هم من يصنعون الأزمات وحالات الاحتقان، فيما هم يترجمون ما هو موجود على أرض الواقع؟!
تساؤلات عدة تطرح نفسها عندما نتابع الوجه الإعلامي لهذه المعركة، وكيف تتجلى تفاصيلها الكبيرة والصغيرة في مرآة هذا الإعلام الذي كثيراً ما يفسح المجال للعاملين فيه كي يفصحوا عن ذواتهم على حساب موضوعية الرؤية، لكن بالمقابل ثمة حقيقة لا لبس فيها... وهي أن جزءاً كبيراً من شرائح الجمهور الرياضي العربي، لا تتحلى بالروح الرياضية، ولا تلتزم بضوابط المنافسة، ولعل آخر مثال على ذلك ما حدث في المباراة النهائية لكأس العالم للشباب في مصر بين البرازيل وغانا، حيث توافد على القاهرة آلاف من الجمهور العربي المشجع للبرازيل من دول عربية عديدة... وعندما هزمت البرازيل أمام غانا... تقبل الجمهور البرازيلي الحاضر في الملعب الأمر بروح رياضية شديدة الرقي، بينما عبرت الجماهير العربية عن سخطها وغضبها لخسارة البرازيل بأساليب غير لائقة، فيما علق أحد الإعلاميين الرياضيين على هذه الحالة بأمله بأن يتعلم العرب من البرازيليين هذا الرقي وتلك الأخلاق!!
لقد كان الجمهور العربي في مباراة البرازيل- غانا، ملكياً أكثر من الملك... وقد أعطانا درساً في التعصب للفريق الذي يحب... إلى درجة تجاوزت مشاعر البرازيليين أنفسهم... ومن الطبيعي في هذه الحال أن يتحول اللقاء المرتقب بين مصر والجزائر إلى بوادر أزمة بين البلدين، مادامت نتيجة المباراة ستحسم حلم التأهل للمونديال... ذلك أننا لم نتعلم بعد أن نكون أسمى من حسابات الفوز والخسارة، ولم نتعلم بعد أن نكون أكبر من الحساسيات القطرية الضيقة، ولم نتعلم أن نتحرر من المشاعر الشوفينية التي تعصف بأهواء شرائح كبيرة منا، فتجعلنا ننظر إلى أنفسنا باعتبارنا قبلة الإبداع والحضارة، وغيرنا هم الوافدون من خارج التاريخ!
أما الإعلام الرياضي فهو لا يفعل شيئاً في مثل هذه الحالات سوى أنه يترجم كل ما هو موجود على الشاشات وصفحات الجرائد والمجلات... إنه يعبر عن غريزة القطيع، لكن بأسلوبه الخاص... فبينما يقول الجمهور كل ما في قلبه بمباشرة ووضوح... فإن الإعلام يدعي الرصانة ويحاول أن يمرر أهدافه تسللاً... ويحاول أن ينفّس عن مشاعر جمهوره المحتقن بالمناورة والمداورة، كي يحفظ بعضاً من ماء وجهه لا أكثر... ومن المؤسف أن الإعلام الرياضي لا يفعل هذا مضطراً، بل كي يركب الموجة ويغازل مشاعر جمهوره... وبذلك يتحول إلى جزء من غريزة القطيع، بدل أن يكون ناظماً ومهذباً لها... إنه أشبه ما يكون ببرنامج (الاتجاه المعاكس) حيث بهلوانية السعي نحو الإثارة الفارغة والصراخ الزاعق، والبحث عنهما بالسراج والفتيلة كما يقال... على حساب الموضوعية وعمق مناقشة الموضوع والوصول إلى جوهر المشكلة!
(أيام الدم): تمجيد بطولات الأمن السعودي!
عرضت قناة 'العربية' مؤخراً، برنامجاً وثائقياً من إنتاجها بعنوان (أيام الدم) يروي قصة صعود وانهيار تنظيم القاعدة في السعودية على حد تعبيرها... ورغم أن البرنامج الذي بث على مدى ثلاثة أيام، وفي ثلاثة أجزاء... وبدعاية كثيفة وملحاحة، يتمتع بلغة فنية جيدة على صعيد الشكل... إلا أنه من حيث المضمون يبدو وكأنه من إنتاج وزارة الداخلية السعودية برعاية كريمة من سمو الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية... فهو لا يكل ولا يمل بين كل عبارة وأخرى أن يشيد بنجاح أجهزة الأمن السعودية ويقظتها وحدة ذكاء رجالها... وبتوجيهها الضربات القاصمة تلو الأخرى للتنظيم، وباعتبار أن العمل مشغول بصيغة المنتج المنفذ في مصر، فإن إخواننا المصريين قد أغدقوا عبارات الثناء والمجاملة على أجهزة الأمن السعودية - بطريقتهم- وبما يرضي المنتج الأساسي ومن وراءه... وإن أغضبت مجاملاتهم قيم الموضوعية والحياد!
لسنا ضد أن تترجم البرامج الوثائقية أحياناً، بعض المهمات الأمنية والسياسية لمنتجيها...ونحن ندرك بالطبع أن حرية الإعلام نسبية وتتفاوت في هذا المنبر أو ذاك تبعاً لحساسية الموضوع... وهذا ليس في الوطن العربي فقط، بل في العالم... لكن (أيام الدم) ورغم ادعاءات 'العربية' بأنه حقق أصداء واسعة عبر تقرير دعائي خاص بثته في إحدى نشرات الأخبار، بدا عملا ساذجاً، يفتقر إلى العمق في المعالجة والرؤية، وخصوصاً في توصيف فكر القاعدة المتشدد بلا شتائم أو انحياز... وكان من الإنصاف أن يعترف صناع (أيام الدم) أن الفكر الديني الذي كانت تتبناه السعودية هو في الأساس فكر متشدد وتكفيري، يطبق تشدده على عامة الشعب، لكنه يعفي الأمراء السعوديين من المحاسبة، ولذلك لم تشعر الدولة بوطأته إلا حين أنتج تنظيماً يحاربها... كذلك يعاني (أيام الدم) من غياب التوازن في عرض الوقائع، ربما لأنه أراد أن يوصل مقولاته بشكل فج ومباشر... ولو أنه فعل ذلك بهدوء وموضوعية لوصل إلى الهدف ذاته، ولأثر في مشاهديه بمصداقية أكبر من دون أن يتحول إلى فيلم دعائي لتمجيد بطولات الأمن السعودي الخارقة!
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد