صناعة الذهب هل تحولت إلى صناعة طاردة؟!
عاد المعدن الأصفر ليحتلَّ مركز الصدارة على الخارطة الاقتصادية، مقترباً من الحلم الذي يرافق أيّ شاب مقبل على الزواج، أو سيدة تريد تزيين أناملها وجيدها، وحتى رجل يريد تقديم هدية إلى صديقته... الحلم مازال حلماً في ظلّ الركود الملحوظ الذي تعيشه سورية، بعد الارتفاع الكبير في أسعار المجوهرات والمشغولات الذهبيّة؛ ما جعل السوريين يُحجمون عن الشراء ويكتفون بما هو ضروري، وللمناسبات فقط.
فقد وصلت أسعار الذهب مؤخراً إلى 1530 ل.س للغرام الواحد من عيار 21 قيراطاً، متأثرة بارتفاع سعر الأونصة في الأسواق العالمية، بعد أن تجاوزت الـ1000 دولار. وهو أعلى ارتفاع سجّلته منذ ثلاثة أشهر.
إياس مشارقة (صاحب إحدى الورش لتصنيع الذهب) دعا إلى إيقاظ الحكومة من سباتها وأن تتنبّه إلى الأزمة الحقيقية التي تحيط بصناعة الذهب في سورية، حيث عجز العديد من أصحاب الورش عن دفع مرتبات حرفييهم، نتيجة استمرار تحمّل مسلسل خسارتها في ظلّ إهمال هذه الصناعة الوطنية وعدم السماح باستيراد الذهب الخام وتصدير المشغولات المحلية، لافتاً إلى أنَّ «نحو 60 إلى 70 % من الورش أغلقت بسبب انخفاض حجم التداول».
فصناعة الذهب أصبحت إحدى الصناعات الطاردة للصياغ -وفقاً لجورج صارجي رئيس جمعية صياغ دمشق- حيث يضطر المهرة منهم إلى ترك هذه المهنة والسفر إلى الخارج، ولاسيما دول الخليج وأمريكا وأوروبا، نتيجة ما تعانيه هذه الصناعة من جمود في البلاد، إضافة إلى ما يتمتّع به الصياغ السوريون من خبرة تجعل الطلب عليهم عالياً في الأسواق الخارجية، مبيّناً أنَّ عدد الورش السورية لصياغة الذهب تقلّص إلى نحو 200 ورشة مقابل أكثر من 600 ورشة في الأعوام القليلة الماضية. فيما أضافت علا خوري (صائغة): «الورشات قلّت كثيراً. ورغم ذلك، ارتفعت أجرتها.. كما أنَّ الناس صاروا يخافون من شيء اسمه ذهب بسبب تقلّب أسعاره».
عزا بعض المحللين الارتفاع الكبير الحاصل في أسعار الذهب إلى التقرير الذي نشرته جريدة الإندبندنت البريطانية، والذي جاء فيه: «الدول الخليجية العربية تنوي فكّ تسعير النفط بالدولار والتحول إلى سلة العملات العالمية الأخرى ومن ضمنها الذهب، فيما نفى المسؤولون الخليجيون ما جاء في الإندبندنت البريطانية، بل أكدوا أنهم سيستمرون في استخدام الدولار بتسعير النفط».
من جهة أخرى، أكد محللون أنَّ ارتفاعات أخرى سيشهدها الذهب على مدى الأشهر الثلاثة إلى الستة المقبلة، وأنَّ الناس على استعداد للتخلص من الدولار والاحتفاظ بعملات أخرى بما في ذلك الذهب.
غلاء أسعار الذهب أدّى إلى انصراف المشترين إلى الإكسسوارات المقلدة التي تفنّن منتجوها في التقليد، بحيث لا يستطيع كثيرون التفرقة بينها وبين الذهب الحقيقي، وفقاً لجان ملكي (صاحب مشغل مجوهرات)، فيما بيّن صارجي أنَّ كثيراً من الصاغة وبائعي الذهب اتجهوا إلى التخفيف من وزن الذهب من أجل تقليل قيمته المالية. وبالتالي قد يلاقي إقبالا من الراغبين في اقتنائه من أصحاب الدخل المحدود المقبلين على الزواج أو مناسبات أخرى.
حول الحلول والإجراءات التي قد تتّخذ لإنعاش السوق والتخلص من حالات التهريب أو الغش، يرى صارجي أنَّ التفكير بدأ باتجاه صناعة مصوغات ذهبية بعيارات أقلّ من المتعارف عليه 21 و18، حيث سيتمّ التخفيض إلى عيار 14 و12 كما هو معمول به في أوروبا وأمريكا. وكشف صارجي عن نيّة وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية، بالتعاون مع مصرف سورية المركزي، إعداد وصياغة مشاريع قوانين تخصّ استيراد وتصدير الذهب المصنع والخام خلال الأيام القليلة القادمة؛ الأمر الذي من شأنه إعادة تشغيل اليد العاملة في هذا المجال، وتحقيق عائدات بالعملة الصعبة، حيث يطالب صارجي بوضع هذه القوانين موضع التجريب لمدة عام على سبيل المثال للتأكد من مدى نجاعتها وعائداتها. فيما سيتمّ تصدير الذهب المصنع واستيراد الذهب الخام عبر مصرف سورية المركزي بعد الحصول على الموافقة، مقابل تقديم تعهد خطي إلى المصرف المركزي، بناءً على كتاب من جمعية الصاغة والحرفيين، يوضح انتساب الحرفي إلى الجمعية، ويبيّن الوزن والعيار والسعر بالنسبة للذهب المصنع المراد تصديره، ويمنح فترة سيتمّ تحديدها لإعادة استيراد الكمية نفسها بشكل خام، وفقاً لرئيس جمعية الصياغ. ولإثبات مدى نجاح هذه القوانين، دعا صارجي إلى وضعها موضع التجريب لمدة عام على الأقل، بهدف التأكد منها ومن عائداتها التي يتوقع أن تكون مجزية، لأنَّ صناعة الذهب السورية جميلة ومتقنة، وهي من أرخص أجور التصنيع في كلّ دول العالم، حيث لا تتجاوز أجرة الغرام نصف دولار مقارنة بالدول الأخرى.
ولا بدَّ من الذكر أنه تتمّ الآن دراسة مشروع يقضي بالسماح للصياغ بتصدير الذهب المصنع بتعهد من مصرف سورية المركزي، على أن يتمّ إدخال كميات من الذهب الخام إلى السوق توازي الكميات المصدرة خلال ثلاثة أشهر من التصدير، حيث يُراد بهذا المشروع تنشيط حركة التصنيع والاستيراد والتصدير وإنعاش حركة الأسواق والمحافظة على الخبرات الوطنية في هذا المجال.
حذّر صارجي من استمرار تدهور صناعة المجوهرات السورية، نتيجة هجرة الصياغ السوريين إلى دول الخليج وأمريكا وكندا؛ الأمر الذي أدّى إلى إغلاق ما بين 200 - 300 مشغل صياغة من أصل 600 مشغل داخل دمشق، مطالباً بإنقاذ هذه المهنة وتنظيمها من خلال السماح باستيراد الذهب المصنع بدل الخام، وتفعيل المعارض داخل سورية وخارجها والحفاظ على الخبرات الوطنيّة. ويأمل صياغ دمشق أن تتراجع أسعار الذهب. فإن لم يحدث ذلك، سيقضي بعضهم الوقت في عدّ القطع الذهبية التي بحوزته، في حين يكتفي البعض الآخر بتجاذب أطراف الحديث مع الزملاء.
يستمرُّ مؤشر أسعار الذهب في الارتفاع؛ حسبما أوضح جورج صارجي رئيس جمعية الصاغة في دمشق، الذي يرى أنَّ تأرجح الأسعار خلال اليومين الماضيين مجرد تحريك للأسواق العالمية، متوقعاً أن يتخطّى سعر غرام الذهب على المدى القريب حدود 1400 ل.س في حال استمرار هبوط الدولار مقابل الذهب في تداولات البورصات العالمية؛ الأمر الذي يزيد من إقبال المستثمرين على المعدن النفيس كأحد الأصول البديلة.
على خلفية هذا الارتفاع المستمر في أسعار الذهب منذ نحو 18 شهراً، تواصل أسواق الذهب السورية مسيرتها باتجاه الركود، نتيجة الانخفاض الحاد على الطلب، الذي أرجعه صارجي إلى جملة من العوامل، تمثّل أبرزها في تدني طلب السياح العرب والأجانب على المعدن النفيس جراء ما لحق بهم من تبعات الأزمة المالية العالمية وأجبرهم على ضبط النفقات، إضافة إلى قلة الأعراس ومناسبات الخطوبة واتجاه معظم المجتمعات في سلوكها نحو التهادي عبر النقد المباشر أو أجهزة الخليوي، إضافة إلى قطع الأثاث والملبوسات وغيرها. الكثير من أصحاب محال الذهب ممن التقيناهم عبّروا عن خيبة أملهم في انتعاش أسواق الذهب، بعد الركود الذي تبع شهر رمضان المنصرم؛ بحسب الصائغ فارس صليبة، الذي بيَّن أنّ السوق عوّل في انتعاشه على تزايد إقبال الناس على الزواج بعد العيد وقبل الدخول في فصل الشتاء، لاسيما بالنسبة إلى العائلات الريفية.. إلا أنَّ معظم الأهالي في سورية فضّلوا التريّث في اتخاذ قرار الزواج بانتظار انخفاض أسعار الذهب، لتعود أسواق الذهب إلى ركودها؛ الأمر الذي انعكس على حجم التداول في السوق، مضيفاً: «الكثير من الناس باتوا يمرّون بجوار محلات الذهب في أزقة السوق المشهورة في دمشق دون حتى أن ينظروا إليها». فيما يقول صارجي: «خفّت مبيعات صياغ الذهب نحو 90 %. فالمضطر يشتري، وأكثر الناس باعت ذهبها». فيما تعقِّب حلا خوري: «الناس يفضلون الآن عدم شراء الذهب في المناسبات الخاصة، لأنهم يخشون تقلب الأسعار».
أما جان ملكي (صاحب مشغل مجوهرات) فعزا سبب إغلاق الورشات إلى الارتفاع القياسي في أسعار الذهب والانخفاض الحاد في حركة السوق.
سجّل الذهب سعراً قياسياً جديداً في سوق لندن للمعادن الثمينة، حيث بلغ سعر الأونصة 1093.10 دولار، وذلك إثر إعلان صندوق النقد الدولي عن بيع مئتي طن من احتياطه من هذا المعدن إلى الهند. وتوازي الكمية التي باعها صندوق النقد الدولي من احتياطه من الذهب إلى الهند نصف كمية الذهب التي يعتزم بيعها على مدى سنوات لتعزيز ماليته وقدرها 403.3 أطنان. وتجنّب صندوق النقد الدولي بيع هذه الكمية دفعة واحدة، كي لا يؤدي هذا الأمر إلى انخفاض سعر الذهب، مفضّلا بيع ذهبه إلى المصرف المركزي الهندي على مراحل في عمليات يومية جرت بين الـ19 والـ30 من تشرين الأول الماضي وفقاً لسعر السوق؛ ما عاد عليه بـ6.7 مليار دولار.
نجحت المرأة السورية في سرعة التكيف مع الأسعار الملتهبة التي مازال يرزح تحت وطأتها سوق الذهب المحلي، فأقنعت نفسها أنَّ ما يطلق عليه «الذهب الروسي» يحتلّ القائمة الأولى في عالم الإكسسوارات، لتجد في اقتنائه البديل الوحيد الذي يشبع رغبتها في التجمّل والتزين؛ إذ يؤكد العديد من الصاغة أنّ بعض المواطنين، وأكثرهم من النساء، بدؤوا يقبلون على شراء مصوغات تشبه الذهب شاعت تسميتها بـ «الذهب الروسي».. إلا أنَّ الصائغ جاك أورفلي يرفض إطلاق تسمية الذهب الروسي على تلك المصوغات، معتبراً إياها مجرد إكسسوارات مصنوعة من معادن لا قيمة لها، مضيفاً: «هذا الاسم اقترنت به تلك المشغولات منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي؛ عندما راجت تجارة الباعة المتجولين للإكسسوارات، حيث سوقوها على أنها مستوردة من روسيا».
فالكثير من المستهلكين قد يقعون ضحيّة جشع التجار، الذين يوهمون زبائنهم بأنهم يبتاعون ذهباً حقيقياً إلا أنه مستورد من بلدان أجنبية أولها روسيا، مستغلّين بذلك جهلَ الناس بالقوانين التي تحظر استيراد الذهب أو تصديره، حسبما أكد جورج صارجي، الذي أشار إلى أنَّ أسعاره تعدّ مرتفعة مقارنة مع القيمة الحقيقية له، إذ إنه لا يخضع لأيّ نقابة أو رقابة.
هلا منى
المصدر: بلدنا
إضافة تعليق جديد