وفاة المفكر السوري فاخر عاقل
هي لحظة لا نستطيع فيها تبرير تقصيرنا نحوه..بل هو لم ولا ينشدها، فمنذ دخوله المزمن في غيبوبته الأخيرة أعلن عاقل وبكل رضا للمقربين منه وقال بالحرف الواحد في آخر أيامه التي قضاها في دار السعادة للمسنين في حلب: « أنا لا أخاف الموت، بل أريده، طبعاً ليس هذا طبيعياً، فظروفي الحياتية أملت عليّ هذا الموقف، الإنسان العادي لا يريد الموت ولا يقدم عليه، وإن كان يعلم أن الموت حق، وأنه لابد له من ملاقاته يوماً..».
أربعون عاماً أمضاها «عاقل» في مختبره الخاص خرج بعدها بعشرات الكتب المهمة في ميدان علم النفس الذي درّسه لطلابه في جامعة دمشق، فهذا السوري الجميل الذي مهد لقراءة فرويد من زاوية مغايرة بلغ مجده وحقق أسطورته الشخصية عبر الجماعية التي تمكن أن يدير ورشاتها وفق التجريب والبحث المستمرين، فلم يركن إلى النظرية وقوانينها الوضعية، بقدر إقباله على تأسيس مخبره الخاص الذي بذل في سبيله الجهد والوقت، واستطاع أن يستقدم أحدث الآلات من أمريكا واليابان، لكن المخبر لم يتحقق، بسبب ضغط الروتين والبيروقراطية، و لعدم النجاح في استقدام ورشة من المختصين للإشراف على هذه الآلات.
هكذا وجد «عاقل» نفسه أمام قوانين قديمة لم تسعفه في تحقيق الجزء الأغلى على قلبه من مشروعه الكبير الذي بذل من أجله سنواته الثماني والثمانين، مرةً في وضع أهم مؤلفات علم النفس، فسجل للمكتبة العربية معجمه الضخم في العلوم النفسية، إضافةً إلى كتبه الثمينة في ميادين علمي النفس التربوي والعام، وأصول البحث العلمي، ومرةً في عضويته في جمعيتي علم النفس الأميركية والبريطانية، إذ استطاع هذا العلامة أن يعيد الحياة لحمامة ابن سينا، لم يحلم بها طائرةً بروحه فوق بلدته «كفر تخاريم» إنما جعلها قادرة هذه المرة على تجسيد طموحاته في البحث العلمي، الذي حلم من خلاله بإحياء المدرسة العربية والمشرقية في أصول العلوم النفسية.
فاخر عاقل الذي أمضى سنواته العشر الأخيرة في دار للعجزة، لم يكن من هؤلاء الذين يوقفهم المرض ويمنعهم من التفكير، فحياته الذهنية كانت في أوجها مع أنه كان يكابد مرارته الخاصة ببالغ الكتمان:« حياتي أصبحت خلفي، وليست أمامي، لم يبق لي مطلبٌ في الحياة, كل ما أريده عانيته، فأنا شخصياً لا أجد لزوماً لأن أعيش فترةً أطول..» كلمات عكست بصدق مدى الأزمة الوجدانية التي عايشها «عاقل» في الهزيع الأخير من عمره، و مع ذلك كان يخشى على مصير مكتبته التي تحوي في رفوفها أربعة آلاف وخمسمئة كتاب في كل مناحي المعرفة، كان أهمها المجموعة الكاملة لمجلة الكاتب المصري «طه حسين»، والتي أهداها بالكامل لمكتبة الأسد الوطنية، بعد أن رفضت الجامعة تخصيص غرفة له في قاعاتها مقابل التبرع بآلاف الكتب لطلابها..
لم يكتفِ الرجل بمقاربات علمية، بل وضع مقالته الشهيرة في الحب والمحبة، التي عارض فيها آراء فرويد لذلك كان يردد على الدوام: « إن الحاجة الأولى والكبرى للإنسان ليس كما قال فرويد الحاجة الجنسية، وإنما الحاجة إلى الحب، الحاجة إلى المحبة..حاجة الإنسان إلى أن يحب ويُحَب، فالدافع إلى الحب هو الحافز الأول والأهم في الحياة أن تكون محبوباً من الآخرين، فلا يكفيك أن تكون غنياً أو صاحب نفوذ، ولا يكفيك أن تكون سيداً لك رأي مسموع، بل تريد أن تحب وأن تكون محبوباً ومحترماً..» من هنا كان لعاقل رسالة غفرانه الخاصة، التي استقاها وفق اللاوعي الجمعي من قامة عملاقة عاشت على مقربة منه منذ مئات السنين، لقد كان شديد الشغف بأبي العلاء المعري، حيث قرن معرفة العالم الآخر بحاجة الإنسان إلى تحقيق نوازعه الكثيرة، فكانت قصائد المعري نموذجاً لاستعاراته العالية في مقارباته العلمية «فيا موتًُ زُر إنّ الحياة دميمةٌ/ ويانفسُ جدّي إنّ دهركِ هازلُ..».
ليس غريباً على هذا النابغة أن يجمع بين التصوف والعلم، وأن يقدم فهماً خاصاً في قراءة الكائن الإنساني، فالوعي المعرفي الذي تمتع به «عاقل» كان استثنائياً وجنباً إلى جنب في معالم شخصيته الوطنية، فمن غير ضوضاء كان المعمل العلمي الذي يرعاه يتقدم إلى تحقيق إنجازات لم ينسبها لنفسه، بل جاهد لتكون إنجازات لكل السوريين، مع أن ما قدمه في التأليف والموسوعة النفسية كان يحتاج إلى جهود مؤسسات بأكملها. لقد نادى في رسالةٍ إلى الأبناء بثقافة العمل وقيمته، ومكانة اللباقة في أخذ العلم وتلقيه، فقيمة العمل فوق كل قيمة في عصر وصفه عاقل بأنه عصر علم وثقافة، طبعاً لم يكن «فاخر» راضياً عن سياسة الاستيعاب التي تنهجها الجامعة السورية على اختلاف اختصاصاتها، فقد طالب على الدوام أن تبدل الجامعة من هذه السياسة بأخذ الطلاب وفق مجموع تعليمهم الثانوي، وفي ذلك قوله: « من قال إن الطب يحتاج إلى ذكاء أكثر من الفلسفة مثلاً، فكل الدراسات التي بين أيدينا تقول إن الفلاسفة يحتاجون إلى ذكاء أكثر من الأطباء».
سامر محمد اسماعيل
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد