الدين ينخر الجسد الإسرائيلي
يصر الفيلسوف الفرنسي اليهودي برنار هنري ليفي في حديثه لصحيفة «ليبراسيون» الفرنسية على وصف اسرائيل بالدولة «الديموقراطية الوحيدة في محيطها»، وقد افتتح في تل أبيب، منتدى «الديموقراطية وتحدياتها الجديدة» الذي يضم عدداً من المثقفين الفرنسيين والاسرائيليين بالتعاون مع صحيفة «هآرتس»، وذلك بعدما نشر مثقفون آخرون، وبينهم عدد من اليهود الاوروبيين، وثيقة ناقدة للسياسة الاسرائيلية الحالية، وداعية لوقف الاستيطان وإقامة دولتين اسرائيلية وفلسطينية مستقرتين. هؤلاء سموا وثيقتهم «نداء للتعقل اليهودي الاوروبي» وتم الرد عليها من مثقفين آخرين وبينهم يهود أيضاً دفاعاً عن اسرائيل وسياستها و«ديموقراطيتها».
تبدو هذه «النخوة» الاوروبية في ظاهرها إنسانية، بحيث أن ممارسات اسرائيل في السنوات القليلة الماضية، وحروبها الوحشية، وحصارها النازي لغزة، وحروبها المقرونة بهزائمها في لبنان، وإسكان 290 الف مستوطن فقط في الضفة الغربية، جعلت الضمير الغربي يتحرك ولو باستحياء لوقف الانهيار، خصوصاً بعدما وصل الامر ببعض الدول الغربية الى حد ملاحقة مسؤولين سياسيين وعسكريين اسرائيليين.
ولكن خلف « النخوة»، ثمة قلق أوروبي فعلي على اسرائيل، يلاقي صداه أيضاً في بعض الاوساط اليهودية الاميركية التي دعاها الرئيس الأميركي باراك أوباما عام 2008 لإسماع صوت مغاير لصوت منظمة «ايباك» الشهيرة.
أحد جوانب هذا القلق، مرتبط عضوياً بالنزوع الاسرائيلي صوب الاصولية الدينية، ذلك أن بعض الارقام تبدو مخيفة لأولئك الذين اعتقدوا يوماً ما ان اسرائيل ستكون الدولة العلمانية الديموقراطية الوحيدة في محيطها المضطرب بين تيارات عديدة، قومية ويسارية وإسلامية وغيرها.
مثال على ذلك ما نشرته صحيفة «هآرتس» قبل فترة قصيرة، وتشير فيه الى ان عدد المتدينين الشبان في صفوف الجيش الاسرائيلي انتقل من 2 في المئة عام 1990 الى 30 في المئة حالياً، وأن 6 من أصل 7 عقداء في لواء غولاني هم من رجال الدين، وأن قيادة هذا اللواء ستكون دينية في الصيف المقبل.
وقبل ذلك كان قسم القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي كشف عام 2008، ان 60 في المئة من الضباط في الوحدات القتالية في الجيش هم من أتباع التيار الديني الصهيوني، و70 في المئة من ألوية المشاة المختارة، و75 في المئة من الوحدات الخاصة كلهم متدينون. وثمة توقعات بأن يسيطر المتدينون على هيئة اركان الجيش في غضون عقدين من الزمن، ناهيك عن ان الرئيس الأسبق للـ«شاباك» يعكوف بيري كان قد كشف أن معظم مسؤولي المناطق في الجهاز أصبحوا من أتباع التيار الديني (يمكن قراءة مقالات وإحصاءات عديدة في هذا السياق للزميل صالح النعامي، وكتاب «الدين والسياسة في اسرائيل» للباحث المصري عبد الفتاح ماضي، وكتاب «الاصولية اليهودية في اسرائيل» لأيان لوستيك).
وقد شجع هذا المناخ الأصولي في صفوف المؤسسة العسكرية والمستوطنين، قسماً من كبار حاخامات اسرائيل على المضي قدماً في إصدار فتاوى عنصرية بامتياز، وبينها تلك التي اصدرتها قبل عامين «رابطة حاخامات أرض إسرائيل» والتي تشرّع وتبيح قصف التجمعات السكانية المدنية الفلسطينية، او تلك التي شبهت الفلسطينيين ببهائم القرون الغابرة ما يسمح بالتالي بقتلهم.
واذا كان الدم الفلسطيني قد صار كالدم العراقي والصومالي، وقبلهما الدم اللبناني، رخيصاً في وطننا العربي وعند الغرب، فإن ما يقلق الغربيين على مصير اسرائيل، هو ان يد الاصولية باتت تضرب رموز الدولة ومؤسساتها وصورتها، فمثلا إن إيغال عمير اعترف بأنه قتل اسحق رابين بناء على فتاوى، وثمة حاخامات اصدروا فتاوى عديدة تشرع قتل أي رئيس وزراء او مسؤول يقبل بالتنازل عن الارض «المقدسة».
ثم يطل على الغرب وزير الخارجية الاسرائيلي افيغدور ليبرمان المتعصب العنصري وعديم الثقافة، ليقدم نموذجاً مناقضاً تماماً لتمنيات قسم من النخب الغربية المهللة دائماً وفي كل الظروف لـ«الدولة الديموقراطية الوحيدة» في المنطقة.
صحيح ان الممارسات والأنظمة غير الديموقراطية التي عرفها المحيط العربي لإسرائيل قد شجعت الغرب طويلاً على التمسك بورقة توت الديموقراطية الاسرائيلية حيث الصحافة تستطيع (باستثناء الجوانب الأمنية) إسقاط حكومة لو شاءت، او التشهير بأكبر رمز للدولة، او كشف معلومات خطيرة، ولكن الصحيح أيضاً أن ورقة التوت آيلة للسقوط وسط المناخات الاصولية الناخرة في الجسد الاسرائيلي.
تمهد هذه المناخات لقلق فعلي على عملية السلام، ذلك ان السلام بحاجة لإخلاء المستوطنات وإعادة الارض والقبول بإقامة دولة فلسطينية «قابلة للحياة» وتقسيم القدس، وكلها أمور باتت النخب الاوروبية وبعض المتنورين اليهود في أميركا وأوروبا يعتقدون باستحالتها اذا ما استمرت سيطرة الدين على الجيش والأمن والمخابرات وتلابيب السياسة في اسرائيل.
وكم يبدو تحليل المؤرخ الاسرائيلي ايلان غريلسامر صائباً حين يقول: «إن اسرائيل تفضل الحرب، لأن السلام سيمزق نسيجها الاجتماعي ويؤدي الى تفكك مفاجئ في المجتمع».
سامي كليب
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد