مــاذا يستنشــق ســكان دمشــق

عندما نعلم  أن  معدل تطور الأمراض السرطانية في سورية 20 %  أي حوالي /17000/ حالة جديدة كل عام، وأن نسبة 12% من الوفيات  بسبب هذا المرض،  تتشتت أفكارنا ونتحول للحظات  من مساهمين في هذه الزيادة السنوية من خلال ممارساتنا وأفعالنا السلبية بحق  البيئة إلى ضحايا التلوث والأمراض الناتجة عن الملوثات المختلفة التي تتكاثر مع تعدد مصادر التلوث وغياب البيئة النظيفة والوعي البيئي .

وعندما نطلع على نتائج دراسات الرصد الهوائي لمناطق مدينة دمشق، تستوقفنا أيضا  تلك الأرقام التي تنبئ بمخاطر عديدة، إذ تزيد نسب التلوث عن الحدود المسموح بها بشكل لافت، فمثلاً ترتفع نسبة التلوث بالعوالق الدقيقة  pm10 في موقع كراجات البولمان، حتى وصلت في أوقات مختلفة من عام 2009 لتصل إلى m3/ug205،  في حين أن الحد المسموح به m3/ug100،  وهنا نستذكر ذلك الشريط الطويل من الشعارات التي يقبع خلفها وجه آخر للحقيقة البيئية.

ومابين هذه الأرقام هناك دائماً  أكثر من سؤال، هل بيئتنا بخير وبأيد أمينة، أم أنها تشيخ شيئاً فشيئاً وتتقاذفها الملوثات التي تجري محاربتها في كثير من الأحيان من وراء المكاتب؟ وما هو حال الهواء الذي أضاف إلى مكوناته المزيد من العوالق والأمراض التي باتت تنخر العظام وتحفر في الصدور والأجساد خريطة جديدة للجينات الملوثة ؟

تشاركية البحث عن الحلول

ولا يمكن عند تناول أية مشكلة بيئية تجاهل أو تجاوز حتمية  التشاركية بين وزارة الدولة لشؤون البيئة  وجميع الجهات المعنية  من أجل الوصول إلى حالة مستقرة،  بعد  أن باتت الحالة  البيئية مشوهة بالكثير من الملوثات التي تخطت في بعضها الحدود المسموح بها .فهل بيئتنا بخير أم أنها تتراجع إلى الوراء ؟وما هو الجديد على صعيد التلوث الهوائي؟

والسؤال الأكثر أهمية ما نوعية الهواء الذي  يتنفسه سكان دمشق؟!.

قبل  أن نبدأ ..علينا أن نعلم

من المؤسف أن النتائج التي يتم من خلالها  تقييم حالة التلوث تبقى مجرد حروف ورقية،  كونها تقدم بلغة علمية بحتة لا يمكن للمواطن العادي أن يفهمها أو يفك شيفرتها التلوثية، وبذلك تبقى قراءة هذه النتائج حكراً على قلة من المختصين في هذا المجال في الوقت الذي تتطلب  فيه الحالة البيئية الراهنة تفعيل  مشاركة المواطن، لأنه يجمع بين كونه  العنصر الرئيسي المسبب للتلوث وفي الوقت ذاته هو الضحية  الأولى التي تتلقى الملوثات  بصور وأشكال مختلفة .

ولذلك لابد أن يعلم المواطن معنى كل رقم بيئي، وآثاره المستقبلية على الصحة والمجتمع بشكل عام، خاصة وأنه يستنشق يومياً الهواء الملوث الذي يصل إلى رئتيه ودمه بنسبة 100٪، فحاجة الإنسان إلى الهواء تعادل أربعة أضعاف حاجته إلى الماء والغذاء وتحديداً في مرحلة الطفولة، إذ يستنشق الطفل في سنوات عمره الأولى /25/ ليتراً من الهواء كل يوم، وهذا ما يجعله أكثر عرضة للأمراض البيئية.‏

ولاشك أن ازدياد الأمراض التنفسية‏ هو النتيجة الطبيعية لارتفاع نسب الملوثات في الهواء، حيث تؤكد بعض الحقائق العلمية أن أول أكسيد الكربون يسبب الصداع وصعوبة التنفس عند نسبة 0.1٪ ما يسبب اضطراباً في عملية أكسجة الدم والوفاة بالاختناق عند نسبة 0.3٪، أما أكاسيد النتروجين فتسبب تهيجاً للجهاز التنفسي والوفاة إذا وصلت النسبة إلى 50 جزءاً في المليون بزيادة 10 ميكروغرامات من غاز ثاني أكسيد النتروجين المنبعث من عوادم السيارات في كل متر مكعب من الهواء تقابلها زيادة في احتمال إصابة شخص بالسرطان بنسبة 8٪، والمركبات الهيدروكربونية سبب في حساسية العينين والأنف والحلق، ولبعض أنواعها تأثيرات مسرطنة للدم، كذلك مركبات الرصاص لها تأثيرات ضارة للأجنة عند الحوامل  ينجم عنها تأثير نمو جسمي وعقلي، كما تترسب في العظام والأسنان ما يسبب تأثيرات ضارة للمفاصل وترسيخ الأنسجة الرخوة حول المفاصل، والتأثير على الكبار بالعقم وزيادة حمض البول.

في دائرة الضوء

 تحظى حالات التلوث المختلفة والمنتشرة في كل مكان باهتمام المواطن كونها ذات صلة وثيقة بصحته وحياته اليومية المتخمة بالكثير من المشاهد والمنغصات البيئية الراصدة للارتفاع المستمر لمعدلات التلوث نتيجة  ازدياد الكثافة السكانية وارتفاع عدد آليات النقل وتفاقم مشكلات الاختناقات المرورية  وغياب المساحات الخضراء.

المهندس هيثم نشواتي مدير سلامة الغلاف الجوي في وزارة البيئة  أكد أن موضوع  التلوث الهوائي من الموضوعات التي تحظى بالاهتمام والمتابعة الدائمة، حيث تنصب الجهود على معرفة النتائج لتوصيف الحلول واتخاذ الإجراءات اللازمة للتخفيف من التلوث، وقد قامت وزيرة الدولة لشؤون البيئة بتكليف مديرية المخابر المركزية في الوزارة لتنفيذ مشروع لرصد ومراقبة ملوثات الهواء في مدينة دمشق لعام 2009 .

وأضاف نشواتي: لقد كان الهدف من هذه الدراسة معرفة واقع تلوث الهواء في مدينة دمشق الناتج عن جميع النشاطات، ومعرفة المناطق الأكثر عرضة للتلوث، والبحث عن الحلول المناسبة للتخفيف من نسب الملوثات، حيث قام فريق العمل المكلف من مديرية المخابر المركزية بقياس ملوثات الهواء في مناطق مختلفة من مدينة دمشق ذات نشاطات متباينة في عام 2009 خلال الفترة بين 2/2/2009 وحتى 2/12/2009، وتم قياس كل الملوثات من  العوالق الهوائية ( الغبار ) PM10 - غاز ثاني أكسيد الكبريت SO2 - ثاني أكسيد الآزوت NO2 - أول أكسيد الكربون CO - الأوزون O3 - غاز كبريت الهيدروجين H2S.

تجاوز للمعايير في أوقات الذروة

وأشار نشواتي  إلى النتائج التي توصلت إليها الدراسة، حيث بينت  تجاوز التركيز اليومي للغبار PM10  المعيار اليومي وهو 70 ميكروغراماً /م3 في جميع المواقع، وخلال فترة القياس، وهذا يعود إلى أعمال البناء والحفريات وطبيعة مدينة دمشق الصحراوية والجافة والدخان المنطلق من وسائل النقل المختلفة .

كما أشارت الدراسة إلى وجود عدة تجاوزات للمعيار اليومي لـ SO2 وهو (125 ميكروغراماً/م3) في موقع المحافظة والسومرية والبرامكة سانا والميدان ( مرة واحدة )، إضافة إلى تجاوز للمعيار الساعي وهو (350 ميكروغراماً/3) ثلاث مرات في المحافظة، وفي القابون حيث كان أعلى تركيز ساعي في موقع المحافظة خلال شهري (تشرين الأول، وتشرين الثاني)، وفي القابون خلال شهر أيلول وهذا يعود إلى الكثافة المرورية العالية في تلك المواقع حيث يمر عدد كبير من السرافيس والباصات التي تعمل على المازوت الحاوي على الكبريت،  وإلى وسائل التدفئة التي استخدمت في فصل  الشتاء.

وبينت الدراسة أيضاً تجاوز التركيز الساعي لـ NO2 المعيار الساعي وهو (200 ميكروغرام /م3 ) في معظم المواقع وأكثرها في موقع المحافظة، وذلك بسبب الازدحام المروري في تلك المناطق وخاصة في ساعات الذروة.

كما  تجاوز التركيز الساعي لـ O3 المعيار الساعي في موقعي المزة والمهاجرين خلال شهر أيار، ولكن متوسط التركيز الساعي لم يتجاوز المعيار الساعي في جميع المواقع، كما تجاوز التركيز اليومي لـ H2S المعيار اليومي 150 ميكروغراماً /م3 حسب ( WHO ) في موقعي باب توما والسومرية، وكان أعلى تركيز يومي في موقع باب توما وتجاوز المعيار اليومي، وكان عدد التجاوزات للمعيار اليومي مرة واحدة في باب توما .

 أما أول أكسيد الكربون فقد كان هناك تجاوز للمعيار 8 ساعات في موقع البرامكة سانا ولمرة واحدة، ولوحظ ازدياد تركيز CO خلال شهري (تشرين الأول وتشرين الثاني) عما كان عليه في شهور الصيف وذلك بسبب زيادة الكثافة المرورية والتدفئة في معظم المواقع.

وأعاد نشواتي (حسب الدراسة ) ارتفاع تركيز الملوثات في المواقع المدروسة إلى النشاط المروري وخاصة في ساعات الذروة ( الازدحام المروري ) لافتاً إلى أنه عند مقارنة المتوسط الكلي للملوثات مع المعيار السنوي يلاحظ أن هناك تجاوزاً للمعيار السنوي للملوثات الثلاثة PM10 ، NO2  ، SO2.

وأشار إلى أن هناك عدداً كبيراً من وسائط النقل التي تعبر شوارع دمشق مطلقة الملوثات المرئية وغير المرئية، حيث لوحظ انطلاق الدخان الأسود من الباصات والسرافيس التي تعبر الشوارع حسب الكثافة المرورية، وهذا الدخان يحتوي على هباب الفحم الذي يؤثر على جهاز التنفس ويؤدي إلى أخطر الأمراض ومنها السرطانات وغيرها.

وأضاف: عند ربط وسائل النقل بالتلوث حسب مواقع القياس لوحظت زيادة بتركيز الملوثات بازدياد عدد السيارات وخاصة CO-NO2 كما ازداد تركيز SO2 والغبار بازدياد عدد وسائل النقل المدخنة، وخاصة الباصات لأنها تطلق هباب الفحم.

وبما أن المتوسطات اليومية والساعية للملوثات قريبة من الحد الأعلى المسموح به في معظم المواقع فإن ازدياد تركيز الملوثات يشير إلى ازدياد التلوث ما يؤثر على الصحة العامة، لذلك لا بد من البحث عن حلول مناسبة للتخفيف قدر الإمكان من انطلاق مثل هذه الملوثات .

استنفار ينتهي بتوصية

إن واقع التلوث وتداعياته المتواصلة على البيئة والصحة العامة يستدعي استنفار كافة الجهات وتعاونها من اجل الحد من ارتفاع معدلات التلوث التي تجاوزت في بعض المناطق الخطوط الحمراء، ولذلك قدمت وزارة الدولة لشؤون البيئة العديد من التوصيات للتخفيف من تلوث الهواء بالتعاون مع جهات عديدة، حيث أشار نشواتي إلى التوصيات المتعلقة بوزارة النفط من حيث تحسين الوقود السوري المستخدم في وسائل النقل والتدفئة والصناعة بحيث يطابق المواصفات العالمية، ودراسة أداء المحفزات المضافة للوقود بهدف تحسين عملية الاحتراق ما يؤدي إلى الإقلال من الانبعاثات الغازية الناجمة عن وسائل النقل.

كما أشار إلى التوصيات الخاصة بمحافظة دمشق والتي تتمثل في الإسراع في إنجاز الأعمال الناتجة عن الحفريات،  زيادة المساحة الخضراء في داخل مدينة دمشق وأطرافها والعمل على تغيير مكان مكبات القمامة الموجودة في داخل المدينة ونقلها إلى خارج المدينة، وتحديد المقالع المتواجدة قرب مدينة دمشق ودراسة إمكانية نقلها وإعادة تأهيل غير المستثمرة منها وتحويلها إلى مساحات خضراء.

ولفت إلى التوصيات التي قدمتها الوزارة إلى وزارة النقل فيما يخص إضافة الحفازات المناسبة إلى وسائل النقل المتواجدة بأنواعها بهدف تخفيف الانبعاثات منها، وعدم الموافقة على استيراد أية وسيلة نقل إلا إذا حققت الشروط البيئية الواردة في المواصفات العالمية المعتمدة، إلى جانب  الصيانة الدورية لوسائل النقل العامة بشكل خاص، والبحث عن وسائل نقل تعمل بآلية نظيفة (العمل على الغاز – المترو ) بحيث تنخفض نسبة الملوثات المنطلقة منها، والمراقبة المستمرة للملوثات الناتجة عن عوادم السيارات وإلزام أصحاب السيارات، بالصيانة الدورية لمحركات السيارات واتخاذ الإجراءات المناسبة بحق السيارات المخالفة، والعمل على الإخراج التدريجي للسرافيس والباصات المدخنة والمنتهية العمر خارج المدينة بعد صيانتها.و التنسيق التدريجي لوسائل النقل القديمة الخاصة منها والحكومية واستبدالها بآليات حديثة تراعى فيها المعايير البيئية.

مع دراسة إمكانية التحول التدريجي لوسائل النقل من محركات تعمل على البنزين أو المازوت إلى أخرى تعمل على الغاز أو هجينة.

وبالنسبة للتوصيات الخاصة بوزارة الداخلية أكد نشواتي أنها تتعلق بالتخفيف من الاختناقات المرورية وتنظيم عملية المرور بشكل أفضل و المراقبة المستمرة للملوثات الناتجة عن عوادم السيارات وإلزام أصحاب السيارات بالصيانة لمحركات السيارات واتخاذ الإجراءات المناسبة بحق السيارات المخالفة و إيجاد شرطة بيئية لتنظيم موضوع مخالفات التلوث بأنواعها.

كما كانت هناك مجموعة توصيات خاصة بوازرة الصناعة كاعتماد معايير جديدة لملوثات الهواء المحيط وفي بيئة العمل، ومصادر التلوث بحسب المواصفات العالمية المعتمدة وإضافة معايير جديدة للمواصفة ( كبريت – الهيدروجين – التولوين – الاكزيلين ) مشيرا إلى  أن الوزارة تقوم بتطوير المعايير لكل ما يتعلق بسلامة البيئة لموافقتها مع المعايير العالمية .

صرخة بيئية

ما يثير الدهشة والاستغراب هو أننا في كل مرة نتناول فيها قضية بيئية نضطر بالعودة إلى نقطة البداية  وكأننا ندور في حلقات مفرغة بحيث تصبح آليات المعالجة التي تتبناها الجهات المختصة اقرب إلى ملاحم وبطولات دونكيشوتية.

ومع كل الاحترام والتقدير لجهود وزارة الدولة لشؤون البيئة وعملها الدائم والدؤوب لتطويع وترويض التلوث ولجمه في كافة المحافظات إلا أن ذلك يبقى جهدا فرديا يتطلب لنجاحه التعاون من الجهات الأخرى وتفعيل العمل الحقيقي بعيدا عن لغة الشعارات الفضفاضة التي يتم  التسلح بها  في مواجهة التلوث البيئي .

وطبعا المسؤولية البيئية  تطال المواطن الذي يسهم في تفاقم التلوث حيث تقع على عاتق الجميع  مسؤولية الحفاظ على البيئة وحمايتها من التلوث لان الخسارة في النهاية ستكون على حساب كافة الأطراف.

معلومة تستحق الاهتمام

يستخدم الحفاز لتحويل الغازات الضارة إلى غازات أقل ضرراً ويعمل بدرجة حرارة 400 درجة مئوية حيث يثبت على أنبوب العادم ويشترط لاستخدامه أن يكون الوقود خالياً من الرصاص وأن تكون الحرارة كافية لعمله إذ لا يعمل في درجة حرارة منخفضة ويتلف في درجات عالية، ويشترط أيضا عدم وجود ترسبات لمواد تغطي الحفاز وتؤثر على عمله مثل الزنك والكبريت.‏

بشير فرزان 

المصدر: البعث