أسعد الوراق يخلع مجده القديم
حتى الآن، وقد اقترب العمل من منتصفه، لا يبدو أن مسلسل (أسعد الوراق) بنسخته الجديدة التي وقعها هوزان عكو كاتباً ورشا شربتجي مخرجة، قد استطاع أن يدخل معادلة البقاء في الذاكرة، التي حسمتها النسخة القديمة من هذا المسلسل الخالد، الذي تربع على عرش كلاسيكيات الدراما السورية بجدارة، وظل حاضرا في وجدان السوريين حتى بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود ونصف على إنتاجه.
فأسعد الوراق الجديد، التائه في حارة دمشقية مصنوعة بأناقة ديكورية لم تخف لمسات صانعها النافرة، لم يستطع أن يمتلك ذلك الحضور الفني والدرامي المتكامل الذي حظي به العمل القديم، بدءاً من حميمية الأجواء المكانية وليس انتهاء بشارة العمل، التي لخصت ببراعة فنية ملهمة، كيفية تحول هذا الإنسان البسيط الساذج إلى ولي من أولياء الله الصالحين في نظر الناس البسطاء، عبر سلسلة من التحولات القدرية التي كانت تعصف بمسار حياته، وتتقاذفه صعوداً وهبوطاً لتجعل منه أمثولة في الإنسان البسيط النقي الذي يشغل حياة المجتمع ويفجر تناقضاته الموروثة.. في حين جاء العمل الجديد ليحول هذه الكثافة الدرامية في بلورة الشخصية وصناعة معادلاتها الدرامية والفكرية، إلى جزء من بانوراما اجتماعية مفبركة، لا يبدو أسعد الوراق، سوى خط من خطوطها الممدودة باسترسال باهت، وشخصية من شخصيات كثيرة تتصارع على رقعتها الدرامية، وكل واحدة منها توحي بين الحين والآخر بأنها صاحبة البطولة الدرامية وحاملة قيم هذا الصراع!
مقارنة تطرح نفسها
السؤال الذي يطرح نفسه إزاء قراءتنا الأولية للعمل: هل ثمة ضرورة لمقارنة العمل الجديد بنظيره القديم؟ والجواب بالتأكيد نعم... فكل مشروعية العمل الجديد مؤسسة على نجاح وخلود المسلسل القديم. الشركة المنتجة قالت إنها تريد إعادة إحياء كلاسيكيات الدراما السورية القديمة، والمخرجة صرحت بأنها استفادت من أجواء العمل القديم، ونجما (أسعد الوراق) القديم، استحضرا في العمل قسراً وفي أدوار ثانوية لا تليق بهما للتمسح بحضورهما على الشارة... فسمي الفنان الراحل هاني الروماني بـ(وجع الغياب... أسعد الوراق القديم)، وسميت منى واصف في الشارة أيضاً بـ(عقد الماس العتيق)... في إشارة رمزية لأغنية (يلبقلك شك الألماس) التي غنيت لها في المشهد الختامي من العمل القديم... إذن كل شيء مؤسس على شهوة استحضار نجاح المسلسل القديم، الذي أنتجه التلفزيون السوري عام 1975 والتمسح به... وبالتالي أية محاولة لصرفنا عن مثل هذه المقارنة على اعتبار أن العمل الجديد شيء مختلف لا يجمعه مع القديم سوى الأصل الأدبي (قصة الله والفقر لصدقي اسماعيل) هي محاولة لذر الرماد في العيون، ينبغي عدم الإنصات لذرائعها!
وحتى لو أردنا أن نحتكم في معيار النجاح إلى الأصل الأدبي، فسنجد أن النسخة الجديدة من (أسعد الوراق) أبعد ما تكون عن كثافة ودرامية القصة العظيمة التي كتبها الأديب صدقي اسماعيل في (74) صفحة من القطع المتوسط، وحولها السيناريست الراحل عبد العزيز هلال إلى مسلسل في سبع حلقات، كان من أنجح تجارب استلهام الأدب في الدراما التلفزيونية، بينما جاء هوزان عكو ليحولها إلى مسلسل فيما يقرب من ثلاثين حلقة... فكان كمن مدد ملعقة من شراب التوت المركز في عشر ليترات من الماء!
التشويش على دراما الشخصية
ترك هوزان عكو شخصية أسعد الوراق بكل حضورها الطاغي، وكل ما حُمّلت به من أفكار وتحولات ورموز، وراح يشتغل على الشخصيات الأخرى، على القصص الفرعية التي ذكرها صدقي إسماعيل في قصته الطويلة بشكل عابر، كي يبرز جوانب في شخصية بطله كالطيبة واللهفة والتأثر السريع بمآسي الآخرين... في حين تابع عكو هذه القصص الفرعية، وجعل لها تفرعات أخرى لدرجة أنها شوشت على حضور أسعد الوراق درامياً، وحولته إلى شخصية تغيب وتحضر... تتألق وتنطفئ في زحمة الأحداث والحكايا. لم يرد في قصة (الله والفقر) ذكر للفرنسيين، فشخصية (عبد الحي) التي يستشهد أسعد الوراق وهو يقاتل معها في نهاية المسلسل، كانت شخصية متمردة ضد الحكومة وليست ثائرة ضد الفرنسيين، لكن الكاتب عبد العزيز هلال، جعل تمردها ضد الفرنسيين في إشارة عابرة كي يخلق لديها تعاطفاً أكبر لدى المشاهدين... والكارثة أن كاتب سيناريو العمل الجديد التقط هذه الإشارة العابرة أيضاً من المسلسل التلفزيوني القديم لا من الأصل الأدبي، وجعل من القتال ضد الفرنسيين محوراً أساسياً متشعباً، فيه الكثير من الجولات والصولات والمعارك والهزائم والانتصارات... ففرغ العمل من فرادة مقولاته التي تطرح أسئلة فلسفية معقدة عن الفقر وعن الناس البسطاء والدين والإيمان والإلحاد والعدالة الإلهية.
وإلى جانب ذلك ثمة خطوط أخرى لشخصيات استحضرت لملء الوقت، كشخصية (أيمن بيك) الذي ينتقل بنا بين أجواء السوق والغيرة من الحمالين الذي يرأف والد زوجته (عدنان بيك) بهم، وبين أجواء السهر في بيوت العاهرات والراقصات، في مشاهد مستعارة من أجواء مصرية، إنما برؤية أشد ابتذالاً وسوقية، وأقل ظرفاً بالتأكيد!
الدراما السورية قديماً وحديثاً، حافلة بالعديد من الأعمال الجيدة والرديئة التي تتحدث عن النضال ضد الاحتلال الفرنسي، وتصور أشكاله بواقعية موثقة، أو حكائية مفبركة فيها الكثير من الجنوح نحو العنتريات.. لكن ليس فيها سوى أعمال نادرة جداً، تطرح الأسئلة التي تطرحها قصة (الله والفقر) وما تحمله من دعوة حقيقية للتغيير على أيدي الناس البسطاء.. وبالتالي كان الجنوح بالعمل نحو ذلك الموضوع، خياراً أفقده فرادته، وجعل من المسلسل القديم الملتصق بأسئلة النص الأدبي والجريء في تناول محظوراته، شاهداً على الفشل الدرامي للعمل الجديد الذي أضاع البوصلة والتوجه!
السر في المناخ
والمشكلة برأيي ليست فقط في الخيار الحكائي السهل الذي اختاره كاتب السيناريو، كما يبدو لنا حتى الآن، بل هي في المناخ، فالمناخ الفني الذي أفرز رائعة (أسعد الوراق) في السبعينيات، حين كان الكاتب يكتب النص في العدد الذي يشاء من الحلقات التلفزيونية، من دون أن يتقيد بثلاثين حلقة من أجل العرض في رمضان، والمناخ الذي كانت تدرس النصوص فيه جيداً في بروفات طاولة ممتدة تقرأ فيها السيناريوهات بدقة، وتختمر فيها الملاحظات، ويعمل الجميع من أجل تقديم دراما يتألق فيها الهم الإنساني، وتبرز فيها أسئلة الأصل الأدبي بكل كثافتها وإشكالياتها، ليس هو المناخ ذاته التي تعيشه الدراما التلفزيونية السورية اليوم بالتأكيد.... حيث يعتقد بعض المخرجين والمنتجين أن الدراما هي حارات ضخمة تبنى، ومعارك بطولية تنفذ، وبيوت دمشقية واسعة تملأ بثرثرة النجوم واستعراضات الكاميرا المحمولة والتقنيات الحديثة... ولهذا كان الخيار الخاطئ هو التجرؤ على العبث بنص مختلف، لا يسمح به السائد اليوم، وإن سمح فلن يكون سوى نسخة مشوهة وممسوخة عن أصالة وبساطة وعمق العمل القديم الذي لا ينسى.
ليس هذا انحيازا متزمتاً للماضي، فالدراما السورية تقدم الآن أعمالاً جيدة أيضاً، لكن معايير الجودة اليوم، التي تتفنن في الشكل والتقنيات وضخامة الإنتاج، لن تستوعب عملاً بكثافة وإشكالية (أسعد الوراق). صحيح أن رشا شربتجي قدمت رؤية بصرية خاصة في العمل، وبذلت جهداً طيباً في تحقيق أجواء لافتة، وخصوصاً على صعيد الإضاءة والظل واللون وحركة الكاميرا... لكنها مع الأسف، فشلت في تلمس مأزق النص الجديد، ولم تنتبه إلى التهميش الذي أصاب الشخصية المحورية فجردها من مجدها الدرامي الراسخ، وحولها إلى شخصية باهتة في عمل ينتمي تارة إلى دراما البيئة الدمشقية التقليدية وأخرى إلى بطولات مقاومة المحتل الفرنسي. والأدهى من ذلك أنها انساقت وراء مبالغات النص في فبركة معارك يبدو فيها الجنود الفرنسيون، وكأنهم وسائل إيضاح للتدريب على إصابة الهدف، أو تعليم أصول الصيد!
جهود تمثيلية ضائعة!
وفي خضم هذا كله، بدت مهمة الفنانين تيم حسن وأمل عرفة هي الأصعب بالتأكيد... فقد قاربا دورين شكلا علامة فارقة في مسيرة الفنانيْن اللذين أدياهما... دور (أسعد الوراق) الذي أداه هاني الروماني فكان دور العمر بالنسبة له، ودور (منيرة) التي أدته منى واصف... فكان علامة لا تمحى في ذاكرتها وذاكرتنا. احترم تيم إنجاز زملاءه المخضرمين، وسعى لابتكار كاركتر مختلف، لم يقلد فيه هاني الروماني ولم يتشبه به... بذل جهداً يشكر عليه، وبنى تفاصيل معقدة في الأداء، لكن ما بلغه من نجاح كان أقل مما بذله من جهده... فقد غرق الأداء في سكونية طاغية، جعلته يقبع في الظل وينسى ما إن يغيب عن الكاميرا... فكأنه كان كاركتر ممثل مساعد وليس بطلا رئيسياً يحمل دراما العمل، وكان أداء أمل عرفة، صورة أخرى عن التحدي الشجاع لصورة أداء خالد قدمته منى واصف... لكن أين حضور منيرة القديم في رقعة درامية مضبوطة ومشغولة بعناية، من ضياع منيرة الجديدة المشتتة الحضور في هذه الرقعة الدرامية المبعثرة بانشغالات عقيمة أخرى... إن ذاكرة الزمن وكثافة انفعالات العمل القديم كانت تظلم جهدها في النهاية.
ولم يكن حال العناصر الفنية الأخرى من ديكور وموسيقى متفوقاً وللأسف، رغم التقدم الذي شهدتهما الدراما السورية في هذا المجال... فأين سحر استخدام الأصوات البشرية الكورالية وتعبيراتها الأخاذة عن شخصية أسعد الوراق المضطهدة والمطحونة مما نسمعه هنا، وأين جماليات اللمسة الواقعية في ديكورات لبيب رسلان على فقر إمكانياتها وخشونتها، من اللمسة النافرة في ديكورات حسان أبو عياش رغم نجاحاته المحققة في تقديم الحارة الدمشقية.
إن (أسعد الوراق) في صورته الحالية هو ابن المناخ الفني الحالي تماماً، حيث يتحول الأدب العميق إلى حكاية، وحيث الإشراف الدرامي تسمية بلا أثر، والإخراج رؤية في كل شيء إلا قراءة عثرات النص، والإنتاج الضخم عقلية استثمار وتباه بالديكور والملابس وضخامة الإكسسوار وعدد الكومبارس!
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
التعليقات
الإشراف
إضافة تعليق جديد