تهافت منطق الثورة
الجمل ـ عبد الله علي: "الثورة" التي لا تحاسب نفسها ابتداءً، لن تحاسب نفسها انتهاءً. و"الثورة" التي تتذرع بالاستبداد من أجل النجاح، لن تتوانى عن التذرّع بالاستبداد في سبيل استمرارها وديمومتها وطول مدة بقائها فوق رؤوسنا إلى أبد الآبدين. و"الثورة" التي تحتمي بالأجنبي وتطلب تدخله في شؤون بلادها الداخلية، لن يرفّ لها جفن وهي تبيع كل ما هو وطني على بازار السياسة الدولية بأبخس الأثمان. و"الثورة" التي تغتال نخبة عقول وأدمغة المواطنين، لا يمكن أن تعدنا إلا بجاهلية جديدة. و"الثورة" التي تمزق علم المقاومة وتتهجم على رجالها، هل يعقل أن تكون باحثة عن الكرامة والعزة؟
*****
لقد تابعت منذ البداية وباهتمام كبير كل ما يصدر عن هيئات ومجالس ولجان "الثورة" وراقبت عن كثب سلوكها وتصرفاتها وأفعالها وردود أفعالها، وحاولت أن أتوخى أكبر قدر ممكن من الحياد والموضوعية، وكتبت عدة مقالات في انتقادها وانتقاد رؤاها واتهمتها مرة بـ "تضخم الذات" واليوم أقول أنني كنت مخطئاً والأصح أن ذات "الثورة" استغرقت في موضوعها وتلاشت في ثنايا أوهامها ... ربما تسمى هذه الحالة بانفصام الشخصية، لا أدري!.
في البداية أكدت "الثورة" على سلميتها وأنكرت وجود أي مظاهر مسلحة فيها، وذلك منذ أحداث درعا. وجرى الهجوم على مساكن الضباط في صيدا وحاولوا سبي النساء (باعترافهن) وعرضت اعترافات بعض المسلحين على التلفاز، لكن القائمين على "الثورة" أنكروا وجعلوا من السلمية شعاراً بارزاً لهم. ثم جرت أحداث جسر الشغور ووقعت مجزرة راح ضحيتها المئات من عناصر الأمن، وحدثت اشتباكات عنيفة بين قوات الجيش والمسلحين ما زال صداها يرنَّ في آذاننا من شدة هولها، وأعلن عن تشكيل لواء الضباط الأحرار، لكن القائمين على الثورة تمسكوا بالإنكار، رغم أن الاعترافات بدأت تصبح أكثر وضوحاً وأكثر قرباً من الحقيقة. ثم جرت أحداث حماة وعرضت الشاشة صور المسلحين وألقي القبض على مرتكبي جرائم العاصي وسمعنا اعترافاتهم بالجرائم المخذية التي ارتكبوها والتي يندى لها جبين الإنسانية، إلا أن القائمين على "الثورة" ظلوا على إنكارهم وشددوا على شعار السلمية رغم أن القناع كان قد بدأ بالارتفاع عن الوجوه القبيحة وبدأت الحقيقة تطل بوجهها الصبوح، خاصة بعد أن أصبحت الدعوات إلى التسلح علنية وتم تشكيل عدة كتائب مسلحة. ثم جرت أحداث حمص وبدأت سلسلة من جرائم الاغتيال استهدفت خيرة العقول والأدمغة العلمية والفكرية والطبية، فكانت بمثابة الكشف الأخير عن الوجه الحقيقي للمجرم، ومع ذلك وكالعادة أمعن المجرم في الإنكار.
وهنا لا بد من ملاحظة هامة وهي : لو أن الحقيقة لا تظهر إلا باعتراف الفاعل، لما حوسب مجرم على جريمته، لذلك من العبث أن ننتظر من القائمين على "الثورة" أي اعتراف يربط بينهم وبين هذه الجرائم، وعلينا أن ننظر في الأدلة الواقعية التي تتكشف يوماً بعد يوم. فعلى سبيل المثال عندما تشتهر عصابة ما بارتكاب نوع معين من الجرائم، يكون من البديهي عند وقوع إحدى تلك الجرائم أن يشار بالاتهام إلى تلك العصابة التي اختصت بارتكابها، وبالنسبة لاغتيال العقول والأدمغة كلنا نعرف من هي العصابة التي مارست هذا النوع من الإجرام في ثمانينات القرن الماضي.
*****
وياليت الإجرام وقف عند حدِّ استهداف الأفراد والشخصيات، لكان الأمر أقل سوءاً، على ما تتمتع به هذه الشخصيات من مكانة عسكرية أو علمية أو فكرية بارزة. لكن الإجرام لم يقف عند حدٍّ ووضع نصب عينيه استهداف الوطن بكل كيانه وحدوده وسيادته واستقلاله، فلم يأنف، وقد عجز عن تنفيذ الجريمة، من أن يطلب العون من مجرمين دوليين لمساعدته في نحر عنق الوطن وتقطيع شرايينه تحت ستار الحماية للمدنيين أو التدخل بذريعة الشؤون الإنسانية أو التحرر من الاحتلال الصفوي على حد تعبير المجلس الثورة لتنسيقيات الثورة. فصار الوطن مشروع الضحية وهم ما زالوا ينادون بالسلمية، هذه السلمية التي لا يصح عندي إلا أنها مشتقة من "السلُّم" بغية اعتلاء الكرسي والجلوس على العرش فوق جماجم الجميع.
*****
ورغم قناعتي بوجود فئة تخرج بشكل سلمي للمطالبة ببعض الشعارات، إلا أنني منذ اليوم أحمل حتى هذه الفئة مسؤولية الاشتراك في كل الجرائم التي تحصل تحت ستار مظاهراتها واحتجاجاتها. وأعتبر أن رفضها للحوار الذي تجرية السلطات بغية حل الأزمة والخروج من هذه الورطة الوطنية، إقرارٌ منها برضاها عما يحصل من جرائم وقبولها بكل العنف المرتكب، والراضي بالشيء كفاعله.
ولدينا تجربة تاريخية مجهضة تدلنا بشكل يقيني على مخاطر عدم اللجوء إلى الحوار لحل هذا النوع من الأزمات، وهي تجربة لا تزال تداعياتها فاعلة في كل زاوية من حاضرنا المأساوي. فعندما ثارت الاحتجاجات ضد الخليفة عثمان بن عفان (ر) وسارت الحشود من الكوفة ومصر باتجاه المدينة مركز الخليفة، فإن العقل السياسي العربي وعلى رغم عدم خبرته السياسية في تلك الآونه، أدرك سريعاً وجوب إجراء حوار بين المحتجين والسلطة لإنهاء الخلاف وعودة الأمور إلى طبيعتها، وفعلاً عقدت عدت مجالس للحوار برعاية كبار الصحابة، انتهت بتوقيع وثيقة إصلاحية تأخذ بمعظم مطالب المحتجين. إن توقيع هذه الوثيقة يعتبر لحظة سامية من لحظات العقل السياسي العربي وكان من شأنها لو أتيح لها النجاح أن ترسخ مبدأ هاماً في التعامل بين السلطة والمعارضة وأن تكون النواة لعقد اجتماعي يعيد التوافق بين السلطة وبين جذرها الشعبي. لكن وللأسف فإن تجربة الحوار هذه أجهضت قبل اكتمالها إذ سرعان ما حدث انقلابٌ ما أعاد الأمور إلى تأزمها وكان من تداعيات ذلك أن قتل الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان (ر) ولا يخفى على أحد ما تركه هذا القتل من تأثير على مجمل التاريخ العربي والإسلامي وما كان له من دور في انتقال السلطة من صيغة الخلافة إلى صيغة الملك العضوض بشكل صريح وعلني ودون أي تجميل.
لذلك فإن من يرفض الحوار اليوم، هو كالذي رفض الحوار أو انقلب عليه بالأمس، لا يستهدف سوى الفتنة والقتل، وأن علينا إذا كنا مخلصين في ولائنا للوطن وحبنا إياه أن نتعالى عن كل ما هو شخصي وفردي وخاص وأن لا يكون لدينا سوى همّ واحد هو كيف ننقد الوطن من يدي من يريده أن يكون مشروع الضحية القادمة.
*****
الحوار هو المنطق الوحيد الذي يجب أن يسود، وكل منطق آخر هو منطق متهافت لا حجة له ولا دليل، لذلك إذا كان البعض من المعارضة يرفضون حقاً التسلح والعسكرة وتقديم الوطن قرباناً على مذبح السياسة، فإنني أطالبهم أن يعلنوا صراحة إدانتهم لكل جرائم الاغتيال والعنف والقتل التي تحصل أمام عيونهم، وأن يكفوا عن الدخول في متاهة تحميل المسؤوليات، لأن الجميع مسؤول وهم ضمن هذا الجميع بل على رأسه، وعليهم أن يقبلوا على الحوار ويتمسكوا به ويخوضوا معركته بأسلحتهم الفكرية والأدبية والسياسية وأن يحاولوا انتزاع ما يقدرون عليه من إصلاحات وأن يعتبروا ذلك خطوة في سبيل التغيير الديمقراطي الذي ينشدونه وينشده الجميع معهم. لأن التقدم خطوة على طريق التحول الديمقراطي دون أن تراق الدماء ودون أن نتهدد بالخطر الخارجي ودون أن نتعادى مع بعضنا خيرٌ ألف مرة من أن نكسب الديمقراطية ونخسر الوطن وأنفسنا.
ملاحظة: هناك من يلومني لأني أسميها "ثورة". وأنا أقول لهؤلاء: إن تسمية الأهل لابنهم الوليد "قمراً" لا تجعل منه قمراً بالفعل، ومع ذلك يناديه الناس بهذا الاسم.
التعليقات
تحية
إضافة تعليق جديد