حياة تضيئها رواية
يسلط الأدب ضوءاً خافتاً على الحياة، في معظم الأحيان، لكنه يعمل في حالات نادرة على إلقاء شعاعه الباهر على بعض لحظات العيش الأكثر صعوبة، والتي تبدو استثنائية في وقعها. وفي أحيان أخرى تنقلب الآية والمعيار، فبدلاً من أن يقلد الأدب الحياة تقلد الحياة الأدب فتبدو أحداث الواقع وكأنها طالعة من بين دفتي كتاب. في هذه اللحظات الكثيفة تقع براعة الأدب وخصوصيته وطبيعته الاستثنائية التي تضمن خلوده واستمراريته على رغم التحولات التكنولوجية المتسارعة، وحلول أشكال جديدة للتواصل أسرع وأشد وقعاً آنياً على جمهرة القراء والسامعين والمشاهدين. ما يتفوق فيه الأدب على أشكال التواصل الأخرى، من تقارير تلفزيونية وصور ومشاهد فيديو، هو البعد المجازي الرمزي، القابل للقراءة والتأويل بصورة مستمرة، وكون الأدب غير قابل للاستنفاد كما هي وسائل الاتصال والتعبير الأخرى.
قبل أيام نشرت بعض الصحف ووكالات الأنباء العالمية خبراً يبدو لافتاً ومثيراً للاهتمام، ويدل في الوقت نفسه على قوة الأدب وبعده الكاشف وطبيعته المقاومة والمعبرة عن المقاومة والصمود الإنسانيين. الخبر يقول إن مير حسين موسوي، المرشح السابق لرئاسة الجمهورية الإيرانية والمحتجز في الإقامة الإجبارية والممنوع من مغادرة بيته منذ شباط (فبراير) الماضي، أخبر ابنتيه اللتين سمح لهما بزيارته من السلطات الإيرانية، أن عليهما إذا كانتا تريدان أن تعرفا شيئاً عن وضع احتجازه أن تقرآ رواية غابرييل غارسيا ماركيز «خبر اختطاف». وفي الحال انتشر الخبر على شبكات التواصل الاجتماعي وسارع المئات، وربما الآلاف للبحث عن ترجمة رواية ماركيز إلى الفارسية، لفهم ما يرمي إليه موسوي في كلامه. وخلال ساعات كانت نسخ الرواية في المكتبات قد نفدت.
رواية الكاتب الكولومبي الشهير، والحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1986، «خبر اختطاف»، التي نشرها ماركيز عام 1996 (هناك ترجمة عربية لها بتوقيع صالح علماني)، تتحدث عن اختطاف عدد من الصحافيات والصحافيين من جابب جماعة بابلو إسكوبار، زعيم تجارة المخدرات الكولومبي المطلوب تسليمه الى الولايات المتحدة، وذلك للضغط على الحكومة الكولومبية من أجل عدم تسليمه وتسليم جماعته والاكتفاء بسجنه في ظروف مثالية داخل كولومبيا، وتخفيف الحكم عليهم بموجب إصدار تشريعات خاصة بتجارة المخدرات. وقد استند ماركيز في روايته تلك إلى وقائع حقيقية ومادة وثائقية قام بمدها بصياغة روائية ترفعها من وهدة التسجيل والوثائقية، وأضفى عليها من عبقريته الروائية وطاقته الخلاقة في السرد، وجعل الشخصيات تبدو حية على الورق. تتحرك الرواية على محاور عدة متنقلة في فصولها بين أماكن احتجاز المختطفين وأهاليهم الذين يسعون لدى الحكومة الكولومبية للمسارعة في وضع حل لإنقاذ المختطفين من سجنهم لدى بابلو إسكوبار.
ما يهمنا في رواية ماركيز هو قدرتها على تسليط الضوء على احتجاز معارض سياسي في حجم مير حسين موسوي، إضافة الى صاحبه مهدي كروبي، لدى السلطات الإيرانية، لمشاركتهما في تظاهرات خرجت لتأييد ثورات الربيع العربي في شهر شباط الماضي. فموسوي يسعى، بصورة من الصور، إلى تشبيه احتجازه في إقامة جبرية ممتدة باختطاف الصحافيين في رواية ماركيز، ومقايضة أنصاره على الهدوء وعدم القيام بأي تحركات مناهضة للسلطة! أو أنه ينوي الإشارة إلى ظروف الاحتجاز الصعبة التي يعيشها في منزله ممنوعاً حتى من مقابلة عائلته إلا تحت سمع رجال الأمن الإيراني وأبصارهم. والأهم من ذلك هو أن موسوي يستخدم عملاً روائياً للحديث بصورة مواربة مجازية عن وضعه الشخصي كمعارض سياسي.
اللافت أيضاً في هذه الحادثة الفريدة الأهمية التي تضفيها السياسة على الأدب، فرواية ماركيز هنا تأخذ أهميتها من إشارة رجل السياسة إليها، ويصبح الكتاب رائجاً لأن رجل السياسة تحدث عنه ولفت الانتباه إلى تشابه وضعه مع المختطفين في رواية غابرييل غارسيا ماركيز الذي رفع الحادثة المحلية من أفقها المحلي إلى أفق إنساني قادر على توحيد عذابات البشر وتراجيديا عيشهم في هذا العالم المضطرب.
فخري صالح
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد