مصر: الشارع المصري بين «غزوة» الإسلاميين وأزمة القوى المدنية
لا يجد المرء سوى كلمة «ضبابية» لتوصيف المشهد السياسي في مصر عشية أول انتخابات بعد ثورة 25 يناير. لعلّ هذه السمة تنطبق على مجمل العلاقات المعقدة بين القوى السياسية من ناحية، وعلى مزاج الشارع المصري وكلمته الحاسمة في صناديق الاقتراع من ناحية ثانية.
ولا يحتاج المرء إلى كثير من الوقت حتى يكتشف الفرق الواضح في المزاج الشعبي، بين أول زيارة للقاهرة غداة السقوط المدوّي لحسني مبارك، وبين آخر زيارة قبل نحو أسبوعين من انطلاق أولى الجولات الانتخابية يوم الثامن والعشرين من تشرين الثاني الحالي.
الملاحظة الأولى التي يمكن تسجيلها في هذا المشهد هي الانتشار المفرط للخطاب الإسلامي في الشارع المصري، بدءاً بآيات الذكر الحكيم التي تكاد ترافقك في كل سيارة أجرة تستقلها في شوارع القاهرة، وصولاً إلى الإعلانات الانتخابية لهذا المرشح الإسلامي أو ذاك على السيارات الخصوصية، وعربات «التوكتوك»، و«الميكروباصات».
الوضع لم يكن على هذا النحو قبل بضعة أشهر. بُعيد انتصار الثورة، كانت أغاني «إزاي» لمحمد منير، و «يا بلادي» لعزيز الشافعي، أو حتى «فين فلوسي» لنادر أبو الليف، أول ما تسمعه حين تستقل سيارات الأجرة المزدانة بملصقات ثورة 25 يناير.
قد يظن المرء للوهلة الأولى أن ثمة نزعة إسلامية متشددة تجتاح المجتمع المصري، وخصوصاً بعدما أتاح انهيار جهاز أمن الدولة للإسلاميين فرصة الظهور بشكل نافر على الساحة السياسية، وهو ما ترجم في التظاهرة المليونية يوم الثامن والعشرين من تموز الماضي، والتي يصطلح الناشطون على تسميتها بـ«جمعة قندهار»، وما تلاها، في اليوم ذاته، من هجمات لجماعة «التكفير والهجرة» على مراكز الشرطة في العريش.
يدرك مضيفك المصري التساؤلات الكثيرة التي تجول في خاطرك إزاء هذا الواقع، فيبادر إلى طمأنتك: «المصريون متدينون بطبيعتهم... لكنهم بعيدون كل البعد عن التشدد».
تنتظر قليلاً، فيأتيك الدليل على كلام محدّثك من سائق الأجرة نفسه: قبل الوصول إلى ميدان عبد المنعم رياض في وسط القاهرة، يتراءى مشهد زحمة السيارات في اليوم الأخير قبل بدء إجازة عيد الأضحى، لذلك الشاب الملتحي، والذي تبدو سيارته أشبه بمصلّى، لكثرة ما تحويه من شعارات إسلامية. يطفئ جهاز الراديو الذي يعلو منه درس ديني. يستغفر ربّه. ومن ثم يفاجئك بتشغيل أغنية شعبية - تبدو أقرب إلى الابتذال منه إلى الفن لعلّها تساعده على تحمّل عبء اجتياز تلك المسافة المتبقية قبل الوصول إلى ميدان طلعت حرب.
يستفزك المشهد - بالمعنى الإيجابي فتحاول بدورك استفزاز السائق لكي تفهم ذلك التناقض الحاد في سلوكه. تسأله عن خياراته الانتخابية فيجب «إذا صوتّ فسأختار مرشحي التيار الإسلامي». تكمل لعبة الاستفزاز الممتعة تلك، فتقول له مازحاً «ولكنهم يلوّحون بمنع الكحول والحشيش وربما أيضاً هذه الأغاني... الخ». ينظر إليك بجدية قائلاً: «بص يا باشا... هم يوصلوا للمجلس نعم... أما إذا منعوا الحشيش ح تلاقي الشعب بيدّيهم بالجزم».
يبادرك مضيفك بابتسامة عريضة: «ألم أقل لك؟ لا تحكم على المظاهر... الشعب المصري لا يمكن وضعه في قوالب جامدة».
مشهد كهذا يتكرر، بشكل أو بآخر، في محطات عديدة من جولتك المصرية، إن في حديث رجلين أمام «فرش» لبيع الصحف... أو في نقاشات بين «شلّة» من الشبان والشابات في أحد مقاهي شارع البورصة في وسط البلد... أو في مقابلات تجريها مع «العامة» و«النخبة» على حد سواء.
غزوة الصناديق
وسط هذا المشهد الزئبقي، يستعد الإسلاميون، أي جماعة «الإخوان المسلمون» و«التيار السلفي» ، لـ«غزوة الصناديق الثانية»، بعد «غزوة الصناديق الأولى»، أي الاستفتاء على التعديلات الدستورية في آذار الماضي، والذي رأى أتباع التيار الإسلامي ومنظّروه في نتائجه انتصاراً لشعار «الإسلام هو الحل»، وإن كان الواقع هو أن المصريين قد صوّتوا عملياً في هذا الاستفتاء على الاستقرار والإسراع في تسليم السلطة لحكومة مدنية، حسبما يوضح رئيس تحرير إحدى الصحف المصرية البارزة.
ينشط الإسلاميون في كل مكان. في أحياء القاهرة وعشوائياتها، في الإسكندرية حيث معقلهم الرئيسي، وفي الأرياف حيث يبحث المواطنون عن خيار جديد بعدما سئموا «جماعة برامج التوك شو»، على حد توصيف أحد باعة الصحف في ميدان التحرير لـ«النخبة» السياسية والإعلامية.
تكمن قوة الإسلاميين في عاملين أساسيين، هما التنظيم والمال. ويجمع المراقبون على أن «الإخوان» هم الأكثر تنظيماً مقارنة بغيرهم من القوى الإسلامية والليبرالية واليسارية. ويعيد أحد الشبان «الإخوانيين» ذلك إلى الخبرة التي اكتسبتها الجماعة نتيجة لسنوات طويلة من القمع، والتي جعلت منها تنظيماً حديدياً قادراً على التحرك بسهولة في الشارع في فترة ما بعد رفع الحظر. أما الانشقاقات التي طالت الجماعة في الفترة الأخيرة، فلا تعدو، بحسب الشاب «الإخواني»، سوى «زوبعة في فنجان» قد تنتهي بعد أول انتخابات، ملمحاً إلى أن الجماعة تملك من البراغماتية ما يكفي لإعادة استقطاب هؤلاء المنشقين في إطار جبــهة إسلامية واسعة قد تضم السلفيين.
أما السلفيون، وهم أكثر عدداً من «الإخوان»، فتكمن قوتهم في التمويل الذي يتلقونه من جهات إسلامية عديدة، معظـــمها من السعودية، لكنهم يفتقدون إلى التنظيم الذي تتمتع بهم «الإخوان» باستثناء «حزب النور» الذي أظهر حضوراً لافتاً منذ تأسيسه قبل أشهر. وبالإضـــافة إلى قلة التنظيم، فإن نقطة ضعف السلفيين تتبدّى في تعدد اتجاهاتهم ومرجعياتهم، وهو واقع مردّه إلى أن هؤلاء لم يبرزوا على الساحة السياسية بشكل فعلي سوى بعد انتصار ثورة 25 يناير، إذ أن معظــمهم كان إما مهادناً للنظام السابق، أو متعاوناً معه، أو أنه اختار الدعوة الدينية بديلاً عن العمل السياسي لسنوات طويلة.
وفي موازاة «الإخوان» و«السلفيين» ثمة غالبية إسلامية صامتة، تمثلها الطرق الصوفية، التي يقال إن عدد مريديها يتجاوز الخمسة عشر مليون مصري. لكن معظم هذه الطرق الصوفية آثر طويلاً عدم خوض غمار السياسة، ما جعلها الأقل تنظيماً وقدرة على تحريك الشارع.
وإذا ما أردنا تبسيط خريطة القوى الإسلامية في مصر يمكن القول إن الصوفيين هم الأكثر عدداً، يليهم السلفيون، ومن ثم «الإخوان». وأمّا لجهة التنظيم فالمسار يتخذ منحى عكسياً إذ أن «الإخوان» هم الأكثر تنظيماً، يليهم السلفيون، ومن ثم الصوفيون.
وفيما تتفاوت التوقعات بشأن مدى قدرة الإسلاميين على حصد المقاعد البرلمانية، فإن التقديرات تشير إلى احتمال حصولهم على 30- 40 في المئة من مقاعد البرلمان على أقل تقدير، في سيناريو يبدو مشابهاً لما جرى في تونس قبل أيام، وهو ما يلخصه صحافي شاب بعبارة تتكرر اليوم على ألسنة المصريين وهي أن «التونسيين صنعوا ثورة فتبعناهم... واليوم صوّتوا للإسلام السياسي ويبدو أننا سنتبع خطاهم».
أزمة القوى المدنية
لكن قوة الإسلاميين لا تقتصر على التنظيم والمال فحسب، فهم يحتكرون أيضاً الخطاب الديني، الذي له تأثير كبير على الشعب المصري، وهو قادر بشكل أو بآخر على ملء الفراغ في ظل غياب البديل ذي الطابع المدني، خاصة أن معظم القوى السياسية، ونخبها السياسية والفكرية، بالإضافة إلى ائتلافات شباب الثورة، تواجه اليوم أزمة حادة، تجعلها غير قادرة على التفاعل الإيجابي مع الشارع المصري ذي الأولويات المختلفة.
ولعل ما يزيد الطين بلّة، هو أن القوى المدنية فوّتت على نفسها فرصة ذهبية لتشكيل جبهة سياسية موحدة خلال الثورة، أو حتى استغلال الأشهر العشرة التي سبقت الانتخابات لتنظيم صفوفها.
ومن الواضح أن تلك القوى قد انزلقت طوال الأشهر الماضية إلى فخ المفاضلة بين «الانتخابات أولاً» و«الدستور أولاً»، ما أحدث شرخاً كبيراً في صفوف القوى السياسية في مصر، وقد أحسن المجلس الأعلى للقوات المسلحة استخدامه لتنفيذ أجندته المتعلقة بانتقال السلطة في المرحلة الانتقالية التي ستمتد حتى العام 2013، والتي سيسعى المجلس العسكري من خلالها إلى الحصول على أكبر قدر من الضمانات للحفاظ على نفوذه في الحياة السياسية.
وبرغم مشروعية ما تطرحه تلك القوى، وخصوصاً المطالبة بوضع دستور جديد لمصر الثورة، وتشكيل مجلس رئاسي مدني لإدارة المرحلة الانتقالية، فإن أولويات الشارع المصري كانت في مكان آخر، إذ رأى المواطن العادي أن الوقت غير مناسب للدخول في صراعات مع المؤسسة العسكرية في ظل الانفلات الأمني المنظم الذي يقلق كل مصري منذ يوم الثامن والعشرين من كانون الثاني الماضي.
أما الخيارات الانتخابية للقوى المدنية فلم تكن أفضل حالا، فقد انضوى حزب الوفد الليبرالي في تحالف انتخابي مع «حزب الحرية والعدالة» الإخواني (التحالف الديموقراطي)، لكنه سرعان ما انسحب منه، متسبباً بحال من البلبلة في صفوفه، عززها ترشيح الحزب عدد من المصنفين في خانة «فلول الحزب الوطني» إلى قوائمه الانتخابية.
أما القوى الأخرى، فسعت إلى تشكيل تكتل انتخابي آخر، ضم 18 حزباً ليبرالياً وعلمانياً ويسارياً (الكتلة المصرية)، لكنه سرعان ما تقلص إلى ثلاثة أحزاب نتيجة لخلافات حادة على توزيع المقاعد.
كذلك، يبدو رموز ائتلاف شباب الثورة في مأزق من نوع آخر. فإلى جانب إمكاناتهم المحدودة، التي تجعلهم غير قادرين على منافسة المرشحين النافذين على المقاعد الفردية، فإنّ معظم القوى السياسية قررت أن تتخلى عنهم مراعاة لمصالحها الانتخابية. كذلك، فإن كثراً يرون أن هؤلاء الشبان قد استدرجوا إلى فخ مزدوج، إذ تم تشتيت طاقاتهم من خلال استحداث عشرات الائتلافات الشبابية، فيما جرى اجتذاب أبرز رموزهم الفاعلة من قبل وسائل الإعلام، ما أوجد شعوراً بأن هؤلاء الناشطين اختاروا أضواء التلفزيون على حساب التفاعل المباشر مع الجماهير.
برغم ذلك، تراهن القوى المدنية على ثلاثة عوامل رئيسية من شأنها إعادة خلط الأوراق، إن قبل الانتخابات أو بعدها، ومن بينها ارتفاع نسبة التصويت، التي يرى العديد من أنصار تلك القوى أنها ستقلص كثيراً من قوة الإسلاميين، باعتبار أن «قاعدتهم الانتخابية ثابتة»، انطلاقاً مما أظهرته نتائج آخر جولتين انتخابيتين في العامين 2010 و2005. لكنهم يرون، مع ذلك، بأن هذا الواقع لا يعني أن هذا المكسب سيصب في مصلحة القوى المدنية وحدها، بل سيتشارك فيه المرشحون المستقلون والفلول.
غير أن آخرين يُبدون خشية من أن يحسن الإسلاميون استغلال ارتفاع نسبة التصويت لصالحهم. ويتردد في هذه الأيام أن الإسلاميين يستعدون لحشد جماهيرهم بعد صلاة الفجر في يوم الانتخاب، بحيث يتصدر هؤلاء طوابير الناخبين، ما من شأنه عرقلة العملية الانتخابية أو أبطاؤها.
وثمة عامل آخر يراهن عليه أنصار القوى المدنية، وهو أن الخطاب المتطرف الذي يقدمه المرشحون الإسلاميون ربما يثير نفور شرائح واسعة من الشعب المصري، وخصوصاً الأقباط والعاملين في القطاع السياحي، لكنهم يشددون على أن هذا النفور يبقى عديم الجدوى ما لم يقترن بمشاركة هؤلاء في العملية الانتخابية عبر التصويت ضد الإسلاميين.
كذلك تراهن القوى المدنية على عامل لا يقل أهمية في فترة ما بعد الانتخابات، وهو أنه في حال نجح الإسلاميون في تشكيل الحكومة، فإن رصيدهم سينفد لدى الشارع المصري، خصوصاً في ظل التحديات الداخلية والإقليمية التي ستواجهها مصر في المرحلة المقبلة.
لكنّ أوساط التيار الإسلامي تلمح إلى أن الإسلاميين لن ينزلقوا إلى فخ كهذا. ويقول البعض إن الإسلاميين قد يفضلون في المرحلة الأولى تشكيل حكومة ائتلافية لا يحصلون فيها على أي من الوزارات السيادية، في مقابل الحصول على معظم الوزارات الخدماتية، بما يجعلهم بمنأى عن الانتقاد في ما يتعلق بمقاربة القضايا الكبرى، ويضمن في الوقت ذاته تعزيز شعبيتهم في الشارع.
صعوبة التوقع
ولعل ما يضفي على المشهد الانتخابي تعقيدات إضافية هو أن المصريين لم يعتادوا على أسلوب القوائم الانتخابية، ولذلك فإن الأحزاب تتعامل مع القوائم الانتخابية بأسلوب المقاعد الفردية، ولهذا تراها تراهن على قوة هذا المرشح أو ذاك بحيث يحتل صدارة اللوائح.
ويضاف إلى ذلك، التوازنات المعقدة التي تطغى على المشهد الانتخابي في المحافظات والأرياف، حيث ما زالت النزعة القبلية والعائلية عاملاً مؤثراً في الحياة السياسية.
ثمة مقولة تتردد على لسان النخب السياسية والإعلامية وهي أن أي محلل انتخابي، مهما بلغ من الخبرة، يعجز عن التوقع بما ستؤول إليه المعركة الانتخابية. ولعل ذلك يجد تفسيره في استطلاعات الرأي، المحلية والعالمية، التي تفيد بأن 70 في المئة من المصريين سيحسمون خيارهم فقط حين يدخلون وراء العازل في مركز الاقتراع... وفي ما عدا ذلك، فإن كل ما يطرح من توقعات لا يعدو كونه مجرّد نقاش نخبوي على صفحات الجرائد أو في مقاهي وسط البلد.
وسام متى
المصدرك السفير
إضافة تعليق جديد