السوريون يتسممون وترياقهم إلى زوال
لكل سم ترياقه.. وتصل تكلفة العلاج بالترياق للمريض الواحد أحيانا إلى 500 ألف ليرة، المعلومة كانت صادمة، ليست الكلفة ما كان مفاجئاً، وإنما هذه الترياقات تقدم لكل السوريين في حالات التسمم وبالمجان، وهذه الترياقات المجانية إلى زوال..
بدأ البحث بالسؤال بماذا يتسمم السوريون؟ وما هي أكثر حالات التسمم التي تراجع أقسام الإسعاف في المشافي.
وكانت البداية من مشفى دمشق(المجتهد) حيث قال الدكتور ناجي محمود- رئيس قسم الإسعاف: يستقبل القسم عدة أنواع من التسممات، والتي يصنفها المشفى ضمن إحصاءاته إلى تسممات غذائية، كيماوية، دوائية، لدغات الحشرات والعقارب والأفاعي وسموم مجهولة.
وأضاف: المشفى الحلقة الأخيرة التي يلجأ إليها المسمم فعندما يصل يكون تعرض لأحد هذه التسممات، إما عن طريق الخطأ أو بقصد الانتحار أو تسمم بجرعة زائدة من المخدر وتنتشر بين الشباب.
في مشفى المواساة لا تختلف الحالات التي يستقبلها عن حالات المجتهد ويشرح الدكتور زياد الحريري اختصاصي طب طوارئ في قسم العناية المشددة بالمواساة أن التسممات التي تراجع المشفى إما تسممات عرضية (كتناول مادة كيماوية أو دوائية عن طريق الخطأ) أو نتيجة شدّة نفسية ويكون بقصد الانتحار.
الفتيات.. الأكثر تسمماً دوائياً..
في البحث أكثر عن أسباب التسمم وأنواعه، كان للتسمم الدوائي الحصة الأكبر بينها فالتفكير بالانتحار والإقدام عليه ولو كان من باب لفت الانتباه يبدأ غالباً بالتفكير بتناول الأدوية، والفتيات هن الأكثر تسمماً نتيجة تفكيرهن العاطفي أو تعرضهن لضغوطات من المجتمع والأهل وتكثر حالات التسمم بعد نتائج الامتحانات الثانوية وعيد الفالنتاين. ولكن تبقى تسممات الرجال بالأدوية هي الأخطر كما يؤكد ذلك د. الحريري فأكثر من 90% من المسممين دوائياً هم من الفتيات ونسبة 3-5% هم من الرجال، فلدى الرجال تكون عن عمد وبقصد الانتحار، ومعظم الفتيات اللواتي راجعن المشفى لم يكن تناولن الدواء ولكن تطبق عليهن مادة الفحم الفعال بكل الأحوال ولا تكذب المريضة ونسبة الوفيات بين الفتيات قليلة جداً وقد تحتاج بعض الحالات إلى عناية مشددة لوصولها إلى المراحل النهائية.
المسكنات أولاً
الدكتور ماهر قولي من مركز السموم الوطني أكد لنا المعلومات بالأرقام، فوفقاً للإحصاءات الأخيرة في المركز بلغ عدد الإناث المسممات دوائياً 981 بينما عدد الذكور 462 فقط في عام 2010. ولكن هذه الإحصاءات هي فقط ما يصل للمركز من استمارات وفي الواقع يراجع المشافي أعداد أكبر بكثير من ذلك، وأيضاً الإحصاءات الأخيرة في 2010 ليست على مدار العام بسبب نقل مكان المركز وعدم توفر إحصاءات بعد نقله وهذه إحدى المشكلات التي يعاني منها المركز بينما لدينا 2270 حالة تسمم في الـ 2009 راجعت المشافي منها 1578 من الإناث.
لا يخلو منزل في سورية من الأدوية ابتداء من أدوية الرشح والزكام وانتهاء بالأدوية القلبية ولكن يختلف مستوى السمية والتأثير ما بين دواء وآخر وتختلف طريقة الحصول عليه، فمنها ما لا يصرف إلا بموجب وصفة طبية، والبعض الآخر ينتشر في البقاليات كالسيتامول والبانادول.
من خلال إحصاءات مركز السموم الوطني يصنف د. قولي الأدوية الأكثر سمية فيقول: التسمم رقم واحد بالأدوية هو التسمم بالسيتامول، نتيجة توفره بأسعار رخيصة، وهو ذو سمية عالية فـ20 حبة منه كفيلة بإحداث التسمم، ويستخدم في حالات الانتحار رغم الإنكار وتأتي بعده أدوية القلب التي تسبب بطء في ضرباته وتكثر هذه الحالات بعد نتائج الثانوية العامة وعيد الفالنتاين والفتيات هن الأكثر تسمماً.
والدكتور الحريري من خلاله خبرته العملية يقول في هذه التسممات: التسممات الدوائية أغلبيتها تسممات من الأدوية الشائعة بين الناس كالسيتامول والباراسيتامول والبروفين ومضادات الاكتئاب. لسهولة الحصول عليها وبأسعار رخيصة، مشيراً إلى أن 72 حالة تسمم دوائي راجعت مشفى المواساة في ثلاثة الأشهر الأولى من 2012 منها 56 من الإناث. بينما راجعت مشفى المجتهد وفقاً لمكتب الإحصاء 851 حالة تسمم دوائي منها 505 من الإناث.
الميدرالين.. سم الأطفال
يتابع الدكتور قولي تصنيفه للأدوية فيقول: عند الأطفال يأتي في المرتبة الأولى التسمم بالميدرالين وهو المنوم الشائع للأطفال، ويأتي هذا التسمم إما عن طريق إعطاء الأم لطفلها جرعة أكبر من اللازم عن طريق الخطأ، أو أن يتناوله الأطفال وحدهم نتيجة الإهمال من الأهل واقترحنا على وزارة الصحة أن تباع هذه الأدوية بموجب وصفة طبية حصراً ولكن لا حياة لمن تنادي.
البوتكس.. أخطر السموم الغذائية
يفرق الأطباء بين التسمم الغذائي وعدم القدرة على التحمل، بالرغم من إدراج التصنيفين تحت مسمى واحد هو التسمم الغذائي وحسب الدكتور قولي التسممات الغذائية إجمالاً نادرة ولكن ما يكثر هي حالات عدم التحمل الغذائي، فعند تناول السمك مع اللبن مثلاً ينتج في المعدة لبنات اليود التي لا تتحملها معظم الأجسام ما يؤدي للإقياء وألم المعدة وهي أعراض مشابهة لحالات التسمم الغذائي. ونشخص الحالة بالتسمم الغذائي عندما يكون الغذاء الذي تناوله المراجع فاسداً وتشكلت فيه عقديات مذهبة فرزت المسوم ونجد ذلك غالباً في الأطعمة كالمايونيز والشاورما.
ولكن أخطر أنواع التسممات الغذائية- وهو مكلف للغاية- هو الوشيقية (البوتاليزم)، وهذا يتشكل في الأغذية المحفوظة (التونة- السردين- المرتديلا). والمعلبات المنتفخة هي التي يوجد فيها هذا التسمم اللاهوائي الذي ينتج عنه سم البوتكس والذي يسبب شلل العضلات.
الحريري يشرح ذلك أيضاً: فيقول عن التسمم أنه غذائي عندما تراجع المشفى عدة حالات من العائلة نفسها فيكون التسمم منزلياً (كتناول الرز بعد تسخينه عدة مرات)، أو من المنطقة نفسها ويكون المسممون تناولوا الغذاء من مكان واحد، وأغلب حالات التسمم الغذائي هو تسمم جرثومي أي التهاب معدة وأمعاء ويمكن علاجه، ولا يوجد حالات وفيات في التسممات الغذائية فهي نادرة جداً.
ويضيف إلى ذلك د. ناجي: التسمم الغذائي يكون من إضافة مواد صنعية فاسدة أو منتهية الصلاحية أو استخدام مواد غير صالحة مع المواد الغذائية، والأكثر تسمماً بالمواد الغذائية هم من فئة الشباب ويعود ذلك لوجود هذه الفئة غالباً خارج المنزل وتعتمد في غذائها في عملها أو أماكن دراستها على الوجبات في المطاعم وذلك ناتج عن نقص في المتابعة والمراقبة من الجهات المعنية.
التسمم الكيماوي.. الكلور (المنزلي) أولاً..
السوريون آمنون كيماوياً- على ذمة الإحصاءات والأطباء- فلا تسممات خطرة بالمواد الكيماوية وتندر حالات التسمم بالمعادن الثقيلة ويندرج تحت عنوان التسمم الكيماوي كل ما يدخل في تركيبه مواد كيماوية.
واشار الدكتور جمال أبو قرعة رئيس وحدة العناية المشددة في مشفى دمشق الى ان التسمم الكيماوي يشمل التسمم بالمواد الكيماوية مثل المواد الكاوية أو المواد الصنعية الكيماوية، ويتعرض لها المسمم كأبخرة أو بالتماس مع الجلد ولكن لم نتعامل مع حالات خطرة من التسممات الكيماوية، وأغلبها تسممات بمواد المنظفات المنزلية ويأتي في الدرجة الثانية التسممات بالمواد الكيماوية الصنعية.
ويؤكد ذلك د. الحريري بقوله: التسمم بالمواد الكيماوية يأتي غالباً من مادة الكلور المنزلي المستخدم في التنظيف وهذا بحاجة لتوعية ربات المنازل لاستخدامه ووضعه بعيداً عن متناول الأطفال كون أغلب الحالات تأتي نتيجة شرب الأطفال لهذه المادة عن طريق الخطأ، أما التسممات الكيماوية النوعية فلم تراجعنا أي حالة في الـ 10 السنوات الأخيرة والتسمم بالمعادن الثقيلة نادرة جداً وتأتي بعض حالات التسمم العرضي من المعامل.
للتسمم في الريف.. مواسم
لموسم الصيف نتائج أخرى في إحصاءات حالات التسمم، وقبل الصيف بقليل أيضاً أو ما يمكن تسميتها أشهر الزراعة كما فضل الدكتور قولي تسميتها، فهنا تبدأ حالات التسمم بالمبيدات الحشرية التي تستخدم في هذه الأوقات من قبل المزارعين ويبقى لسم العقارب والأفاعي نصيبها في حر الصيف وعن هذه التسممات يقول رئيس وحدة العناية المركزة في مشفى دمشق: نستقبل مسممين بالمبيدات الحشرية كسم الفئران، والمستخدمة في رش المحاصيل ولاسيما في فصل الصيف فهذه المواد الخطرة تباع ومن دون أية رقابة عليها وموجودة في متناول الجميع.
وراجعت المشافي العامة 635 حالة تسمم بالمبيدات الحشرية في 2009 و292 في 2010 حسب عدد الاستمارات التي وصلت لمركز السموم.
ولكن الترياق إلى زوال
يقدم مركز السموم الوطني الاستشارات والترياقات بشكل مجاني ولجميع المواطنين على مدار 24 ساعة منذ إحداثه في عام 1994 وتصل تكلفة العلاج للمريض الواحد إلى 500 ألف ليرة في بعض التسممات وهو يزود مشافي القطاعين العام والخاص بالترياقات والفحم الفعال وبوجود المركز تنخفض نسبة الوفيات من التسممات إلى 50% إلا إذا وصلت الحالات إلى الإسعاف في مراحلها النهائية، فنسبة 30% من حالات التسمم التي تراجع المشافي يفترض أن تؤدي إلى الوفاة.
يعاني المركز عدة مشكلات تحرم المرضى من ترياقاتهم.. فالمركز غير ربحي ولا يتقاضى لقاء خدماته، ما جعل إدارة مشفى المجتهد الجديدة تطالب بمكان المركز في مشفى دمشق لتحوله إلى قسم للقثطرة القلبية التي تدر أرباحاً أكثر للمشفى، ولتبعثر أقسام المركز الأساسية واللازمة لإتمام عمله، فاليوم يقبع المركز بالبناء المحاذي للباب الخلفي من مشفى المجتهد، وما تبقى منه بعد نقله من القسم الذي خصصه له وزير الصحة الأسبق إياد الشطي هو قسم المعلومات والذي بسبب ما جرى من تغييرات لم تدخله أية معلومة أو استمارة على برامجه منذ 2010.
يقول الدكتور قولي عن ذلك: المركز شهد هبوطاً في مستوى أدائه في الآونة الأخيرة، وسيتوقف يوماً ما في حال بقي الوضع على ما هو عليه فالمريض يجب تقييمه سريرياً ومعلوماتياً ومخبرياً مبيناً: ما تبقى لدينا الآن في المشفى قسم معلوماتية متوقف فعلياً، أما المخبر فتم نقله إلى خارج المشفى (إلى منطقة القصاع)، ولا يوجد مكان لتقييم المريض سريرياً.
وعن سبب تراجع المركز وعدم اهتمام الجهات المعنية به، يشير قولي إلى أن المسألة متعلقة بالأشخاص في هذه الجهات وبأهوائهم، فعندما كان الدكتور إياد الشطي وزيراً للصحة أولى اهتماماً بمركز السموم وخصص له القسم الذي نقلته منه الإدارة الجديدة في المجتهد وحتى المديرون الفرعيون يلعبون دوراً بذلك، فحسب تغير المدير تتغير المعلومات الواردة لنا من المحافظات.
الاستمارات.. إهمال من العام وتهرب من الخاص..
أنشأ الدكتور قولي في المركز نظام المعلومات 2002، وأشرف عليه ليساعد في جمع المعلومات وتراكمها، ولتساهم في اتخاذ القرارات بناء على معلومات وأرقام ، وبدأ العمل بما يسمى استمارة المريض التي توزع على كل المشافي الخاصة والعامة والواجب إرسالها إلى مركز السموم لتفريغ البيانات.
المشكلات التي تحدث عنها الدكتور قولي هي في عدم التزام الأطباء والمشافي بإرسال الاستمارات إلى المركز، ويقول: تصلنا حوالي 4 آلاف استمارة سنوياً، ولكن إذا عدنا إلى الواقع فإن ما يراجع المشافي يزيد على 20 ألف حالة تسمم فاستمارات المشافي الخاصة لا تصلنا، ولاسيما بوجود قانون يعاقب المنتحر، فتلجأ الأغلبية إلى المشافي الخاصة حتى لا تتعرض للمساءلة القانونية، وثانياً إهمال الأطباء فبعضهم يحصل على الاستشارة، ولكن لا ترسل لنا استمارة المريض، كذلك لا ترسل الاستمارة من مديريات الصحة، فهناك الكثير منها لا ترسلها نهائياً، وتكون الإحصاءات صفر% من حالات التسمم لدينا، وبالعودة للجداول الإحصائية الواردة من المحافظات نجد عدم وصول استمارات من بعض المحافظات، ففي 2004 لم تصل من محافظة القنيطرة سوى استمارة تسمم واحدة على مدار العام، بينما وصلت من إدلب 11 استمارة فقط في 2005، واستمارة واحدة من دير الزور في العام نفسه.
تعثر.. وإنجازات
رغم الإهمال الذي يلقاه المركز حالياً.. ورغم.. وعدم منح كادره الطبي أية حوافز مادية أو معنوية تشجعه على الاستمرار في المركز إلا أنه قام بتطوير ترياقات لما يسمى بالتسممات البيئية التي تنتج عن لدغات العقارب والأفاعي بالتعاون مع مركز البحوث العلمية، وتم إنتاج الترياق النوعي لهذه الأفاعي والعقارب، وكان هذا من الأسباب التي جعلت الدول الأخرى في المنطقة تطلب الاستشارة والترياق من المركز في سورية.
حلول مرفوضة
طرح الأطباء في المركز حلولاً كأن تكون حالات التسمم بقصد الانتحار مأجورة للحد منها وقدم اقتراح حول دفع المشافي الخاصة لتكلفة الترياق أو جزء من التكاليف، ولكن مع رفض المشافي الخاصة لذلك بقيت الترياقات توزع لها بالمجان، بالرغم من وجود معلومات عن تقاضي الكثير من المشافي الخاصة تكلفة العلاج وبأسعار خيالية أحياناً.
بالأرقام
4960 عدد المتسممين عام 2002 وفقاً لإحصاءات مركز السموم و4323 في 2003 بينما وصل العدد إلى 4799 في 2004 و3180 لعام 2005 و3821 في 2006 ويعود العدد ويرتفع في 2007 إلى 4962 ويصل إلى 6252 في 2008 وفي السنة الأخيرة من الإحصاءات الكاملة 2009 وصل العدد إلى 4103 بينما في الـ 2010 وبسبب نقل المركز من مكانه المخصص له في المجتهد إلى مبنى غير مخدم وقديم لم يستطع الأطباء إكمال الإحصاءات ومنذ نقله لم تعد البيانات تدرج على برامجه فكانت الإحصائية الأخيرة هي في الـ 2010 وغير كاملة ووصل عدد المتسممين إلى 4130 وهذا وفقاً للدكتور قولي هي نسبة 30% من الواقع في جميع المحافظات.
أ سنا المنعم
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد