بيتـر هندكـه: مشكلتـي ليسـت الحقيقــة بـل الرغبــة فـي أن أكـون واقعيـاً
يميل كثيرون إلى اعتبار أن بيتر هندكه، اليوم أفضل كاتب باللغة الألمانية على الإطلاق، إذ عرف خلال مسيرة خمسين سنة بالكتابة، وعبر تجريبه للعديد من الأنواع، أن يفرض حضوره على المشهد الثقافي في العالم. يمكن مثلا أن يقفوا تجاه آرائه السياسية التي تزعج دوماً المؤسسة الغربية، لكن لا أحد يستطيع أن ينكر فرادة هذا الكاتب، الذي عرف كيف يدخل عميقاً إلى أسرار النفس البشرية، ليكتب وحدة الكائن في العالم المعاصر.
مجلة «فلسفة» الفرنسية، أجرت مع الكاتب حواراً مطولاً في عددها لشهر تموز الماضي، هنا ترجمة لأبرز ما جاء فيه.
÷ سافرت كثيراً في أرجاء العالم: اسبانيا، الولايات المتحدة، اليابان، الخ... قبل أن تحط الرحال في ضاحية باريس حيث تقيم من ثلاثين سنة. لماذا غادرت النمسا، ولمَ اخترت هذا المكان؟
} صحيح أنني غادرت النمسا، لكن ذلك كان جسدياً فقط. ثمة جزء مني بقي هناك، مع أجدادي والينابيع والمراعي والمقابر وأيضاً هناك اللغة الألمانية التي هي لغتي الأم، حتى وإن كانت والدتي سلوفينية. لم أنجح مطلقاً في سكن اللغة الفرنسية، إذ أن قواعدها تبقى غريبة عليّ. ومع ذلك، فإن باريس بقيت بالنسبة إليّ كأنها مكة أو القدس. جئت إلى هذه المدينة المرة الأولى العام 1970. في النمسا، كنت أشعر بأني مراقب طيلة الوقت، تنقصني الحرية. في باريس، كيف أشرح ذلك؟ ما من مياه في هذه المدينة ومع ذلك وجدت معابر في كلّ مكان، ممرات. حين بحثت عن بيت لأستأجره مع ابنتي البكر، حط بي الرحال في كلامار. منذ اللحظات الأولى لإقامتي هنا، قلت لنفسي: «هذا هو المكان» وذلك عائد إلى لون السماء، إلى خيط الأفق، إلى التلال المحيطة. بدأت بالسير على طول خطوط السكة الحديد. أعشق هذه المناظر الطبيعية التي تشتت ذهني. تحت قدمي قد تجد هناك أنواعاً من الفطر، وفي أسفل المشهد، هناك مرأى باريس مع برج إيفل. كان ذلك يشكل علاقات غريبة. فأدركت أن الخط الدائري كان البعد المناسب لي.
÷ هل تحب الخط الدائري لأنك ترفض أن تجد نفسك بالقرب من مركز السلطة؟
} أحب السلطة، لكن السلطة المخفية التي لا نستطيع وصفها. وبخلاف ذلك، لا أحب السلطة المؤسساتية.
÷ درست الحقوق في غراس بين 1961 و1965، ومن ثم تخليت عن ذلك. ومن يومها لم تمارس أي مهنة، فيما عدا الكتابة؟
} لم تجلب لي هذه الدروس أي فرح. الشيء الوحيد الذي كان يهمني، تاريخ الحقوق، وبخاصة القانون الروماني والكنسي. لكن كما تعرف لا تشكل الحقوق نظاماً يمكن دراسته ونحن في العشرين من عمرنا، على العكس من الطب وعلم الجيولوجيا. لأننا، في هذا العمر، لا يمكننا إقامة علائق بين التجريد والواقع، بين المبادئ والأوضاع الحسية. وحدها التجربة المعيشة تهيئك لهذا العلم... قمت ببعض الأعمال الصغيرة هنا وهناك خلال فترة دراستي، في مصانع وفي منشرة عمي، إلا أنني كنت شخصاً خاملاً. ما عدا الكتابة، ماذا كان يمكنني أن أعمل؟ أحببت دائماً المهن اليدوية. وأتسلى بدهن الحواجز الحديدية، تشذيب العشب.. يكفيني هذا. حين أبري القلم أجد سعادة. أحب أن أكتب بيدي وأن أحس القلم. في العمق، أعجب بالناس الذين يعملون بأيديهم ولا أجد نفسي مختلفاً عنهم. أشعر دائماً بأنني حرفي.
÷ سبب شهرتك كانت مسرحية «إهانة الجمهور»، في العام 1966. في مقدمتها تقول إنها «مسرحية محكية»: إنها لا تقترح أي حبكة، أي تمثيل للعالم. هناك ممثلون يدخلون فوق الخشبة ويبدأون بشتم الجمهور. هل قررت يومها أن تحطم كل قواعد المسرح؟
} في العام 1964 بدأت أغاني البيتلز والرولينغ ستونز ومعها بدأت حيوية الروك. أوحى لي ذلك بفكرة أشبه بنور صوتي. أضف إلى ذلك، أنني كنت مع زوجتي الأولى، التي كانت ممثلة، نذهب كثيرا إلى المسرح. لم يكن مكاناً يسرني. كنت أشعر باشمئزاز فرح تجاه المسرح، إن سمحت لي بقول هذا. لهذا رغبت في أن أضع حيوية أغاني البيتلز على خشبة المسرح.
كاتب محلي
÷نجد أن الشخصيات في مسرحياتك المحكية تحمل خطاباً، لكن المسرحية بحد ذاتها لا تروي شيئاً؟
}أجل، حدثت الأمور على هذا الشكل، لكن لا تنظر إلى الأمور على أنها نتيجة ايديولوجية ما أو رغبة طليعية. هناك العديد من الأصوات داخلي. لست مصاباً بانفصام في الشخصية، بمعنى أنني لست مجنوناً.. خلال النهار، ثمة الكثير من الأصوات تتحدث داخلي وتتعارض، تشتمني وتداعبني، مثلما تشتم العالم وتداعبه. في مسرحي، أتركها تُعبّر عن نفسها. حتى وإن كنت لا اعتبر نفسي مسرحياً بل أنا كاتب ملحمي. حكائي وملحمي.
÷ كان برتولت بريشت يدّعي أنه يكتب مسرحاً ملحمياً. هل تشعر بأنك قريب منه؟
} لا علاقة لي ببرتولت بريشت: كان تعليمياً. كان يرغب في تغيير العالم، وأنا أسخر من هذا الطموح. لا يمكننا تغيير العالم. يمكن فقط إزاحة الأشياء السيئة، إبعادها عن أنفسنا، قبل أن تعود لاحقاً. ما الذي تقوم به القوى السياسية اليوم؟ إنها تقدم الحجج كي تقتل. في البداية، نقول لأنفسنا إن الحجج صائبة وإن لدينا الحق في أن نقتل. فيما بعد نفكر، ونقول إن هذه الحجج قد تكون خاطئة وإن ذلك كله كان سيئاً. أجل، أعرف، أعبر بطريقة سيئة ولست واضحاً في كلامي. أضف إلى ذلك أنني أضيع دوماً حين أتحدث. أتوه أيضاً حين أكتب، إلا أن ذلك يبقى واضحاً لأن الكتابة هي هذا البعد الذي يملك وضوحاً متصاعداً. حين أتكلم، لا يمكنني الوصول إلى هذا الوضوح الثاني.
÷ حسناً، لنعد إلى ما كنت تقوله سابقاً: تعتبر نفسك كاتباً ملحمياً... بينما غالبية رواياتك، إن لم تكن كلها، تجري في بلاد تعرف السلام. كما أنك تكتب يوميات الناس العاديين. إننا بعيدون عن الألياذة، أين الملحمة في ذلك كله؟
} أكثر من هوميروس، إن مثالي في الأدب هي رواية القرون الوسطى، حيث الحرب غير مهيمنة. لماذا أعتبر هذه الروايات بمثابة ملاحم؟ في العمق إنها تروي قصصاً بسيطة جداً. في البداية، نجد أن البطل شاب وبريء. يرحل بحثاً عن الحب ويذهب بعيداً، بعيداً جداً. قبل أن يكتشف الحب الموجود إلى جانبه، الحاضر منذ البداية، والذي لم يكن يراه. بالنسبة إليّ، العالم المعاصر قريب إلى درجة لا تصدق من عالم روايات القرون الوسطى. أعتقد أن ذلك عائد لجغرافيتنا ولوسائل تنقلنا. اليوم، تستقل طائرة أو قطاراً فتصل للتو إلى شاطئ البحر أو إلى تخوم غابة. تجتازها، فتصل إلى جزيرة. الإنسان المعاصر، بتحركه، يشبه فارس العصر الوسيط. لا يخوض حرباً، بالمعنى العسكري للكلمة، لكن في كل مكان من هذه الأمكنة تنتظره براهين داخلية، تحديات، أسرار. ويبحث عن الحب. ليس هناك اليوم أكثر ملحمية من كتابة لا تتحدث عن شيء تقريباً وهي في الوقت عينه درامية إلى هذه الدرجة.
÷ تروي في إحدى أشهر رواياتك «المرأة العسراء» (1976) الوحدة الجديدة التي عرفتها الكثير من النساء أعقاب الحرية الجنسية التي عرفناها في السبعينيات، ولكنها تروي أيضاً عن الانعتاق، وعن تزايد عدد الطلاق.
} أسخر من علم الاجتماع ولا أؤمن بالتاريخ بصفته الفلسفية. لهذا ترعبني الطريقة التي تقدم فيها روايتي. بيد أنه يمكنني أن أخبرك كيف حدث ذلك. في السبعينيات، عشت وحيداً مع ابنتي البكر، التي كانت يومها صغيرة جداً. كنا نعيش في مبنى صغير، جديد، في ضاحية فرانكفورت، ليس بعيداً عن الجبل. كانت هناك العديد من النساء اللواتي يبقين وحيدات طيلة أيام الأسبوع. وبما أنني كنت أبقى في البيت، على اعتبار أنني كاتب، كنت أرى كيف تعيش تلك النسوة. عبر جميع نوافذ المبنى، كنت أراقبهن وهن يعددن الطعام، وحيدات. قلت سأكتب إذاً شيئاً عن هذه القضية. لم يكن لدي أي هم اجتماعي. كنت في قلب الحدث ورغبت في كتابته. أردت أن أكتب شيئاً عن امرأة، تقول ذات صباح لزوجها «اتركني». انطلاقاً من هنا، تبعت رحلتها صوب المجهول. بيد أنني أشعر بسخفي أيضاً، حين أقدم هذه الرواية بهذه الطريقة: لأني أشرح.
÷ ربما كانت شخصياتك تبحث عن الحب، بيد أنه نادر في كتبك. أو ربما نشعر بأن جداراً غير مرئي يفصل بين الكائنات، بأن كل كائن مستوحد بشكل عميق. يعيش الزوجان منفصلين تحت السقف ذاته. لا ينجح المراهقون والكبار في التخاطب مع بعضهم البعض. هل أنت كاتب الانحلال؟
} برأيي ثمة تمزق مأساوي بين الرجل والمرأة. وليس ذلك عائد إلى مسألة الطباع، ولا أتحدث هنا عن تجربتي الشخصية. إنه تمزق عالمي. تحت السماء، أرى المرأة، لكنها تبقى وحيدة بالرغم من كل جهودها، وحدانية وتائهة. ميلي إذاً أن تستولي عليّ الرحمة أكثر من الحب حين أشاهد النساء. لكن على المرأة أن تصنع من رحمتي حباً. بالنسبة إليّ الحب هو هذا الحيز ما بين «سلطة مجنحة» وبين الرحمة. تعرف جملة وردوورث «الطفل هو أب الرجل». يلائمني ذلك بشكل تام. هذا ما أشعر به.
÷ بيتر هندكه ما هي علاقتك بالحقيقة؟
} مشكلتي ليست الحقيقة، بل الرغبة في أن أكون واقعياً، بالمعنى الذي قاله سيزان: أريد تحقيق لوحات. الفنان بهذا المعنى يبحث عن تحقيق الحقيقة. بدأت الكتابة منذ خمسين سنة تقريباً واليوم ما زلت أشعر إني أبحث. انا مثل منقب. أقبل بأن أضيع. اريد أن اكون ضائعاً بنظر الناس، لكن ليس تائهاً في الكلمات.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد