فيليـب سـولرز.. حريـة المـرأة وحريـة اللغـة
«كانت الأم البرية تعتبر نفسها حاملاً من الأرواح، أما الأم اليونانية - اللاتينية فهي حامل من أي كان، والأم اليهودية حامل من الرب نفسه، الأم المسيحية، الدائمة العذرية، حامل من الروح القدس، أما الأم العصرية فهي حامل من والدها بواسطة الرجل، والأم العالمية حامل من البيولوجيا. وأخيراً نصل الى الرحم الاصطناعي». تظهر في أدب فيليب سولرز صورة الأم الكونية العابرة للعصور في رواية «مسافرون عبر الزمن» لتشير الى تطور وضع المرأة عبر القرون.إنه الحمل الروحاني الذي بات حسياً ومادياً شيئاً فشيئا. وبالفعل، يرصد الأديب والمفكر الفرنسي سولرز حركة التطور التدريجية عبر الزمن، وهو الذي شارك في ثورة أيار 1968، فطرح من خلال أدبه المسائل الإجتماعية المرتبطة بتلك الحقبة، متناولاً بشكل خاص وضع المرأة في سياق تلك التحولات الهامة. أسست تلك الثورة لعلاقة جديدة بين المرأة والرجل والمجتمع فكان لها تأثيرها الواضح على الأدب. ولكن صورة الأم الدينية والأسطورية ظلت راسخة في خيال الكاتب فعبّر عنها، وانطلق من تلك الصورة الى الأمومة في العصر الحديث الذي طغت عليه مختلف أشكال العلوم. هكذا، على الرغم من التحولات الكبرى التي عرفتها البشرية، ظلت الأمومة راسخةً في الخيال الجماعي.
أجمل ما يبرز في أدب سولرز هو جمالية النساء العصريات التي كتبها رجل بلغته المفككة، المبعثرة. يعرض فيليب سولرز حالة المرأة في الحداثة، تحررها، تمزّقها، شغفها، رغبتها. وهكذا، ترافق التحرر على المستوى الإجتماعي بتحرر على مستوى اللغة التي تفككت تدريجياً في أدب سولرز. وبالفعل، بدأ فيليب سولرز رحلته في عالم الأدب حين نشر أول نص له في مجلة «الكتابة» عام 1957. بلغ الشهرة سنة 1958 حين نشر أول رواية له «عزلة عجيبة». أُعجب النقاد كفرانسوا مورياك ولويس أراغون بهذين العملين الأدبيين ذوي الطابع الكلاسيكي. لكن سولرز لم يعتمد الأسلوب الكلاسيكي في الكتابة حين نشر عام 1961 رواية «المنتزه» التي حازت على جائزة ماديسيس. نشر عام 1963 بحثه «الوسيط». تخلّص سولرز من الأسلوب التقليدي للكتابة وبات يبحث عن أشكال أدبية جديدة تجلى فيها تأثير الثقافة الصينية، وقد ظهر ذلك في روايته «دراما» التي نشرت سنة 1965. تفككت البنية في كتاباته في رواية «قوانين» حيث راح يكتشف العلاقة باللغة، التاريخ واللاوعي. وبالفعل، تناول سولرز موضوع تفكيك اللغة وتدميرها في بحثه «الكتابة وتجربة الحدود» الذي تطرق فيه الى أدب دانتي، ساد، أرتو، لوتريامون ومالارمي: «أن يكون لكتابتنا هدف واحد وهو التدمير المستمر للقواعد والمعتقدات التي تخفي كتابة الرغبة». وهو يتطرق في هذا البحث الى عصرنا الحالي الذي رُفعت خلاله الممنوعات وتم الاعتراف بالرغبة. إنها ثقافة انتهاك المحرمات التي تتجلى بلا شك في الأدب: «عالم الخطاب هو طريقة كينونة الممنوعات». ولكن سولرز لا يكتفي بتناول عصرنا الحالي إنما هو يتطرق الى تاريخ الأدب وكأنه يحاول دراسة تفاعل الأدب مع مختلف الحقبات التاريخية، إذ أنه يبدأ كتابه بمقولة لانين: «تاريخ الفكر: تاريخ اللغة؟». وهو يعتبر أن للكتابة تأثيراً كبيراً على العالم، إذ أنه يقول أن الكتابة «لا تهدف الى تفسير هذا العالم إنما تغييره». وبشكل خاص المسرح: «يتوجه المسرح مباشرةً الى اللاوعي أما الحياة فتكبته».
وقد تناول سولرز علاقته باللغة في روايته «مسافرون عبر الزمن»: «أركز على كلمة «كلمة». أراها هناك، في خط التسديد. هي تتنفس، تنمو. أستهدفها، أريد لمسها وخرقها. كلمة». وهكذا، يضفي الكاتب على اللغة حياةً من خلال تشخيصها. فباتت الكلمة إنساناً يتنفس ويكبر. إنها حركة الكلمة الدائمة التي تتحول على غرار الإنسان. بات لها جسد ينمو فواكبت الإنسانية بتغيراتها. الكلمة المتحولة، المتبدلة باستمرار هي مرآة حال المرأة العصرية التي تغيّرت وتحولت. جسد نسائي وكلمة يتحدان في تحولهما الدائم. وهكذا، تبرز تلك اللغة النابضة بالحركة والحياة في رواية «نجمة العشاق»: «سوف تظهر كلمة جناح عدة مرات، وذلك طبيعي بما أننا نبحث عنه. هو مخفي في الأشجار، أصفر، أزرق، ذهبي، أرجواني، يجعلنا نفكر بإذن وسط الأغصان، لا نجده إلا بالصدفة، لا تأخذنا أية طريق إليه، هو هنا، بشكل مباغت، لمن يستحقه. لقد لمحته ثلاثة مرات، أي كثيراً، ومرة في الحلم. أن ندخل إليه يعني أن نختفي الى الأبد من هذا العالم الخاضع للوقت، الفصول، أن نكون أخيراً في قلب المُبهم». هكذا، تظهر الكلمة لتكون نقطة إنطلاق لعالم شاعري يلد من وجودها المتكرر. هي هنا لتفتح أبواب المعاني، الألوان والأحاسيس. ويقول الكاتب في هذه الرواية: «أخترع الفعل «سيلانسيه»، يجب أن نفعل ذلك» مشدداً بذلك على ضرورة إبتكار لغة جديدة من خلال الكتابة، لغة قد يرفض فيها الكاتب بعض الكلمات، إذ أنه يقول: «ما من أحد مجبر على القبول بكلمة «أرض»، «شمس»، «قمر»». إنه شكل من أشكال الثورة على الكلمة بهدف خلق تجدد في اللغة. يرفض الكاتب بعض المفردات ويخترع غيرها في سياق حركة لغوية تكتسب جمالية خاصة. إنها الحرية في الكتابة الى أقصى الحدود، إذ أن الكاتب يسمح لنفسه بالتلاعب باللغة نفسها ليؤسس لغته الأدبية الخاصة.
هكذا، يتناول الكاتب هذه العلاقة الجديدة بالكلمة، باللغة التي تنبض بشكل جديد في روايته «نساء». بالفعل، نلاحظ تفكك اللغة بامتياز في هذه الرواية حيث يتناول سولرز نتائج النسوية والتغييرات السياسية والفنية في التاريخ من خلال سرد مغامرات صحافي أميريكي: «سياسة وسياحة... يبدو أن ذلك قد صدمه... عبادة كبيرة للعدم غابة استوائية كثيفة... أسوار من الجماجم»، «أطفئ النور. أنظر الى خارج الشقق...عائلات صغيرة تشاهد الشاشات... ليلة مثل كل الليالي... تختفي الأنوار الواحدة تلوى الأخرى»، «ستقولون لي: ولد، إلخ. نعم طبعاً. هن تردن في كل مرة ولداً. الولد... بشكل أوبآخر، هن تتجهن دائماً نحو ذلك»، «وحي غريب... عش الأفعى، بيض». في هذه الرواية ذات اللغة المفككة والثائرة بامتياز، تبرز عدة شخصيات نسائية؛ وهن كايت الصحافية الفرنسية في المجال السياسي، سيد الإنكليزية التي تعيش في نيو-يورك، فلورا الفوضوية الإسبانية، بيرناديت المُرشدة النسوية، إيزيا الصينية ذات الأطباع الغريبة، لويز عازفة القيثار، وديبورا زوجة الكاتب. نلاحظ أن أولئك النساء هن من إنتماءات متعددة، لذا تشكل منهن إذاً شخصية المرأة الكونية في العصر الحديث.
الأمازونية
تظهر رجولية المرأة في هذا العمل الأدبي: «تصل كايت معتمرةً قبعة كاو-بوي غير مألوفة. تتصرف الآن وكأنها أمازونية». ومن المعروف أن الأمازونيات نساء محاربات. ويبدو أن كايت تحدد هويتها إستناداً لكونها إمرأة كما تشير العبارة: «نحن النساء». وهي تقول للراوي، الذي تعتبره العدو رقم 1: «ألا تفهمنا يا عزيزي، أنت لا تترك أي مكان للنساء». ما يثير اهتمامنا في هذه الكتابة هو أن القصة تُروى من وجهة نظر رجل وهو الصحافي الأميركي الذي يعيش في باريس. هذا الصحافي صديق للكاتب، ويتبلور سرد القصة من خلال حوار بينهما. يستشعر الرجل في هذه الرواية هشاشة المرأة التي تكمن تحت مظهرها الاستفزازي والعدائي: «نشعر أنها تفكر بذلك دون توقف، وهي مهيّجة، محبطة، مُروعة. مهووسة. هي تعاني، إنما عليها أن تخفي ذلك تحت مظهر هو دائماً حسب الأصول، فرح، مُصمّم...». ويبرز المنحى الشهواني في الرواية: «أرى الشقة الصغيرة من جديد... نهايات ما بعد الظهر... المطر على زجاج النوافذ... جسد إيزيا الراقص على السرير... أسمع تأوهاتها المباغتة في العتمة؛ أرى بريق أسنانها، شكل جسدها الشبيه بالعصفور... أشعر بفمها، بلسانها وبعصبية رقبتها». إنها شاعرية سولرز الشهوانية التي تنطلق من حرية جسد الإمرأة المعاصرة. يفتح ذلك الجسد المثير أبواب عالم مليء بالجمال والحيوية. تستند كتابة سولرز الى جمالية ذلك الجسد وحركته الحرة الرائعة. كذلك، يتطرق سولرز في هذه الرواية الى «الأم القضيبية» التي تلعب دورها الطبيعي في الأمومة، إنما تكتسب طابعاً رجولياً إذ أنها الأم المتحررة. ولكن ذلك التحرر قد يؤدي الى تفكك الأسرة كما يرد في المقتطف التالي: «نساء من دون أولاد... والدات من دون أزواج... أولاد من دون آباء... كلهن يبحثن عن أزواج وآباء، إنما يصرخن بالعكس». هكذا، تُطرح سلسلة من الأسئلة في هذا السياق: «عودة الله؟ الأمومة المتحولة؟ الأبوة الملقحة؟ العودة الى الزوجين؟». إنها الأمومة المتحررة التي غالباً ما ينتج عنها نوع من أنواع من الضياع.
مياه الرغبة
كما ترتبط صورة المرأة في أدب سولرز بالمياه، وهي عنصر الأمومة بامتياز، ويبرز ذلك في روايته «نجمة العشاق» حيث تبدو المرأة غارقةً في المياه: «فلنسبح. أرى أنفك في الأمواج الصغيرة السريعة. بما أن الطقس أكثر برودةً، ارتديت «تبانك» البنفسجي». كما تكتسب المياه طابعاً شهوانياً في هذه الرواية: «أستحم تحت الرشاش، أرقب نفسي بدقة من خلال المياه والصابون، أعبر بالإسفنجه على شعري، رأسي، كتفَيّ، ذراعيّ، جذعي، عضوي التناسلي، مؤخرتي، بطني، سرّتي، ردفيَّ، فخذيَّ، كلوتيَّ، ركبتيَّ، وتدي، ربلة ساقي، رجليَّ، شكل صغير تحت رشق الماء الساخن. الوجه، الظهر، من فوق، من تحت. أغتسل وأضاجع نفسي بعمق، والنتيجة هنا: لا شيء». تبرز العلاقة الشهوانية مع المياه في هذا المقتطف بشكل رائع، إذ أن الجسد يوصف بدقة وكأن الكاتب يريد أن يعرض احتكاك كلّ من أعضائه مع المياه. إنها مياه الأمومة ومياه الرغبة التي تلعب دور المرأة، فتنساب بخفة وسلاسة على جسد الرجل العاري لتغمره بلذة النشوة.
وهكذا، يعرض الكاتب جمالية الحرية الجنسية، إنما يتطرق كذلك الى المعاناة التي ترافقها. في هذا السياق، يتناول سولرز علاقة المرأة العصرية بجسدها في روايته «حياة إلهية» حين يقوم بوصف لودي: «بلا شك، هي تعاني على غرار كل الفتيات الجميلات من أعراض مرض مارلين. إذ أنها تشعر أنها بشعة، جسيمة وعفنة، ترغب في الانتحار، لا تحتمل أن يعتبرها أحدهم رائعة، مثيرة وفاتنة. هي تحتقر هذه اللحمة التي تكوّن جسدها وتتألق». إنها المرأة التي تنافس تلك الصورة الإعلامية الكاملة بجمالها المثير، فتكره نفسها ولا تقبل أن يُعجب أحدهم بجسدها إذ أنها مقتنعة بكونها ليست جميلة. قلما نرى على الشاشة التلفزيونية أو السينمائية نساء حقيقيات من ناحية الشكل، إنهن بمعظمهن ذوات أجساد تثير إعجاب المشاهدين وتدهشهم. تضغط تلك الصورة الإصطناعية غير الواقعية نفسياً على النساء العاديات وتجعلهنّ يكرهن أنفسهن ولا يعترفن بقيمة جمال أجسادهن. وبالفعل، تكره لودي جسدها ونفسها لأنها لا تشعر أنها تمتع بذلك الجمال الفاتن والكامل. كما تطرق سولرز للمرأة في روايته «عشق ثابت» التي نشرت عام 2000: «إمرأة تتحملك وأنت نائم لا تكتفي بحبك، إنما تسامحك على وجودك». وقد أضاف في تلك الرواية: «لا يمكننا أن نأخذ على محمل الجد من لا يعرف أن يضحك»، «يبلغ كل المغرمين الثانية عشر من العمر، مما يثير غضب الراشدين».
في هذا السياق، تناول سولرز السعادة التي يعيشها العشاق بشكل بسيط وواقعي، وهو الذي قال: «إن الكاتب، على عكس مما يُرددون كل يوم، لا يهتم بأمور الخير والشر. هو يصف، يعرض، ويفكر. وذلك يكفي». برز ذلك في «كنز الحب» الذي نشر عام 2011: «إذاً نعيش أنا ومينا في فونيز على الحياد. لا نخرج، لا نرى أحداً، الماء، الكتب، العصافير، الأشجار، البواخر، الأجراس، السكوت، الموسيقى، إتفقنا على كل ذلك. لا يكفينا الوقت، فما زلنا بحاجة الى المزيد، المزيد. في ساعات الليل المتأخرة، نزهة طويلة نحو المرفأ البحري، ومن ثم نعود، عندما ينام الجميع. أستيقظ باكراً، الشمس الى يساري، وها هو الوقت يمر، المزيد والمزيد من الوقت. نسكت طويلاً، يثبت ذلك أننا متفاهمان. المغرمون وحيدون في هذا العالم لأن العالم مصنوع لهم ومن قِبلهم». بفضل جمالية أسلوبه البسيط، يدخلنا سوليرز في عالم الحب الذي يتجلى سحره من خلال مجموعة من الأغراض. إنها عناصر الطبيعة التي يعرضها الكاتب الواحدة تلو الأخرى، ومن ثم يغرق في تفكيره حول مرور الوقت والمشاعر التي تنمو في أجواء رومنسية مميزة. بالفعل، ينجح الكاتب في وصف الحب في الحياة اليومية من دون أي تضخيم، من خلال تناول تفاعله الحقيقي مع العالم الذي يحيط به.
السياسة والفن
كذلك، تطرق هذا الكاتب الى مواضيع غير مرتبطة بالمرأة والحب على غرار السياسة والفن. برزت السياسة بوضوح في كتاباته، وهو الذي شدد على الترابط بين الكتابة والسياسة في «نظرية موحدة»: «كل كتابة، إن شئنا أو أبينا، هي سياسية»، «الكتابة هي استمرارية للسياسة بسبل أخرى». على المستوى السياسي، كان سولرز ملتزماً بالماوية. وقد تتطرق الى ماو تساتونغ في روايته «حياة إلهية»: «خلال صيف 1917، شاب صيني في الرابعة والعشرون من عمره، في وسط تخبط وعنف لامحدود غرقت فيهما البلاد، وهو يبحث عن طريقه. يتعاطف مع الفوضويين، إنما أفكاره مرتكزة على الفكر الشاعري، التاوي، المناهض الكونفوشيوسية الكلاسيكية: العالم في حال تغير مستمر، يولد عالم، ويموت عالم آخر، لذلك ليست الولادة سفر التكوين، والموت ليست تدميراً». نلاحظ إذاً أن فكرة التحول بارزة في كتابات سولرز، حتى في السياسة.
برز الفن في أدب سولرز وأبحاثه، خاصةً من خلال موضوع الصراع بين الفرد الخلاق الساعي وراء السعادة وبين مجتمع غير منتج، مزيف وقمعي. كما أنه تناول هذا الموضوع في أعماله النقدية حيث دافع عن نظرة لتاريخ الفن، يعتبر فيها الفنانين إستثناءاً في المجتمع والإبداع الفني إختباراً للحدود. كما ألف سولرز العديد من الأبحاث تتجلى من خلالها نظرته لتاريخ الفن المبنية على الدفاع عن الفرد. يتناول الكاتب الأدب، الموسيقى والفنون التي يدرسها مرتكزاً على الفلسفة، التاريخ، علم النفس واللاهوت. ويظهر الفن في رواية «كنز الحب» في سياق عودة الى حقبات قديمة في تاريخ البشرية: «كان رجال العصر الحجري القديم يغنون في طقوسهم. أُنجزت الرسومات في المغاور في أماكن لا يمكن بلوغها تقريباً، بعض الغرف كانت تقع على بعد بعض الكيلومترات إلى الداخل. كانت هذه الرسومات المليئة بالحيوية تشكل صلة شعائرية بين العالم المادي والقوى غير المرئية. يستشعر بها مسافر الزمن إذا كان مُلهماً». يكتسب الفن تلك القدرة على الخلود عبر العصور، ويظهر ذلك في إحدى مقتطفات رواية «نجمة العشاق» حيث تتمازج الأمكنة والأزمنة: «العالم هو مسرح، يمكننا أن نرى ذلك في كل مكان وفي نفس الوقت. ليس لأنني هنا فذلك يعني أنني لست هناك. الماضي القديم قريب جداً»، «شكسبير يبالغ. هو لا يكتفي بأن يجعل إمرأة خبيرة بالفسق المحترف تتلو مديحا لعشيقها المنتحر بجسدها، صوتها، شجاعتها، بقدراتها المثيرة («كانت ملذاته تشبه دلفينات تثقب المحيط بظهورها»)، بسخائها («كانت الجزر تتساقط من جيــوبه»)، إنما حوّل تدمير كليوبترا لنفــسها ولخادمــاتها الى طقس عربدة مُقنـع بالكـاد. اللوحة تعبر الزمن».
وهكذا، نستشعر حركة الوقت في أدب سولرز وتفاعلها مع العناصر المختلفة؛ المرأة، اللغة والفن. الزمن يعبر، وكل شيء يتغير إنما يبقى هو نفسه. المرأة ما زالت أماً، واللغة ما زالت وسيلة للتعبير، والفن خالد، إنما التجدد يحول كل هذه العناصر ويغيرها ضمن حركته المستمرة. نلاحظ في هذا السياق أن روايته «نساء» تبدأ بعبارة تشير الى مرور الوقت: «منذ بداية الأزمنة... يبدو لي أن أحدهم قد تجرأ... أبحث، أراقب، اسمع، أفتح الكتب، أقرأ، وأقرأ من جديد... ولكن لا... ليس فعلاً... لا أحد يتكلم عن ذلك... ليس بشكل علني على كل حال...كلمات مغطاة، ضباب، غيوم، إيحاءات...منذ كل ذلك الوقت...كم؟ ألفا سنة؟ ستة آلاف سنة؟». وعبّر الكاتب عن رغبة في تخطي الوقت في روايته «مسافرون عبر الزمن»: «البارحة، كان ذلك منذ عشرون سنة، وفي الغد سنكون بعد عشرين سنة، الآن هو هرم من أربعين سنة. بعد أربعين سنة سنكون اليوم، حتى لو كنت غائباً خلال ساعات وساعات جدارية. أخرج من الساعات. أبرهن». وقد ظهرت تلك العلاقة بالوقت في بحث سولرز «خطاب كامل»، الذي نشر عام 2010، حيث يبلور فكر الكاتب حول مستقبل البشرية. ولكن في هذا الكتاب لا تظهر رؤية لنهاية العالم، إنما بداية نهضة جديدة. وفي رواية سولرز «رواية حقيقية ذكريات» التي نشرت عام 2007، شكلت حياة الكاتب مصدر وحي لكاتاباته. إذ أنه تناول مشاهير من عالم الأدب، الفلسفة والسياسة برزوا في زمنه، كما أنه تناول مغامراته الشخصية. حقق سولرز نجاحاً كبيراً وحاز على عدة جوائز منه جائزة فينيون (1958)، جائزة سان - سيمون (2008) وجائزة دومانيل (2012).
منيرة أبي زيد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد